الديمقراطية تَتْعَب/ علي أنوزلا
مع اندلاع ثورات “الربيع العربي” عام 2011، جرى الحديث عن الموجة الرابعة من الديمقراطية التي ستجتاح العالم، على اعتبار أن ثلاث موجات كبيرة ورئيسية من الديمقراطية عرفتها البشرية. انطلقت الأولى مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدأت الموجة التي تلتها بعد انتهاء الحرب الباردة نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ويؤرخ للثالثة مع بداية استيعاب الديمقراطية طريقاً للتنمية والإصلاح السياسي في نهاية عقد التسعينيات. لذلك، كان يعتقد أن “ثورات الشعوب” في المنطقة العربية سيكون بداية الموجة الرابعة من الديمقراطية ونهاية الاستبداد. لكن، بعد أربع سنوات من اندلاع ثورات “الربيع العربي”، وعلى ضوء ما يشهده العالم من تراجع في الحريات وتراجعات ديمقراطية، يسود، اليوم، داخل الأوساط الأكاديمية الرفيعة حديث عن نكوص ديمقراطي على المستوى العالمي.
ففي عدد شهر يناير/كانون الثاني 2015، خصصت المجلة المتخصصة “جورنال أوف ديموكراسي” موضوعها الرئيسي للإجابة عن السؤال: هل شهد العالم، أخيراً، فترة تراجع أو ركود ديمقراطى؟ وفي فبراير/شباط الماضي، كتب الصحافي الأميركي، توماس فريدمان، في مقاله في “نيويورك تايمز”، بعنوان “الديمقراطية في حالة ركود”، إن عدد الديمقراطيات في العالم يراوح مكانه منذ عام 2006.
وللعام التاسع على التوالي، تشير التقارير السنوية لمنظمة “فريدوم هاوس” الأميركية إلى تراجع المد الديمقراطي في العالم. فقد أظهر أحدث تقرير صدر عنها عام 2015 انخفاضاً عاماً للحريات وتراجعا للديمقراطيات في العالم، في مقابل تصاعد الهجمات الإرهابية وعودة التسلط داخل بعض الأنظمة الديمقراطية وتقوية الاستبداد. وتحدث التقرير عن تراجعات كبيرة شهدتها دولة مثل أوكرانيا، بسبب التدخل الروسي في شؤونها الداخلية الذي تحول إلى غزو وحرب ما زالت مشتعلة. وتحدث عن الانتكاسة الكبيرة للمكاسب الهشة للديمقراطية في مصر، إثر الانقلاب العسكري. كما يشير التقرير إلى عودة التسلط إلى تركيا، من خلال تكثيف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حملة ضد حرية الصحافة والمجتمع المدني، وسعي حزبه، العدالة والتنمية، إلى مراقبة القضاء، والسيطرة على الإدارة وإخضاع المؤسسة العسكرية، سيراً على نهج الديمقراطية الروسية في عهد فلاديمير بوتين. ويشير التقرير إلى تضخم مركزية السلطة في الصين التي لم تكن تعير قط أي احترام للمعايير الديمقراطية، لكن المنحى العام العالمي لتراجع الديمقراطية شجع النظام فيها على مزيد من التسلط.
وقبل ذلك، حذر التقرير الذي تصدره مجلة “ذي إيكونيميست” البريطانية من أن إجهاض الديمقراطية في المنطقة العربية بعد “الربيع العربي” سيؤدي إلى عودة الديكتاتورية. وورد في التقرير الذي رصد حالة الديمقراطية في المنطقة العربية عام 2014 أن تونس هي الدولة الوحيدة عربياً التي تتبنى نموذجاً ديمقراطياً، فيما تتبنى لبنان نظاماً شبه ديمقراطي، وأن الجزائر والمغرب وموريتانيا والسودان مجرد “ديمقراطيات مزيفة”. في حين تصدر الجيش المشهد في مصر، بينما يعيش العراق وسورية في حرب أهلية ومواجهة مفتوحة مع تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي لا يعترف بشيء اسمه الديمقراطية. ووصف التقرير التجربتين، اليمنية والليبية، بالفاشلتين، وتسيران نحو الانهيار التام للدولة.
ومن المحللين من يذهب إلى أن هذا النكوص الديمقراطي العالمي مس حتى بعض الدول الديمقراطية، ومن دول غربية مفترض أنها راسخة ديمقراطيا، وذلك في صعود أحزاب اليمين فيها، أو تراجع منسوب الحريات داخل مجتمعاتها، بسبب التهديدات الإرهابية التي فرضت على أنظمتها اتخاذ إجراءات تقيد الحريات أو تراقبها.
“ما نشهده، اليوم، هو حالة من التعب التي أصابت الديمقراطية.. نتمنى لها الشفاء العاجل”
وعموماً، تشير المؤشرات التي يرصدها الخبراء والأكاديميون، اليوم، إلى تراجع على مستوى العالم في مجال الديمقراطية، وهو ما يظهر أن المكاسب التي تحققت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد ثورات “الربيع العربي” هشة للغاية، والنتيجة حالة الفوضى التي أعقبت ذلك، ما أدى إلى عودة السلطوية وتقوية الاستبداد، مع مخاطر الانزلاق نحو خيارين، أسوأهما مُرٌّ، السقوط في أتون الحرب الأهلية أو عودة الأنظمة الشمولية. وينذر هذا الإجماع على أن العالم دخل في مرحلة “ركود ديمقراطي” بعودة الاستبداد من جديد، وانعدام الثقة في الديمقراطية، كأحسن ما أبدعته البشرية من نماذج لإدارة المجتمعات بطريقة سلمية.
وبالعودة إلى ما نشرته مجلة “جورنال أوف ديموكراسي”، والتي حاولت مقاربة الموضوع بموضوعية، عندما أفسحت المجال لرأيين مخالفين، واحد يتحدث عن التراجع والركود الديمقراطي في العالم، وثان يصف هذا التراجع بأنه مجرد أسطورة، لا يجب الثقة فيها. صاحبا الرأي الأخير هما الكاتبان ستيفن ليفيتسكي ولوكان واي، وهما يعتقدان أن هناك رؤية غير صائبة، وغير واقعية، بشأن وجود حالة من التراجع الديمقراطي عالمياً. وفي مقابلهما يقف الكاتب لاري دايموند، صاحب نظرية “التراجع الديمقراطي” الذي يحذر من العودة التدريجية نحو الاستبداد. لكن، عندما نقرأ خلاصة أصحاب الرأيين، نجدهما يتفقان على الخلاصة نفسها، والتي مفادها بأن الصورة ليست قاتمة بالكامل، وأن موجة الديمقراطية تبقى عصية عن التراجع، وأن النظام الديمقراطي يحمل، في طياته، عوامل مقاومة انهياره، عكس الأنظمة الديكتاتورية التي تتآكل من الداخل.
وحتى بالنسبة لكاتب متشائم، مثل لاري دايموند، فإن عوامل مثل التقدم الاقتصادي، والتنمية، والعولمة، وثورة المعلومات، تعد وسائل مهمة لتقويض كل أشكال التسلط، ولتمكين الشعوب والأفراد من تقرير مصيرها بنفسها. فما نشهده، اليوم، هو حالة من التعب التي أصابت الديمقراطية.. نتمنى لها الشفاء العاجل.
العربي الجديد