صفحات الرأي

الديكتاتورية الدينية … أوروبياً

 

خالد غزال

يقدم الكاتب النمسوي ستيفان زفايغ في كتابه «عنف الديكتاتورية» (ترجمة فارس يواكيم، «دار الفرات»)، صوراً عن ممارسات الحاكم عندما يصل الى السلطة، سواء كان هذا الحاكم مدنياً أتى بالطرق الديموقراطية، أم رجل دين اعتبر ان سلطته تستند الى الماوراء. يقارن بين مرحلتين في التاريخ: الاولى تعود الى خمسة قرون خلت بعد فترة الاصلاح الديني في اوروبا والصراع الذي نشب بين الكاثوليك والبروتستانت وما تبعهما من مجازر وحروب اهلية وتصفيات جسدية، أما المرحلة الثانية فتعود الى القرن العشرين، زمن صعود النازية في المانيا، التي أتت بوسيلة ديموقراطية هي الانتخابات، لكنها مارست أبشع انواع العنف في التاريخ. الخلاصة التي ينتهي اليها الكاتب عبر سرد وقائع محددة، والمقارنة بين اساليب الحكم التي اتبعت، ان التاريخ يعيد نفسه، وان الديكتاتورية هي الديكتاتورية في كل زمان ومكان.

يسلط زفايغ الضوء على حكم أحد رواد الاصلاح الديني البروتستانتي جان كالفن الذي تعرض لملاحقة واضطهاد من اخصامه الدينيين في سويسرا، ومن محاكم التفتيش الكاثوليكية، فهرب الى فرنسا، حيث بدأ حياته المهنية قسيساً، ثم ما لبث ان أمسك بزمام الامور واضحى حاكماً مطلق الصلاحية. مارس سلطة اعتمدت على القهر والاذلال والتصفيات الجسدية، سجن الناس في قالب حديدي، بحيث لا يحق للمرء ان يفكر ويتكلم ويمارس حياة سياسية ومدنية من دون ان تكون متوافقة مع تعليمات هذا الكاهن. على رغم ان كالفن سبق له ان شهد ما تمارسه محاكم التفتيش من عنف وديكتاتورية، وهو ما كان يجب ان يشكل له نقيضاً في ممارسته للسلطة، الا انه مارس حكماً تفوّق فيه على محاكم التفتيش وجرائمها تجاه المخالفين لها دينياً.

يسرد الكتاب سيرة الكاتب كاستيليو الذي رافق حكم كالفن وكان من مؤيديه واتباعه عندما أتى الى فرنسا وتولى السلطة في أحد مدنها. بدأ التناقض واضحاً بين شخصيتين حول مختلف الأمور الدينية والسياسية والمدنية، وتعمّق التناقض الى خلاف صريح بعدما شهد كاستيليو على نمط السلطة التي يمارسها كالفن والتي لا تتوافق في حدها الادنى مع التعاليم الدينية القائلة بالتسامح والمحبة والرحمة. افترق الرجلان، وقرر كاستيليو ان يخوض معركته ضد كالفن، وكشف طبيعة ممارساته واستخدامه السيّء للدين في تنفيذ قرارته، وذلك عبر اصدار كتاب «كاستيليو ضد كالفن، او ضمير ضد العنف». تعرض كاستيليو الى عنف كالفن واضطهاده، وعانى هو وعائلته الكثير منه، لكنه اصر على المواجهة، وعلى كشف أساليب كالفن في الحكم، مسلطاً الضوء على ما يراه من أسبابب تجعل الانسان يتحول الى وحش عندما يصبح في السلطة. هكذا قدم كاستيليو أبلغ الأوصاف في تحليل نفسي وسياسي للديكتاتور والديكتاتورية.

«البرغشة ضد الفيل» عبارة لكاستيليو يختصر فيها طبيعة المعركة التي قرر ان يخوضها ضد كالفن، حيث لا توازن في القوى بين الطرفين، وفي مواجهة يقودها رجل بمفرده لا يملك سلاحاً، مقابل حاكم يملك عشرات الآلاف من الاتباع مزودين بآلة عسكرية. كان كالفن نجح في تحويل مواطنيه الاحرارا، الى «آلة ضخمة طوع يديه مهمتها ان تستأصل كل استقلالية وان تصادر حرية التفكير لمصلحة عقيدة وحيدة، عقيدته. مذهب كالفن اصبح القانون. كل من يجروء على إبداء أدنى اعتراض مصيره النفي او عذاب السجن او الحرق، وهي احكام غير قابلة للنقاش». كان على كاستيليو الوقوقف ضد هذا الحاكم وهو الكاتب الفقير المدقع، ومن دون اصدقاء يقفون الى جانبه، حين أصر ان يرفع صوته عالياً ناطقاً باسم المحرومبن والمضطهدين. وعلى رغم ان كاستيليو كان واثقاً من عجزه عن المواجهة، الا انه قرر خوض المعركة الى النهاية ضد كالفن وسلطته.

