صفحات الرأي

ذهب “داعش” وفضة المتحالفين عليه/ فاروق يوسف

 

 

هل أُعلِنت الخلافة الاسلامية قبل أوانها؟ كان في إمكاننا الانتظار قليلاً. لدينا الوقت. الوقت كلّه لدينا. وقتنا ووقت الملائكة والشياطين والممالك التي اندثرت والجمهوريات التي هي في طريقها إلى تأليف نشيدها الوطني وتزويق علمها بالكلمات المقدسة. لكن الأمل لم يعد واجباً قسرياً. في حدود علمي المتواضع، أن الخميني بادر إلى انشاء جمهوريته من غير أن ينتظر ظهور الإمام الحجة. قيامة الدهر شيء وقيام الخلافة في وجهيها الشرعي والتاريخي شيء آخر. وهذا ما صادق عليه مولانا البغدادي الذي ينتسب إلى سامراء، حيث يقع جامع أبو دلف بمئذنته الملوية التي تشرّف نصرانيٌّ بتصميمها. هنا يقع خلاف لا مجال لترويضه. كانت الملوية، وهي فريدة كل العصور، خروجاً على النسق المعماري، لا بل على بداهة العين المتدينة التي ترنو إلى أن تصعد مباشرة إلى السماء من غير أن ترتقي سلّماً بُني من مواد أرضية. قبلها كانت السماء قريبة. هل صار الأذان يتأخر بعدها؟ لم يكن الصعود مشياً بعادة مألوفة إلا بالنسبة إلى سكان العراق القديم. كان للسومريين زقورتهم، وللبابليين برجهم وحدائقهم المعلقة. أما العرب فإنهم جوّابو صحراء، أفقها يفصل مثل خيط خفيف بين السماء والأرض. لو مددتَ يدكَ أكثر لقطفتَ تفاحة آدم، ولضربكَ فحيح الأفعى. ليس ليوسف سوى البئر ولعيسى أن يحلّق في غيابه ثلاثة أيام ليظهر كما لو أنه مشى. كانت بلقيس قد كشفت عن ساقيها قبل أن تقع من وله ملأ غربتها. ألهذا عبر الفتى القادم من سامراء طريق الرؤى ليصل مبكراً وقد أتعبه المشي؟ لقد قيل الكثير عن العشر الأواخر. وهي الأيام التي تقع بعد أن تغلق الملائكة دفاترها. ذلك ما يرضي الصائمين بعد هلاك عشرين يوماً من الجوع الطوعي.

 

في أربعة حروف يكمن الكون

أعتقد أن لا أحد يحب المبالغة في تطهره، مثلما نفعل. فطقوس عاشوراء تمدّ بساط ريح مرحاً ما بين الوجبات الغذائية الدسمة، المتخمة باللحم الحيواني وعمليات اللطم وضرب الرؤوس بالسكاكين. هناك مَن يملأ معدته مجاناً، وهناك من يشقّ رأسه ويريق دمه. مشهد استثنائي في سخريته السوداء. من هنا اشتقّ لون علم دولة الخلافة. الأسود هو ما تبقّى. ما يتبقى. ما سيكون في انتظارنا بعدما ابتلعنا أحد الثقوب السوداء. حكمة فضائية قُدِّر لرجل عالم في الشريعة أن يدركها لينقذنا من هلاكنا المحتم. وهو هلاك كنا قريبين منه لولا أن العناية الإلهية كانت قد اختزلت قوتها في أربعة حروف، لو سُكّت من الذهب لما قاربت معانيها الكامنة في صدر كل مؤمن. كانت “جبهة الإنقاذ” كذبة جزائرية. “طالبان” هي الآخرى كذبة أفغانية. “بوكو حرام” كذبة نيجيرية. أما “القاعدة” فإنها كذبة الأكاذيب التي نسجت نيويورك وهي المدينة العليا في العالم حولها الأساطير. ناهيك بـ”الاخوان”، وهم جماعة سرية كانت تربية الأفاعي من أهم نشاطاتها. أفعى لكل مسلم ومسلمة. وهذا ما نصّت عليه الحكاية الدينية. يخرج “حزب الله” في لبنان عن ذلك الاجماع حين صار يربّي أغناما جاهزة للذبح. البغدادي تجاوز هذا كله ذاهباً إلى الرمق الأخير، ما جعل السلطان العثماني أردوغان يحسده على جرأته.

 

من سجن بوكا بدأ الاختبار

هكذا تكون الخلافة الإسلامية، وإلاّ فلا. ياه. لقد انشرحت الصدور وامتلأت الأفئدة وسالت على الأقدام رائحة اللحم المشوي مذ فكر أبرهة الحبشي في غزو مكة إلى أن رفع المستشار بريمير يده عن الكتاب. أليس هذا ما كنا نحلم به، عرباً آريين مضوا إلى حتفهم في نهاية القرن الثاني عشر ميلادي. لم تكن فكرة البغدادي لتقلق أحداً، لولا أنها أتت متأخرة قليلاً. لا قيمة تاريخية لقرون من النواح على الحسين الشهيد في كربلاء. كان حريّاً بالبغدادي أن يسبق عبد الملك بن مروان في سكّ عملته ليستولي على ذهب الأمويين ومَن جاورهم من الأمم. لو أنه فعل ذلك لكانت عملته اليوم تحظى باحترام صندوق النقد الدولي. لكن عملته ستبقى أثراً منه. بهذه الطريقة يفكّر النازحون واللاجئون. هل كان البغدادي نازحاً من قبل؟ كان سجيناً في بوكا، وهو سجن أقامه الأميركيون في البصرة التي كانت خاضعة للإحتلال البريطاني. سجن هو في حقيقته مدرسة للإخلاق والتربية الحسنة والإرشاد الديني. ما تعلّمه البغدادي في بوكا فتح أمامه خيال أمبراطوريته المرحة. هل كان معلّموه في ذلك السجن مغولاً، سلاجقة، برابرة؟ أعتقد أن علينا أن نقرأ الكتاب بالمقلوب. من الأسفل إلى الأعلى. حينها يكون أبو بكر سواه، أكبر منه وغريمه الذي ينافسه على الغنائم. الرجل الذي انتحل صورة رجل كان قد حلم في أن يكون آخر.

 

بين البغدادي وبن لادن

لم يكن البغدادي في حاجة إلى أن يلتقي بن لادن لكي يتعلم منه. بالنسبة إليه، بن لادن كان جيلاً قديماً من الآي فون. هناك طرق جديدة للإتصال بالله غير تلك الطرق التي كان بن لادن قد سلكها. في هذه الحال يكون الرجل أكثر من حقيقته. ما دير الزور، ما الرقة السورية؟ ما الموصل، ما تكريت، ما الرمادي العراقية؟ سيكون الكون متاحاً أمام غزوته المباركة بغبطة الواقفين على الماء من الخليج إلى المحيط. ما الخريطة المفروشة بين يديه إلا حقول طماطم وبطاطا ومسليات على الطريق. هل تكون الطريق إلى روما سالكة؟ يضحك ونضحك من بعده بلهاء ومعتوهين وبقايا كائنات منقرضة. غُلِبت الروم. مَن هم الروم؟ لن يكون السؤال إلا نوعاً من الضنى. لم يفك البغدادي صلة عملته بالدولار الأميركي كما فعل صدام حسين والقذافي من قبل. لا يمكن لدينار “داعش” أو درهمه أن يقارنا بالين الياباني أو الدولار الأميركي أو الأورو الأوروبي. فعملة الخلافة لا علاقة لها بسوق العملات أو البورصة. إنها نوع من الإلهام الإلهي الذي لا يصلح لكي يكون مادة للصرافة الدنيوية الماكرة. عملة “داعش” هي العملة التي تتداولها الملائكة في حدائقها. ولكن، ما تبيع الملائكة وما تشتري؟ سيكون نوعاً من البلاهة أن نتساءل ما قيمة الدينار “الداعشي” مقابل الدولار الأميركي مثلاً. لست خبيراً في العملات لكني أعرف أن عملة دولة الخلافة هي من النوع الذي يذهب مباشرة إلى المتاحف لا إلى المصارف. هواة جمع العملة على سبيل المثال يحلمون في العثور على قطعة نقدية من “داعش”. الدولة الوهمية التي نجحت في سكّ عملتها. سيكون ذهب “داعش” طريقا إلى العمى الأسطوري. عماهم وعمانا وعمى منظمة التجارة الدولية. ألم يحلم الكثيرون في استعادة الخلافة الاسلامية بعد سقوط دولة بني عثمان؟ كما لو أن الاحتلال العثماني كان نوعاً من النزهة البريئة بين ضفتي البوسفور. خمسة قرون من العته المسبوك بالذهب، ما ضرّ لو أضيف إليها قرن سادس، نكون صبيانه وخدمه ومحظياته وجواريه؟

 

فتح روما

ولأن رعايا دولة الخلافة لن يدخلوا روما سائحين بل فاتحين فإن دينارهم الذهب سيغشي الأبصار. لكن لِمَ روما بالذات وهي مدينة تعاني من فضائح برلوسكوني الأخلاقية يتكرر اسمها باعتبارها عاصمة للضلالة والكفر؟ روما اليوم مدينة فقيرة، لا تملك أن تقف أمام نيويورك أو طوكيو أو شنغهاي أو دبي. ألأن الروم كانوا قد غُلبوا؟ غلبوا مَن ومَن غلبهم؟ فتح روما إذاً له دلالة رمزية. روما هي اليوم أكثر مدن العالم في حاجة إلى الذهب بعدما أغرقها الأوروبيون بفضتهم التي اتضح أنها كانت زائفة. فما بالها لو حظيت بكرم الذهب الإسلامي. بهذا المزاج كانت سفن معاوية بن أبي سفيان قد أبحرت لتصنع من البحر الأبيض المتوسط بحيرة اسلامية. لا خلاف في ذلك، ما دام الإعلام الغربي قد غطى قبل سنوات بهوس مجنون عملية العثور على دفاتر في أحد كهوف تورا بورا كانت تشير إلى قرب امتلاك تنظيم “القاعدة” قنبلة نووية. كذبة علينا أن نصدّقها قبل أن يهرب خيال صانعها. أبو بكر البغدادي لم يكن ليصدّق ذلك. فهو رجل واقعي. يدرك جيداً أن لا حدود لدولته. الاحتفاء بسقوط روما لن يكون سوى الفقرة المسلَّم بها من قبل السلف الصالح، أما مشروعه الحقيقي فإنه يبدأ بالدينار الذهب. وهو دينار اسلامي حلال سيتجاوز من خلاله المسلمون مشكلات حيرتهم في مجال تداول العملات. نعمته ستكون كفيلة حل أزمات الكثير من الدول. اليونان مثلاً لن تكون في حاجة إلى حسنات ميركل، المستشارة الالمانية. لقد دار التاريخ دورته وها نحن نرتقي السلّم من جديد.

 

دينارها الذهب

سيكون علينا الاعتراف بأن أبا بكر البغدادي هو الآخر الذي كان الرجل ينتظره. أن يكون شفيعه في الآخرة. قرينه الذي يشفق عليه ويترفق به في مسيرته بين طرق المتاهة الاسلامية. العزيز الذي يمرّ بين الأشواك لينجو بمعجزة إلهية. إنه الرجل اللغز الذي صنع معجزاته كما لو أنه كان يستشير الملائكة في خططه. كان من اليسير أن ننظر إليه باعتباره زعيم عصابة، غير أن تحالفاً دولياً تقوده الولايات المتحدة وهي أكبر قوة عسكرية في عالمنا وقد أعلن الحرب عليه، كان قد حرمنا من ذلك الاستنتاج البسيط. سيهزم “داعش” بالتأكيد. سيختفي وهو المرجح. غير أنني أتمنى فعلا أن يكون قد نجح في سكّ عملته الذهب. ستكون تلك العملة فاصلة بين تاريخين.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى