الذكرى العاشرة لانتفاضة الكرد: استعادة شخصية/ علي العبدالله
في صباح يوم 2004/3/14، كنا، فايز سارة ومعاذ حمور وأنا من لجان إحياء المجتمع المدني، وهيثم المالح ورزان زيتونة ووائل حمادة من الجمعية السورية لحقوق الإنسان، وياسين الحاج صالح ككاتب مستقل، على ابواب مدينة القامشلي بعد ان قضينا في رحلتنا من دمشق الى القامشلي قرابة العشر ساعات.
كانت فكرة التوجه الى القامشلي قد نشأت خلال النقاش حول شغب الملاعب بين جمهور فريق محلي (الجهاد) وفريق من دير الزور (الفتوة) تحول الى مجزرة ارتكبها النظام ضد المواطنين الكرد، راح ضحيتها اكثر من عشرين شهـــيداً وعشرات الجرحى ومئات المعتقلين. المجزرة اطلقت انتـــفاضة كردية انتقلت من القامشلي الى كل المحافظات السورية التي فيها وجود كبير للكرد (الحسكة، حلب، دمشق) وفتحت ملف الـــــكرد وما لحق بهم من تمييز واضطهاد على يد الانظمة السورية المتعاقبة، وآخــــرها وأكثــــرها تعسفاً، نظام البعث. فقد قام وفد من لجنة تنسيق القـــــوى السياسية والحقوقية التي تضم احزاباً معارضة وجمعيات حقوقية، بمناقشة الحدث مع السلطة بزيارة محمد سعيد بخيتان، رئيس مكتب الامن القـــومي آنـــذاك، الذي دخل في مشادة كلامية مع الوفد ووضــعه أمام خيار صعب: الآن تظهر وطنيتكم لنرى ما انتم فاعلون، الكرد ليس لهم إلا الدبابات. كذلك رد على اقتراح قيام وفد من المعارضة بزيارة القامشلي برفض الفكرة والتهديد بمعاقبة من يقوم بالزيارة.
ارتبك موقف اللجنة ودخلت في حسابات الأخطار ولجأت الى التحرر من الحرج بإحالة الموضوع الى قادة الاحزاب الكردية، فسألت الاستاذ عبدالحميد درويش، امين عام الحزب التقدمي الكردي، الذي رأى ان الزيارة غير مفيدة إن لم تكن خطرة. تمسك بعض اعضاء اللجنة بتقدير الاستاذ درويش وتخلى عن الفكرة. لم نقبل بالقرار، فعقدت لجنة التنسيق في لجان إحياء المجتمع المدني اجتماعاً لمناقشة الموقف واختلفت، فتم اللجوء الى التصويت وفاز خيار القيام بالزيارة.
في اليوم الاول، توجهنا الى منزل الدكتور عبدالحكيم بشار حيث التقينا عدداً من قادة الاحزاب الكردية، ولم يشارك عبدالحميد درويش في اللقاء، ودار الحديث حول ما حصل وأخذنا فكرة عن الرواية الكردية. في اليوم الثاني التقينا بشيوخ عشائر عربية في مكتب الشيخ محمد الفارس، شيخ طي، حيث قالت الرواية الكردية ان النظام سلّح عشائر عربية لتحويل الصراع الى صراع بين الكرد والعرب، وتداولنا معهم الحديث حول ما حصل، وسألنا عن دورهم في الأحداث وعن موضوع التسلح، فتم نفي الموضوع وقدمت رواية عن حيادهم من دون ان يعني قبولهم بسيطرة الكرد على القامشلي والاعتداء على العرب.
ذهبنا بعدها الى المشفى الوطني القريب لعيادة بعض الجرحى، وعند خروجنا بعد نصف ساعة تقريباً أبلغنا بأن المحافظ سليم كبول يريدنا وهو في مقر مدير المنطقة.
توجهنا الى مديرية المنطقة (هيثم المالح ومعاذ حمور والحاج بدرخان تللو- من كرد القامشلي وعضو في الجمعية السورية لحقوق الإنسان، وأنا)، عاجلنا فور جلوسنا بالقول: «كيف تجولون على المنطقة من دون إذني، ما بتعرفو انو انا الحاكم العرفي هون»، فردّ عليه معاذ حمور بالحدة ذاتها: «إلى متى ستظلون تتحدثون بهذه اللهجة، نحن منظمات حقوقية ومدنية ومن حقنا أن نتحرك لنعرف ماذا حدث ومن السبب». تراجع المحافظ عن لهجته الحادة ثم استأذن ودخل غرفة أخرى، وعاد وسأل عن أسمائنا، ثم دخل ليكمل مكالمته. عاد وأبلغنا تحيات بخيتان، وإشادته بنا: قال: «انه يعرفنا، نحن وطنيون». دخلنا في حديث تفصيلي حول ما جرى وواجهناه بما عرفنا عن دوره في عمليات القتل وأنه اصدر الاوامر بذلك، فنفى مدعياً انه عندما وصل من الحسكة، مركز المحافظة، كانت الحوادث قد امتدت من الملعب الى كل أنحاء المدينة.
امتد الحديث لأكثر من ساعتين وقد اختتمه متمنياً عليناً ألا نعد بشيء، فقلنا له اننا لسنا سلطة حتى نعد. ودّعنا وهو يقول: «اذهبوا واطلعوا على مؤسسات الدولة ومصالح المواطنين التي أُحرقت».
التقينا في عصر ذلك اليوم بأحزاب التجمع الوطني الديموقراطي في المنطقة، وزرنا مقر الحزب السوري القومي الاجتماعي، وفي اللقاءين دار حديث تفصيلي عما جرى ومن المسؤول وكيفية العودة الى الهدوء والاستقرار وحل المشكلات العميقة في المحافظة. وفي المساء اجتمعنا الى كوادر المنظمة الآشورية الديموقراطية للغرض ذاته.
في اليوم التالي، كان لقاؤنا مع شيوخ عشائر كردية، دار فيه الحديث عما جرى والأسباب والنتائج، ودور السلطة والمحافظ والعشائر العربية، قبل ان نستأذن، انا ورزان ووائل، ونخرج بصحبة الحاج بدرخان الى بلدة عامودا (30 كلم غرباً) حيث تجولنا وصورنا المؤسسات والمصالح المحترقة، ولم نستطع تصوير تمثال حافظ الأسد الذي حطم الجمهور رأسه لأن السلطة غطّته ومنعت الاقتراب او التصوير. وخلال عملية التصوير اعترض مدير الناحية وقال لي: «لم يكف انك أتيت الى هنا، بل احضرت معك اجنبية»، يقصد رزان. فبالنسبة اليه، كل شقراء اجنبية. عدنا من عامودا وأكملنا رحلتنا الى المالكية (90 كلم شرقاً) مروراً بالقحطانية، وقد صورنا ما شاهدناه من حرائق ودمار من الجمارك في القامشلي عند نهاية المدينة الى مستودعات الحبوب والأعلاف ودوائر التجنيد والنفوس، وفي المالكية تحدثنا الى عدد من المواطنين الكرد عما حصل قبل ان نكمل طريقنا الى قرية عين ديوار.
عدنا عند الغروب فاستقبلنا حاجز مخابرات عند مدخل المدينة وطلب بطاقات الهوية، وعندما علم من نحن اعاد البطاقات وسمح لنا بالمرور.
بدأنا بصوغ بيان سياسي حول ما جرى بمشاركة قادة الاحزاب الكردية، لكننا واجهنا صعوبة كبيرة لأن هؤلاء القادة دخلوا، كعادتهم، في مزايدات على بعضهم ورفع سقف المطالب. وبينما نحن كذلك، إذا بموظف الفندق يطلب الوفد الذي قابل المحافظ ويقول ان هناك سيارة جاءت لتصطحبنا الى مديرية المنطقة. ذهبنا مع السائق وإذا بالدعوة من اللواء هشام بختيار، او اختيار، الذي كان يرأس خلية للأزمة. دخلنا في حديث عما رأيناه وسمعناه، فحاول تجميل الصورة من طريق تقديم رواية عن تعاطيه العقلاني ورفضه استخدام القوة وحمايته الكرد من غضب بعض العرب، وروى ما قال انه دار في منطقة رأس العين من جانب عشيرة العدوان العربية وكيف هددهم باستخدام المروحيات في قصفهم وردّهم عن مهاجمة الكرد. حدثناه عن القتلى والجرحى والمعتقلين، ثم دخلنا في حديث عن الحل المطلوب فطلبنا: الإفراج عن المعتقلين، ونقل الجرحى الى مشافي العاصمة لأن حالة بعضهم حرجة، وتعويض المتضررين من أُسر الشهداء الذين نُهــــبت او أُحرقت محالهم وبيوتهم، وتأجيل فتح المدارس لبعض الوقت ريثما تهدأ النفوس.
* كاتب سوري