ترمز المعركة التي خاضها كاستيليو الى جملة امور تتجاوز القضايا اللاهوتية او ذلك الصراع الذي نشب بين القوى السياسية من ليبراليين ومحافظين، انها تطرح قضايا التسامح واللاتسامح، الحرية ضد الوصاية، الانسانية ضد التعصب، والفردية ضد الآلية. لعل أبرز الخلاصات التي اعطتها سلطة كالفن تتصل بتحوّل «الثائرين» ضد الطغيان عندما تصبح السلطة في ايديهم، فهنا «الطامة الكبرى حين ينفضح امر اولئك المثاليين والطوباويين فوراً بعد انتصارهم، اذ غالباً ما يبدون أسوأ خونة الروح. ذلك ان النصر يقود الى استغلال النصر والسلطة الى السلطة المطلقة، وبدلاً من ان يقنع اصحابها بما ربحوا من انضمام الاعداد الغفيرة من الناس اليهم، ينقاد السلطويون الى اغراء تحويل الغالبية الى الإجماع التام والى محاولة فرض عقيدتهم على الذين لا ينتمون الى أي من الاحزاب». هكذا يريد اصحاب السلطة تحويل العقول المستقلة الى أتباع لا تتقن سوى المديح، وكل مخالف لرأيهم هو مجرم في حق الدولة.

يخلص كاستيليو برأي ان الانسان يصبح في حرب ضد الانسانية عندما يفقد الثقة في القوة الكامنة الملازمة لحقيقته ويلجأ الى العنف الوحشي. مهما كانت طبيعة الفكرة التي يطرحها واتصافها بالمثالية، فعندما يتم فرضها بالقوة، تفتقد هذه المثالية وتغدو وحشية. «حتى أنقى الحقائق وأطهرها، حين يتم فرضها بالعنف، تتحول الى خطيئة ضد الذهن».

يمثل كتاب ستيفان زفايغ صرخة ضد العنف والديكتاتورية الملازمة له، وهو دعوة مقابلة لإحلال الديموقراطية والإعتراف بالآخر، ونشر روح التسامح على أنقاض وحشية العنف الذي لا يزال السمة المهيمنة على المجتمعات البشرية، منذ بدء التاريخ وحتى الزمن الراهن.

صورة الديكتاتور كما يرسمها ستيفان زفايغ

كل مصادر السلطة في المدينة والدولة خضع لسلطانه، الإدارات بكاملها والتراخيص كافة: مجلس المدينة، المجمع الديني، المحاكم والجامعة، الشؤون المالية والأخلاقية، القساوسة، المدارس، الشرطة، السجون، الكلمة المكتوبة والمحكية بل والمهموسة سراً. مذهب كالفن أصبح القانون. كل من يجرؤ على إبداء أدنى اعتراض مصيره النفي أو عذاب السجن أو الحرق، وهي أحكام غير قابلة للنقاش كما في كل ديكتاتورية.

المدن السويسرية الاتحادية والبروتستانتية العالمية اختارت ذلك اللاهوتي المشرع الفذ (كالفن) قائداً روحياً، والأمراء تسابقوا على كسب حظوة ذلك القائد الديني الذي بنى أقوى تنظيم للمسيحية في أوروبا إلى جانب الكنيسة الكاثوليكية (…)

القضية التي طرحت تاريخيا، لها مسميات كثيرة، واللاهوتية (الفقهية والكلامية) ليست غير قناع عرضي موقت. الحقيقة كامنة في الصراع «ما بين التسامح واللاتسامح، الحرية ضد الوصاية، الإنسانية ضد التعصب، الفردية ضد الآلية… فأيهما أهم، الإنساني أم السياسي، الأخلاقي أم المنطقي، الفردي أم الجماعي؟».

«هذه الحدود الفاصلة الضرورية دائماً بين الحرية والسلطة، لم يبق شعب ما، وزمان ما، ومفكرون ما، في منأى عنها. لأن الحرية غير ممكنة من دون السلطة (وإلا حلّت الفوضى) والسلطة غير ممكنة من دون الحرية (وإلا ساد الطغيان)… راسخة لا تمحى، تبقى تلك الأوهام العتيقة بشأن إمكانية العثور على نظام ديني أو قومي أو اجتماعي يهب البشر أجمعين السلام والنظام إلى الأبد بالتساوي بينهم… ودائماً، حين تفقد مثاليات جيل ما وهجها وألوانها، ما إن ينهض رجل ذو موهبة في الإيحاء ويعلن بطريقة حاسمة أنه، وأنه وحده، وجد الصيغة الجديدة او ابتكرها، حتى تتدفق عليه ثقة الآلاف، كما التيار، لوصفه مخلص الشعب ومخلص العالم. ومن القاعدة الثابتة ان كل ايديولوجيا جديدة، تخلق مثالية جديدة. ذلك ان الذي يهدي البشر وهما جديداً بالوحدة والطهارة، يبدأ في ان يستخلص منهم، القوى الأكثر قداسة: الحماسة وروح التضحية. يبدو الملايين كما لو أنهم مسحورون، وراضخون للانجذاب، للاستثمار، للاغتصاب الفكري. وكلما الزمهم ذلك الداعية (زعيم، قائد، ملك، فقيه، إمام، الخ) ناثر الوعود بالواجبات، تمادوا في الاستلاب. الحرية، التي كانت حتى الأمس أسمى معاني سعادتهم، يتخلون عنها بكامل الرضا ويستسلمون للانقياد من دون أدنى مقاومة»… وتتولد لدى الجموع «نشوة التضامن التي تجعل الشعوب تخضع بمحض ارادتها للعبودية، بل، وتمتدح السوط الذي يضربها».

