الذكرى 45 لرحيل يوكيو مِيشِيما : الانتحار وفلسفاته في الأدب الياباني/ عبدالله الساورة
تحل الذكرى 45 لرحيل الكاتب العالمي والياباني يوكيو ميشيما 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وسط سؤال مُحير، لم أقدم على الانتحار وهو في عز الشهرة والمجد؟ وسؤال أكبر عن علاقة الأدب بالانتحار؟
يقال من أجل أن تكون كاتباً خلاقاً ومبدعاً وجب أن تكون حزيناً وتجر معك سلاسل الحزن التي لا تنتهي، ومستقبلاً أسود، وأن تُفرج عن كراهية الناس من خلال مسام الكتابة أو ببساطة أن تكون مدمناً وتجعل من إدمانك حالة من النزول والصعود، مثل الأضواء المبهرة في ملهى ليلي.
يقال هذا، وفي بعض الحالات إنه أمر أكيد. لأن مجموعة من الكتاب أقدموا على الانتحار بطرق مختلفة، بعدما وصفوا كل ما يجول بخواطرهم في ما عاشوه وكتبوه، ولم يجدوا معنى من الانتقال إلى القبر.
الكاتب الياباني يوكيو ميشيما ليس إلا واحداً من جملة الكُتاب المنتحرين. ففي 12 أيلول/سبتمبر2008 عثر على الكاتب الأمريكي فوستر ولاس مشنوقا في منزله في كليرمونت في كاليفورنيا عن عمر 45 عاماً. بدوره الكاتب جون كيندي تولي، وجد داخل سيارته منتحراً في 26 آذار/مارس 1969. في حين أقدمت الكاتبة سيلفيا بلاث، على وضع حد لحياتها سنة 1963 في صباح لندني بارد مرددة «لن أعود للكلام أبداً مع الرب» بعد ثلاث محاولات لوضع نهاية لحياتها الأدبية والحياتية. الكاتب العالمي إرنست همنغواي فجر رأسه ببندقية مزدوجة في منزله في كيتسون (ايداهو) في 2 تموز/يوليو 1961. بدورها رمت الروائية الإنكليزية فرجينيا وولف يوم 28 اذار/مارس 1941 نفسها بأكياس مملوءة بالحجارة في نهر أوز بالقرب من منزلها في سوكسيس غرقاً عن سن يناهز 59 عاماً.
اليابان الدول الزعيمة والرائدة والحزينة في الوقت نفسه، والبلد الصناعي يحتل مرتبة متقدمة في عملية انتحار سكانها، ليس البلد الأول في عدد المنتحرين، ولكنه ضمن البلدان الأولى. فحسب بعض الإحصائيات للوكالة الوطنية للشرطة اليابانية، بلغ عدد المنتحرين 25.427 خلال سنة 2014. إنها أقل نسبة من السنوات السابقة، ففي سنة 2013، انخفضت النسبة إلى 6.8 في المئة مقارنة مع السنوات الخمس السابقة. ومن جملة الأسباب التي تدفع اليابانيين لإنهاء حيواتهم مشكلة الصحة والصعوبات الاقتصادية والمشاكل العائلية والعمل.
يوكيو ميشيما: الحياة برغبة الموت
ستة أشهر قبل انتحار الكاتب الياباني يوكيو ميشيما، وهو الاسم المستعار له واسمه الحقيقي كيماتاكي هيراوكا، كتب رسالة إلى صديقه ومعلمه ياسوناري كواباتا رسالة يعبر له فيها عن خيبة أمله: «كل قطرة من الوقت التي تنزلق مني، تبدو لي ثمينة جداً كمشروب خمرٍ رائع، لقد فقدت تقريباً كل الفوائد للبعد المكاني للأشياء».
تأمل الكاتب ميشيما (1925/ 1970) فكرة الانتحار طويلاً، طيلة أربع سنوات، وخطط لها بشكل جيد، ففي 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 ذهب إلى مقر القيادة الشرقية لقوات الدفاع الذاتي في طوكيو جنباً إلى جنب مع أربعة أعضاء من «مجتمع الدرع» وهي ميليشيا خاصة مُشكلة من الطلاب الشباب الوطنيين في فنون الدفاع عن النفس والتخصصات الرياضية القتالية. هناك وضعوا بعض المتاريس وقاموا بمحاولة انقلاب فاشلة لاستعادة الإمبراطور لحكمه ومكانه الشرعي. بعد خطاب الكاتب القصير من شرفة القيادة على كتيبة الجنود، وخطابه الذي نال استهجانهم وسخريتهم، نزل ونفذ انتحاراً على طريقة طقوس الـ»سيبوكو». عمد إلى شق بطنه بعصا سكين من اليسار إلى اليمين، ثم عمد مساعده إلى قطع رأسه في وقت لاحق. كان انتحاره مريعاً ومخيفاً بشكل كبير. وكان شريكه المخصص لأداء دور قطع الرأس ماسا كاتسو مويتا، غير قادر للقيام بهذه المهمة الصعبة بعد أربع محاولات فاشلة، في حين قام هيرويا سو كوكا بإنهاء المهمة.. وقطع رأس مويتا كذلك.. وفك الجنرال المحتجز وقال، ليس هناك من يرغب في الانتحار فقط بقي من يدلي بشهادته حول الواقعة الأليمة.
يعد الكاتب ميشيما من الكتاب الذين برزوا في المشهد الأدبي لما بعد الحرب العالمية الثانية بين 1945 و 1948 واعتبر من الجيل الثاني لكتاب ما بعد الحرب.
في روايته الأولى «اعترافات قناع» أو «اعترافات من خلف قناع» يكشف الكاتب عن حالته المثلية، وأنهى عمله بضرورة أن يلبس قناع الحالة السوية مثل الآخرين لحماية نفسه من احتقار المجتمع. هذه الرواية التي كتبها وهو يبلغ من العمر 24 عاماً، حققت نجاحاً باهراً وحولت الكاتب الشاب إلى روائي مشهور. ضمن رباعية أعماله الرائعة التي تعد عملاً كبيراً أدبيا وبحرفية عالية وإبداع متميز، مكنته للترشح لجائزة نوبل للأداب ثلاث مرات، وهي «بحر الخصوبة» وهي تتألف من روايات «ثلج الربيع» و»الخيول الجامحة» و»معبد الفجر» و»رشوة الملاك». هذه الرواية أكملها في يوم انتحاره وسلمها للناشر، وكان معروفاً عنه انضباطه في تسليم أعماله. يعتبر من الكتاب الكبار في التاريخ المعاصر لليابان، ألف 40 رواية و18 عملاً مسرحياً و20 مجموعة قصصية وعلى الأقل 20 كتاباً في المقالة الصحافية. بعض الكتب التي ألفها فقط كانت من أجل التحصيل المادي.
رواياته شهادات أيديولوجية للكاتب يبرز فيها تمرده ضد مجتمع غارق في الانحطاط والاضمحلال الروحي والأخلاقي. وهو من أهم المجددين في اللغة اليابانية بعد الحرب الكونية الثانية.
خلف انتحاره صدى عالميا، جعل المخرج بول شرادر يحول قصته وطريقة انتحاره في فيلم بعنوان «ميشيما، الحياة في أربعة فصول»(1985). وتوالت الكتابات حول حياته وأعماله، فألف هنري سكوت ستوكس «حياة وموت يوكيو ميشيما» (1974). وكتاب «ميشيما أو الرؤية في الفراغ» للمؤلفة مارغريت يورسينار. وفي بيوغرافية مطولة كتب مترجمه جون ناتا «ميشيما». وذهب جون أنطونيو يانجو- نجيرا في مؤلف بعنوان «ميشيما أو رغبة الموت» (1978) وهو تحليل نفسي لشخصية الكاتب الياباني. ثم ألف هنري ميللر «تأملات حول موت ميشيما». وحول لويس دي بابلو إحدى قصصه «حديقة» إلى عمل أوبرالي عام 2006. تحولت حياته بعد مماته إلى أعمال للتنقيب والحفر ولم يحظ في العالم بترجمات أعماله الكاملة، وذاك انتحار آخر..
الأدباء اليابانيون والانتحار
من دون أن يترك ملاحظة صغيرة أو شرحاً أو رسالة أو توصية وضع ياسوناري كاوباتا (1972/1899) الحائز جائزة نوبل للأداب حداً لحياته في يوم 16 نيسان/أبريل 1972 باستنشاق الغاز بعدما ترك مفاتيح مرور الغاز مفتوحة في منزله. أسباب موته/انتحاره ليست واضحة حتى الآن، فحسب البعض أنه لم يكن عملاً متعمداً، في حين أشارت بعض الأصوات إلى الأوقات العصيبة التي مر بها الكاتب في اللحظات الأخيرة من حياته، كقرار خاص ونهائي بانهائها، كالمشاكل الصحية، أو الصدمة القوية لانتحار صديقه يوكيو ميشيما سنة 1970. حسب البيوغرافية التي أنجزها تاكيو أوكنو فانتحاره ناتج عن الكوابيس التي ظلت تطارده بعد انتحار صديقه يوكيو ميشيما.
أما يُونُوسوكي أكُوتاغاوا، فكان كاتباً مسكوناً من قبل الشياطين والكرب، في حياته القصيرة (توفي عن عمر يناهز 35 عاماً)، عانى من الهلوسة البصرية والسأم، أدى به إلى اتخاذ قرار فظيع بإقدامه على الانتحار يوم 24 تموز/يوليو 1927. قبل وفاته ترك رسالة قصيرة أوضح فيها بطريقة عقلانية، وكذا المفارقات التي حركت أهواءه باتخاذ قرار الانتحار. حسبما هو مبين في الملاحظة أنه قضى السنتين الأخيرتين من حياته في التفكير في موته، والطريقة الأقل إيلاماً. كان الألم ما يسعى للهروب منه: «العالم الذي أنا عليه، هو واحد من الأمراض العصبية، الواضحة والباردة. الموت التطوعي يجب أن يمنحنا السلام والسعادة. أنا الآن مستعد، أجد الطبيعة أكثر جمالاً من أي وقت مضى. متناقضة كما تبدو. لقد رأيت، أحببت ُ، فهمت أكثر من الآخرين، بهذا لدي درجة أكيدة من الارتياح، على الرغم من كل الآلام التي تحملتها حتى هاهنا».
بدوره الكاتب الياباني أوسامو دازِي (1909/1948) وهو الاسم المستعار لتسُو شِيما، رحل متأثرا بصراعاته الداخلية والعائلية، جنباً إلى جنب تجربته المريرة كمناضل وعضو في الحركة الماركسية اليابانية التي زجت به للسجن والتعذيب على يد النظام العسكري. هذه التجربة أعطته شحنة كبيرة وعمقاً إنسانيا في كتاباته الأدبية الرائعة. كان الكاتب أوسامو دازي مدمناً على المورفين والكحول وقضى بعض الوقت في مصحات نفسية، وعاش حياة رهيبة، حيث حاول الانتحار أربع مرات (محاولتين قبل بلوغ سن العشرين). وفي النهاية، وفي 13 حزيران/يونيو1948 قرر الانتحار رفقة عشيقته برمي نفسيهما في قناة وادي «تاما» في طوكيو، منفذا محاولته الرابعة والناجحة إيذاناً برحيل كاتب من عيار ثقيل.
حالة أخرى هي الكاتب الياباني أرِشيما تاكيو (1887/ 1923)، حيث أقدم على الانتحار. فبعد وفاة زوجته سنة 1916 التي كان يعشقها حد الجنون وبالكاد تزوجها منذ ست سنوات تتركه وحيداً في هذا العالم. تزوج للمرة الثانية من أكيكو هاتانو، الناشرة للمجلة النسائية المشهورة «فوجين كرون»، وبعد اكتشاف قصة غرام مع عشيقة له أقدم على الانتحار رفقتها في 9 حزيران/يونيو 1928. ظل مكان الانتحار مجهولاً، ثم وجدوا جسدي المنتحرين بعد مضي شهر، حين عثروا على ورقة صغيرة فيها ملاحظة تشير إلى مكان الانتحار. انتحرا شنقاً واضعين نهاية لمسار من الإبداع والكتابة.
تطول لائحة المنتحرين من الكتاب والصحافيين والمشتغلين في الحقل الفني والإبداعي لسبب بسيط يصبح الموت أهون من الحياة المُرة، لأن الكاتب يعيش حيوات الآخرين ويسعى للحفاظ عليها، فهم أبناء بررة من دم وفصيلة الكاتب الذي يطول سهاده وتطول أحزانه ويشقى لتعاسة أبطاله. يرحل الكاتب وتبقى الكتابة.. أما الانتحار فيظهر بين الفينة والأخرى ويحمله بشكل مستتر على مر الدوام.
القدس العربي