الدَّراما العربيّة قبلَ الثّورات وبعدها/ د. مازن اكثم سليمان
شكَّلَت الدراما العربية واجهة الحياة الثقافية العربية في لحظات زمنية متعددة من جانب أوّل، وديكوراً وُظِّفَ إلى حدّ كبير من جانب السلطات المُختلفة من جانب ثانٍ. وهي المسألة التي أدَّتْ في مراحل كثيرة إلى اختزال مُريع للمشهد الثقافي الذي يعجُّ بفنون وآداب وإبداعات مُتنوِّعة بتظهير الدراما وصُنّاعها بوصفهم مُمثلي الثقافة في بلدانهم. ففي الحالة السورية مثلاً تصدَّرتْ صناعة الدراما منذ أواسط تسعينات القرن العشرين المشهد العام، ولا سيما بعدَ الفورة الإنتاجية التي ترافقت مع خروج الكاميرا للمرّة الأولى عربياً من داخل الاستوديوات المُغلقة، واعتماد تقنيات سينمائية لتكون هذه التجربة العريضة ورشة فنية وجمالية تجريبية كانت الأكبر من نوعها في سورية. واستطاعَتْ أنْ تتكئ على مخزون ثقافي ثري كانَ قد تراكَمَ طوال عُقود، وعلى حساسية درامية أسَّسَ لها بعض الروّاد الكبار الذين نضجتْ تجاربهم مع الزمن (أعمال هيثم حقي مثلاً). فضلاً عن هجرة أعداد كبيرة من كُتّاب القصة والروائيين والمسرحيين والصحافيين وغيرهم إلى العمل في مضمارها، لدوافع مادّيّة أو معنوية (شهرة) لا تحقِّقها الحقول الثقافية الأخرى التي لم تلقَ ذلك الحجم من التَّبنِّي الذي مثَّلته شركات إنتاج وثيقة الصلات بالإرادة السياسية.
وفي مصر كانَتْ قد بلَغَتْ الدراما أوجَها مع أعمال مخرجين وكتّاب مُهمِّين أمثال محمد فاضل وأسامة أنور عكاشة، ثُمَّ تعرَّضَتْ لانتكاسات كبيرة، قبلَ أنْ تعود إلى التَّسارُع الإنتاجيّ على الأقلّ من حيث الكمّ مبدئيّاً.
إنَّ الغبن المرير الذي شعَرَ به بعض المثقفين المُطالِبينَ بأنْ تحظى أعمالهم الإبداعية برعاية لا تقلّ عمّا تحصل عليه الدراما، وترديدهم المُستمرّ بأنه تمَّ إهمالهم _وهُمْ حُماة الثقافة الحقيقيون_ لصالح منح نجوم الدراما حقّ تمثيل الرأي العام، كانَ لهُ دور انفعالي _ربَّما_ في التشكيك بأصالة الأعمال الدرامية المطروحة. ويبدو على الرغم من الحساسيات المُشار إليها هُنا، أنَّ كثيراً من المآخذ والانتقادات التي وُجِّهَتْ إلى الدراما العربية لا تخلو من الصِّحّة، وأرى في هذا الإطار أنَّ هذه الدراما قد وقعتْ من حيث المبدأ في إشكالية تخليق صور وكليشيهات نمطية لا تغوص إلّا فيما ندر في عُمق الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما هي أسئلة كيانية مُلحَّة ينبغي للفنّ أن يتصدَّى لها، من دون أنْ يفقدَ سماته الإبداعية وعناصر الجذب والمتعة والتسلية، فهذه العناصر ليستْ متناقضة مع مسألة الخوض في المسكوت عنه، وسبر مَعالِم غير المُفكَّر فيه، فالأعمال الدراميّة تحديداً لا تخسرُ ماهيتها إذا تجاوَزَتْ حدود البقاء عند مستوى الموجودات _تحت_ اليد أداتياً (بلغة الفلسفة)؛ إذ لطالما قلَبَتْ هذه الأعمال المُعادَلة، فبدلاً من أنْ تكون هذه الموجودات مُنطَلَقاً فنياً لنزع الألفة، تمَّ تزييف هذا النزع لصالح ترسيخ أساليب وجود الموجودات بوصفها أساليب ثابتة ويقينيّة ومُستقرّة.
ما من شكّ أنَّ الفنّ الذي لا يحتفي بالمُختلِف والهامشي والمَجهول فنٌّ قاصرٌ يُفرِغ مقولة (الفن للفن) من محتواها الأصيل الذي لا يتفاصَل مع فكرة (الالتزام الفني) بوصفه نزوعاً يوتوبياً يفكِّك مركزية الإيديولوجيات السائدة والمُسَبَّقة والتي تتحكَّم بالوعي الوجودي العام، وهذه واحدة من أهمّ كمائن الدراما العربية التي تمَّ تسطيح دورها عبر تبسيط تعريفها القائل: إنَّها فعل انعكاس للمستوى الوقائعي؛ فهذه الدراما ادَّعتْ دائماً مُطابَقة العالم المَعيش، لكنَّها كانت في جذورها العميقة تُطابِق نمطاً ضيقاً من النقص الوجودي المَعيش، أو بمعنىً أوضح كانت تمارس اللعب على (قوّة المُتخيَّل) بوصفه لعباً لا يتأسَّسُ على مُحاكاة ما يحلم الناس بتحقيقه أو بلوغه عبر فطرتهم الإنسانية المائلة إلى الجَمال والخير والعدالة والحرية؛ إنَّما تأسَّسَ هذا اللعب على توجيه المُحاكاة لما يُراد للناس أنْ يحلموا به! وهو الأمر الذي حوَّلَ هذه (المُحاكاة) إلى آليّة تزييف لقوّة المُتخيَّل الذي يُفترَضُ أنْ يكونَ علوّاً نحوَ واقع افتراضيّ غير مألوف، وليس إحلالاً لواقع افتراضيّ أقرب إلى تثبيت القيَم السائدة والساكنة عبر منحىً إصلاحيّ الشكل والمضمون في أفضل الأحوال، وهذه الآلية كانت تمرُّ عبر تأطير الظروف المعيشية القاسية في المجتمعات العربية بثنائية (الخير _ الشرّ)، وبمُعالجة النّتائج وتجاهُل الأسباب بعيداً عن ربطها بالجذور الأصلية للظواهر المعروضة، وهو الأمر الذي يَختزِلُ أوّلاً المُستويات الوقائعية المركَّبة والمُتراكبة، ويسعى ثانياً إلى توجيه الوعي نحوَ الدوران في صُوَر نمطيّة للمُتخيَّل تكتفي ببيع الأوهام النوستالجية الشبيهة بمُسكِّنات آنيّة ضدّ الاغتراب؛ أي بدغدغة الأحلام اليومية والمُباشَرَة عبر اختزالها بالمُستوى الفردي الخاص من جانبٍ أوّل، وعبر نأيها عن المسكوت عنه بما هو استدعاء الوجود الكُلّيّ الأصيل الذي تمَّ تغييبه بتمويه الفضاء الوقائعيّ العام انطلاقاً من عمليّة مُحكَمة للتَّجهيل بالحداثة من جانبٍ ثانٍ.
بعد انفجار ثورات الربيع العربي، أظهرَتْ المَواسِم الرمضانية المُتعاقِبة أنَّ فكرة توظيف الدراما لبعث رسائل مُتنوِّعة قد أخذتْ بُعداً أكثر وضوحاً ومُباشَرة، ولا سيما أنَّ مسألة تزييف قوة المُتخيَّل حاولَتْ أنْ تعيدَ إنتاج بعض الروايات الرسمية لما تشهده البلدان العربية بطرائقَ لا تخلو أحياناً من الفجاجة. فلم يكُن مُستغرَباً أنْ نلاحِظَ ذلكَ التركيز على مُحاوَلة تحويل الحياة الطبيعية اليومية والاعتيادية التي تقدِّمُها الدراما إلى عنصر جذب مفقود في بلاد تمزقها الحروب، كأنَّ المطلوب هو تبريد الانفجار الاجتماعي والسياسي الحاصِل عبر فصام درامي حادّ يتأسَّس على انفصال عن الوقائع على الأرض، فضلاً عن تعميق هذه الغاية، بانحسار واضح لقبضة الرقابة على محظورات شكلية سابقة كانت تُمرَّر بأساليب رمزيّة مُلطَّفة، بدعوى عدم خدش الحياء العام، لنشهدَ انزياحات واسعة نحوَ موضوعات الخيانة والدعارة والخمرة والمخدرات والأزياء العصرية وحضور الجسد بوصفه لحماً عارياً. وهُنا ليس المقصود حكم قيمة يتَّكِئُ على معياريّة أخلاقيّة، فهذا أمرٌ يتناقضُ مع مفهوم الفن ودور النقد من ناحية أولى، فضلاً عن أنَّ هذه الموضوعات وطرائق العيش المذكورة في هذا السياق موجودة بالتأكيد في الواقع العربي، وتُمارِسُ أنماطَها الحياتية طبقاتٌ واسعة في المجتمع من ناحية ثانية؛ ولكن ما يهمُّنا في هذا الإطار إيضاح ما تنطوي عليه هذه العناصِر الدرامية المُهيمِنة على أعمال واسعة من رسائل تريد أنْ تقول إنَّ الحُرِّيّة الفردية الآمِنة التي يحوزها الفرد في حياتنا السابقة أو الحالية، أفضل من الكوارث التي تنطوي عليها الثورات مُدمِّرةً الحياة الخاصّة الجميلة والاعتياديّة.
ولا تنتهي المسألة عند هذا المُستوى؛ إنَّما يُراد إبلاغ رسالة مُضادّة فحواها أنَّ (حُرّيتنا الفردية) هذه، والمُتفلِّتة من القيود الاجتماعية والكبت والممنوعات، أفضل من (حُرّيتهم الثَّوريّة) التي يختزلُها أصحابُ هذه الرسالة بوصفها بالدَّموية المُؤسَّسة على رجعيّة مُتطرِّفة تُصادِرُ الفضاء الخاص، وذلكَ في توجُّه مدروس يُبقي مُساءَلةَ الحُرِّيّة في الفضاء المجتمعي العام سؤالاً مسكوتاً عنه، ولا سيما في ضوء تغييب الأسئلة المصيرية والكيانية الكبرى، والابتعاد عن مُعالجة علاقة اليومي بالكُلّي، ومعالجة علاقة الفردي بالجمعي، وهو الأمر الذي ينطوي على مركزيّة إقصائيّة تُعرِّفُ بطريقةٍ مُوارِبة أساليبَ وجود الذات المُقدَّمة في الدراما بدلالة الآخَر المُختلِف والمَنبوذ والمَرفوض، فما يُعَدُّ رفعاً لسقف المُباحات ضدَّ رقابة المكبوتات والممنوعات، ينكشف تهافته ليس فقط بفعل الجذر الجوهرانيّ الطارد للتعددية والاختلاف؛ لكنْ بفعل الحفر المعرفي الذي يُعرِّي المُحتوى البطريركي الذكوري لما يبدو زيفاً أنَّهُ (حُرِّيّة فردية) لم تُقدِّم البديل التَّحرُّري الحقيقي لذوات عربية ما زالت أسيرةً في طبقات التخلُّف الاجتماعي، وبوجهٍ خاصّ في ما يرتبط بموضوعة حُضور المرأة.
إنَّ المساحة الدرامية العربية ما زالت تقدِّم بين الفينة والأخرى أعمالاً أصيلة تنجو من الكمائن السابقة على قلَّة تلكَ الأعمال، ولا يُتيحُ لي هذا السياق بغاياته المُحدَّدة أنْ أستعرِضَ بعضاً من التجارب المُهمّة والرَّصينة، إمّا في الدراما المصرية (الأُمّ الرؤوم للدراما العربية)، أو في الدراما السورية (ذات القفزات الفنية البارعة والبصمات التَّجديدية اللّافتة في الدراما العربية)، غيرَ أنَّ الإشكالية تكمُنُ في فقدان معظم الأعمال _ولا سيما في السنوات الأخيرة_ مصداقيّةَ التوازن الجَمالي بينَ البُعد التاريخيّ والبُعد الفنيّ، وتحوُّل الترميز الذي كانَ يُفترَض أنَّهُ يستهدف تفكيك البِنية الوقائعيّة المُعقَّدة إلى نمَط تجريديّ يستغلّ سهولة تطويع الدراما لغايات مُتنوِّعة، وهيَ المسألة التي لا تنطوي عليها فنون أخرى ليسَ من اليسير إخضاعها إلى مثل هذا التَّطويع، ولا من طبيعتها الأصلية أنْ تُقدِّم وجبات استهلاكية ذات تأثير عريض على الجمهور العربي الواسع، وقدرة بالغة على تمرير ما ينبغي تمريره من أفكار ودلالات تُوجِّه الوعي الوجودي باستلابه والاستيلاء على مساراته العاطفية والفكرية.
شاعر وناقد سوري