ثمة تطلع في ذهن كل إنسان مفكر، يجعله يتصور مراراً وجود فكرة ما، ان تلك القوة الأكثر لا مادية (دينية) في الكون، هي التي تنجز معجزة الايحاء… وما أسهل ان يقع المرء ضحية الإغراء، فما يلبث ان يعجب بغواة العالم ويمجدهم، لأنهم ينجحون دائماً بفضل الروح في أن يحدثوا تغييرا في المادة الصمّاء، لكن الطامة الكبرى تأتي لاحقاً، حين ينفضح أمر أولئك المثاليين والطوباويين فوراً بعد انتصارهم، إذ غالباً ما يبدون أسوأ خونة الروح. ذلك ان النصر يقود إلى استغلال النصر، والسلطة تقود إلى السلطة المطلقة… فينقاد السلطويون إلى اغراء تحويل الأغلبية إلى الإجماع التام وإلى محاولة فرض عقيدتهم على الذين لا ينتمون إلى أي من الأحزاب (والعقائد). لا يكتفون بما لديهم من أزلام وممالقين وصنائع ومن التابعين الأبديين لأي سلطة، بل يريدون ان يتحول الاحرار (عقول نادرة مستقلة) إلى أتباع ومدّاحين… ويسمى كل صاحب رأي معارض بأنه مجرم في حق الدولة. وفي مختلف الأزمنة استعيدت دائما تلك اللعنة المصاحبة لكل الايديولوجيات الدينية والسياسية، إذ تغرق في الطغيان فور ما تبدأ في تطبيق الديكتاتورية. وعندما يفقد الإنسان الثقة في القوة الكامنة الملازمة لحقيقته ويلجأ إلى العنف الوحشي، فهو بذلك يعلن الحرب ضد الحرية الإنسانية… (حينها) لا تعود الفكرة مثالية، بل تغدو وحشية. حتى أنقى الحقائق وأطهرها، حين يتم فرضها بالعنف، تتحول إلى خطيئة ضد الذهن…».

«لم يفلح أحد حتى الآن، في أن يجبر البشرية في عموم الأرض بطريقة ديكتاتورية، على تبني دين واحد أو فلسفة واحدة أو مفهوم كوني واحد. ولن يفلح غداً، إذ إن الذهن سيعرف كيف يقاوم كل تبعية، وسيرفض دائما أن يفكر وفق صيغ مكتوبة سلفاً، أو أن ينحط أو يهان أو يقزّم أو يدجّن.

كم يمتعض الإنسان الرزين ذو الانفتاح الكوني على فظاعة اللاإنسانية الصادرة عن «محسِّني الإنسانية» الذين اقتحموا عالمه المؤمن بالجمال… كم يتقزم ذو الانفتاح الكوني إلى أعمق الأعماق من أمثال كالفن ومن لف لفه (وبالإمكان وضع لائحة طويلة بأسماء قادة طوباويين سفّاحين، قديما وحديثا، حظي العرب بأسماء لامعة منهم وفظيعة في آن، أكانوا قادة دينيين أم أيديولوجيين أم قوميين أم عسكريين). هؤلاء يريدون اغتيال الجمال في الأرض وتحويل الكون إلى حلقة دراسية أخلاقية.

«ليس عند التاريخ وقت ليكون عادلاً. انه يحصي، ببرود المؤرخين، النجاحات فقط. ونادراً ما يقيسها بمعايير أخلاقية. انه يميل صوب المنتصرين فقط ويدع الخاسرين في الظل. لا يرى حرجاً في ان يواري «الجنود المجهولين» في قبر النسيان الفادح، من دون شاهد أو من دون اكليل يمتدح تضحياتهم غير المجدية المفقودة… ان الابطال الحقيقيين للإنسانية، ليسوا الذين شيدوا ممالكهم على ملايين القبور وملايين المهشمين، وإنما تحديداً، أولئك الذين سقطوا وهم عزل، في مواجهة العنف».

من كتاب صدر عن «الفرات» ـ بيروت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى