صفحات الرأيغازي دحمان

الربيع العربي والديموقراطية الغربية/ غازي دحمان

 

 

«أثبت ما يسمى الربيع العربي أن الديموقراطية الغربية ليست بالضرورة هي الحل للواقع العربي». كثيراً ما تتردّد هذه اللازمة التقريرية في خطب سياسيي الأنظمة القديمة والمثقفين المؤيدين لها، في محاولتهم لتفسير الأوضاع التي آلت إليها ظروف الواقع العربي، بعد الثورات، وبعد تحميل كل المصائب التي حصلت في هذه المرحلة على ذاك «الربيع« وناسه وشعاراته، والأحلام التي حملها.

لا شك أن هذا التفسير ليس عرضياً، ولا هو مؤشر على قلة البدائل المناسبة لتوصيف الواقع العربي، بقدر ما هو تفسير غرضي بحمولات سياسية وايديولوجية و ينطوي على اغراض عديدة:

هو محاولة لإثبات صحة نظرية وطريقة ممارسة الحكم، التي تم التعاطي بها من قبل النخب على مدار العقود السابقة، وإثبات أن هذه النظرية، وإن اعترتها إشكالات معينة في بعض تطبيقاتها، تبقى الخيار الأكثر ملائمة للظروف العربية. والدليل على هذه القناعة هو القوالب الكلامية التي أتحفنا بها إعلام الكثير من الأنظمة التي لم يصلها الربيع، وإطلاق عناوين من نوع» الحمدالله أن الربيع العربي لم يصلنا» أو سريان مقولة «عاوزين تكونوا زيّ سوريا؟« في الإعلام المصري، وذلك بعد وصول السيسي.

الأمر الثاني، هو تحميل الثوار مسؤولية ما حدث وإظهارهم على أنهم، إن لم يكونوا متآمرين، فهم في أحسن الأحوال مغرر بهم، أو ضحايا تنظير نخب منفصلة عن الواقع، ولا تفهم طبيعة السلوك العربي، والسيكلوجيا العربية، المليئة بالتناقضات والتراكمات السلبية. لذا لم يكن غريبا شيوع ظاهرة التحرش بالمرأة بشكل منظم وممنهج في موازاة ظهور حالات من الفلتان الأمني المفتعل، في غالبه، في مسعى بدا الهدف منه إبراز أسوأ ما في الشخصية العربية .

الأمر الثالث، تبييض صفحة الأنظمة المتورطة في العنف ضد شعوبها، خصوصاً أمام الرأي العام الغربي، عبر إثبات حالة التخلف العالية التي تعاني منها الشعوب العربية، وبالتالي عدم مناسبة القيم الغربية لها، ففي كل لقاءاته مع الصحافة الغربية ردّد بشار الأسد هذه اللازمة، بل وذهب أكثر من ذلك إلى حد وصف الشعب السوري بأسوأ الصفات من نوع أنه شعب مؤيد للإرهاب، أو حاضن له، لنزع أي تعاطف دولي مع هذا الشعب، وتبرير أي سلوك يقوم به تجاه هذا الشعب.

لكن بعيداً عن خطأ هذه التفسيرات وغرضيتها، على اعتبار أن الفرضية التي تنطلق منها هي فرضية عنصرية، ثبت فشل مزاعمها بعد التقدم الهائل، الذي حصل على مستوى حقوق الإنسان في العالم، ونتيجة ما أصاب العالم من هذه الأفكار العنصرية.. بعيداً عن كل ذلك، فإن محفزات «الربيع العربي« لم تكن التطلع إلى الديموقراطية الغربية، أقله النمط الذي تتمظهر به في آخر طبعاتها. إذ تدرك النخب العربية الفكرية والسياسية أن ذلك يحتاج مشواراً طويلاً وجهوداً مكثفة، ولا يمكن بأي حال استنساخ تلك التجربة ولصقها على الواقع العربي مباشرة، وثم توقع حصول نتائج سحرية في اليوم التالي، ذلك أن تجهيز البنية اللازمة لتوطين تلك الديموقراطية وصناعة آلياتها هي عملية لا تقل تعقيداً وصعوبة حتى عن مواجهة أنظمة الاستبداد نفسها.

لم يكن هذا الأمر حلم ثوار الساحات العربية وميادينها. بالأصل، «الربيع العربي« لم يكن ينطوي على مثل هذا المحتوى، حيث لم تسبق انطلاقته إرهاصات مهمة في هذا المجال، ولم يكن هناك مناخ مناسب لظهور أي نذر، قد تساعد على تخليق بيئة مناسبة، لطلب النموذج الديموقراطي بتطبيقاته الغربية. وليس مبالغا فيه القول أن الأنظمة الاستبدادية العربية كانت قد أقفلت كل الأبواب والنوافذ أمام أي أفكار، غير تلك التي تمجد الإستبداد والتخلف، وتؤبد سيطرة النخب المهيمنة.

«الربيع العربي« لم يضع نموذجا في الحكم كمثال أعلى وكان يهدف الوصول إليه، كان مدفوعا بقيم الكرامة والرغبة في الحياة الأدمية، وكانت هذه مطالب ضرورية وملحة، بعد أن وصلت درجة الاستهتار بالكرامة وثروات الاوطان ومستقبل الأبناء، مستوى لم يعد بإمكان النفس البشرية تحملها. صحيح أن تطبيق هذه المطالب يستدعي إحلال الآليات التي يستخدمها الغرب في تنظيم شؤونه السياسية، وإدارة وضبط العلاقات داخل مجتمعاته، لكن بوصفها أدوات ثبتت فعاليتها وقدرتها على التطوير. ثم أن طريقة تنظيم الدولة وهيكلتها هي نموذج غربي بالأصل، أفرز مصفوفة متقابلة من الحقوق والواجبات بين الشعب والسلطة، نظم العلاقة على أساس احتكار الدولة للقوة، لكنه في الوقت نفسه جعل السلطة خادمة للشعب ورهن رضاه وقبوله، ولم يجعل من أصحاب المناصب وكلاء الله على الأرض، بل اعتبر ممثلي السلطات أشخاصاً عابرين والشعب هو الثابت في هذه المعادلة.

ربما لا تكون الديموقراطية الغربية، بتعيناتها ومظاهرها، الحل السحري لمشاكل البلاد العربية، لكن الأكيد أن الاستبداد والفساد لم يعد ممكنا تقبله، ولا استمراره، بعد الكوارث التي تسبب بها في عالمنا العربي. والمؤكد أيضاً، أن الشعوب العربية ليست راغبة بإعادة إنتاج أنظمة تورطت بالقتل والنهب. وإذا كان هناك بعض الاخطاء الحاصلة في سياقات «الربيع العربي«، فلا شك أنها كانت مطبات صنعتها الدولة العميقة، التابعة للأنظمة، في سبيل إثبات نظريتها البائسة من أن الشعوب العربية لا يليق بها غير الاستبداد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى