صفحات الرأي

رولان بارت بقلم رولان بارت

 

 

(*) عندما كنت ألعب لعبة السدود…

عندما كنت ألعب لعبة السدود في لوكسونبورغ، لم تكن متعتي الكبرى تكمن في استثارة الخصم من حيث الانصياع مؤقّتا لحقّه في الاحتجاز؛ بل كانت تكمن في تحرير اللاعبين المحتجَزين – وهذا ما كان ينتجُ عنه إثارة الأطراف جميعا: كانت اللعبة تبدأ من الصفر.

في اللعبة الكبرى لسلطات الكلمة، نلعب أيضا لعبة السدود: إذْ لا تحتجز لغة لغةً أخرى إلاّ مؤقّتا؛ ويكفي أن تظهر لغةٌ ثالثة فجأة لكي يُرغَم المهاجم على الانسحاب: في نزاع الخَطابات لن يكون الانتصار إلاّ للّغة الثالثة. إذ أنّ مهمّة هذي اللغة هي أن يحرَّر المحتجزون: أن تبعثَر المدلولات والتعاليم. لغةٌ على لغة إلى ما لا نهاية له كما هي الحال في لعبة السدود، ذلك هو القانون الذي يحرّك دائرة اللوغوس. ومن ثمّةَ صورٌ أخرى: صورة اليد الساخنة (يد على يد: تعود اليد الثالثة، التي لم تعد الأولى)، وصورة لعبة الحجارة والورق والمقصّ، لعبة البصل مورَّقا إلى قُشور بلا نواة. أنّ الفرق لا يُدفع ثمنُه بأيّ شكل من أشكالِ الخضوع: ليس ثمّة إجابة شافية مانعة.

أسماء الأعلام

استحوذ على شطر غير يسير من طفولتي، ضربٌ بعينه من الاستماع: أعني الاستماع إلى أسماء أعلام البرجوازيّة القديمة في بايون التي كان يسمع جدّته تردّدها طوال النهار حين يتغلّب عليها الانشغال بالحياة الاجتماعيّة الريفيّة. كانت تلك الأسماء فرنسيّة جدّا، ومع ذلك كانت في سياق هذا التقنين نفسه وفي غالب الأحيان، طريفة. كانت تكوّن منتخَباتِ دوالّ غريبة عن أذنيّ (والدليل على ذلك أنّي أتذكّرها جيّدا: ولست أدري لماذا): السيدات لوبوف، بربيه-ماسّانْ، ديليْ، فولغريه، بوكْ، ليونْ، فرواسْ، دي سان-باستو، بيشونو، بويْميرو، نوفيُونْ، بوشولو، شانتالْ، لاكابْ، هونريكيه، لابروشْ، دي لابورد، ديدونْ، دي لينيورولْ، غارونسْ. كيف للمرء أن يعشقَ أسماء الأعلام؟ فلا مجال ههنا البتّة للكناية: لم تكن تلك السيّدات من النسوة اللاتي يشتهيهُنّ المرء، ولا حتّى جميلات. ومع ذلك، من المحال قراءةُ رواية أو مذكّرات من دون تلك الشهيّة المخصوصة (أراقب باهتمامٍ إذ أقرأ للسيّدة دي جونليس، أسماء أعلام الطبقة النبيلة القديمة). لا يقتضي الأمر ألسُنيّةَ أسماء الأعلام وحسب، بل أيضا إيروطيقا: إذ الاسم سيكون على غرار الصوت والرائحة، لاعجةَ عشق: رغبة وموتا: “ما يتبقّى من الأشياء، نفَسا أخيرا” كما يقول كاتب من القرن الماضي.

لا حقّ لي في الحُمق…

يستخلِص من عزف موسيقيّ يسمعه كلّ أسبوع على موجة الإفْ-إمْ والذي يبدو له أنّه يشي بـ”الحُمق”، أنّ الحمقَ سيكون نواةً صلبة لا يمكن تفتيتُها، عنصرا ابتدائيّا: إذ لا حيلة لتفكيكه علميًّا (لو كان التحليل العلميّ للحمق ممكنا، لهوَت منظومةُ التلفزة برمّتها). فما هو؟ هل هو مشهَد، خيال استطيقيّ أو ربّما استيهام؟ ربمّا كنّا نرغب في أن نوضع ضمن اللّوحة؟ هذا جميلٌ وخانق وغريب، وعن الحمق لن يجوز لي أن أقول إجمالا، إلاّ التالي: إنّه يفتُنني. سيكون الافتتان الشعور الصحيحَ الذي يلهمني الحمقُ إيّاه (إذا أفلح المرء في النطق بالاسم): فالحمق يحيط بي ويضيّق عليّ الخناق (فهو ممّا لا يمكن معالجته، ولا شيء يصدّه، إذْ أنّه يحملك حملا على لعبة اليد الساخنة).

أن تحبّ فكرةً بعينها

وُلع لردح من الزمن، بالإثنيْنيّة الفونولوجيّة: كانت الإثنيْنيّةُ بالنسبة إليه، موضوع عشق فعليّ. وكانت هذه الفكرة لا تبدو له البتّةَ على أنّه ينبغي أن نفرغَ من استغلالها. أن يكون بوسع المرء أن يقول كلّ شيء بواسطة فرْق واحد، فهذا ما كان يُنتج فيه ضربا من البهجة واندهاشا متّصلا.

وبما أنّ أشياء الفكر تشبه في الإثنيْنية، أشياء العشق، ما كان يستسيغُه إنّما هو الشكل. هذا الشكل سيجده بعد ذلك بوقت طويل، متطابقا ضمن تضادّ القيم. وما كان يتعيّن أن ينحرف (عنده) عن السيميولوجيا، كان في بادئ الأمر مبدأ المتعة: إذْ أنّ سيميولوجيا تتخلّى عن الإثنينيّة، لم تعد تشغلُه على الإطلاق.

الفتاة البرجوازيّة

حين تشتدّ الاضطرابات السياسيّة، يعزف على البيانو ويرسم بالألوان المائيّة: كلّ المشاغل الكاذبة لفتاة برجوازيّة في القرن التاسع عشر. – أعكس المشكل: ما الذي في ممارسات الفتاة البرجوازيّة قديما، يفيض على أنوثتها وطبقتها؟ ما عسى أن تكون يوطوبيا تلك السلوكات؟ كانت الفتاة البرجوازيّة تنتج بلا جدوى وبرعونة ولأجلها هي بالذات، ولكنّها كانت تنتج: كان ذلك هو شكل كدِّها الذي تختصّ به.

الهاوي

الهاوي (الذي يمارس الرسم والموسيقى والرياضة والعلم من دون التفكير في السيطرة أو في التنافس) يجدّد متعتَه (“أماتوْر” من يحبّ وما ينفكّ يحبّ)؛ وليس هو البتّة ببطلٍ (في الإبداع والتفوّق)؛ فهو يقيمُ بلطْف (وبلا أيّ غاية) ضمن الدالّ: ضمن ما هو مباشرةً المادّة النهائيّة للموسيقى والرسم؛ ولا تتضمّن ممارسته عادةً، أيَّ روباتو (سرقة الموضوع تلك لصالح المحمول)؛ إذ أنّه ربّما سيكون الفنّان المضادّ للبرجوازيّة.

ما يعيبه بريشت على ر. ب.

يبدو ر. ب. دائما على أنّه يلتمس تقييد السياسة. أوَ لا يعلم أنّ بريشت يبدو أنّه قد كتب له هو بالذات؟

“أستطيع على سبيل المثال، أن أحيا بقليل من السياسة. هذا يعني أنّي لا أريد أن أكون ذاتا سياسيّة، ولكن لا يعني أنّي أريد أن أكون موضوعَ كثير من السياسة. بيد أنّه يجب أن يكون المرء إمّا موضوعا للسياسة أو ذاتا سياسيّة، ولا وجود لخيار آخَر؛ وليس يتعلّق الأمر بألاّ يكون هذا ولا ذاك أو أن يكون كليهما معا؛ وبالتالي يبدو ضروريّا أن أمارس السياسة ولا يعود إليّ أن أحدّد أيّ كمّ من السياسة لا بدّ أن أمارس. وفضلا عن ذلك، من الممكن فعلا أن حياتي برمّتها يجب أن تكون مرصودةً للسياسة، بل أن يضحّى بها للسياسة.” (كتابات في السياسة والمجتمع، ص. 57)

 

محلُّه (وسَطُـه) هو اللّغة: في هذا الحيّز يقبل أو يرفض، وفيه يكون جسده قادراً أو لا يكون. فهل يعني هذا أن يضحّي بحياته اللّغويّة لأجل الخطاب السياسي؟ يحبّذ أن يكون ذاتا سياسية، لا متكلّما سياسيّا (المتكلّم: من يقول قولَه ويقصُّه وفي الوقت نفسه، يبلّغه ويوقّعه). وبما أنّه لم يتوصّل إلى خلْع الواقع السياسيّ المتكرّر عن خطابه العامّ، فإنّ السياسيّ هو في نظره، مستبعَدٌ. لكنْ، بناءً على هذا الاستبعاد يمكنه على الأقلّ أن يُخرج المعنى السياسيَّ لما يكتُب: فالأمر يجري كما لو أنّه كان الشاهدَ التاريخيَّ على تناقض بعينه: تناقضَ ذات سياسيّة حسّاسة ونهمة وصَمُوتٍ (لا ينبغي الفصل بين الكلمات).

ليس الخطاب السياسيُّ هو وحده الذي يتكرّر ويعمَّم ويُنهَك: إذ إنّه حالمَا يقع في موضع مَّا، تحوّلٌ للخطاب، تنتج عن ذلك ترجمةٌ مبتذلةٌ مع ما يساوقها موكبًا منهِكا من الجمل الثابتة. وإذا كانت هذه الظاهرة تبدو له بخاصّة ممّا لا يُطاق في حالة الخطاب السياسيّ، فلأنّ التكرار يتّخذ ضمنها شكلَ الإفعام: السياسيّ إذ يجري مجرى العلم الأساسيّ للواقع، إنّما نهبُه استيهاميًّا، منتهى القدرة: القدرةَ على قهر اللّغة وعلى اختزال كلّ ثرثرة إلى بقاياها الواقعيّة. كيف نحتمل إذّاك ومن دون حِداد، أنّ السياسيَّ يتبوّأ هو أيضا المنزلة التّي للّغات ويتحوّل إلى بابل؟

(لكي لا يتورّط الخطاب السياسيّ في التكرار، لا بدّ من شروط نادرة: إمّا أن يؤسّس هو نفسه ضربا جديدا من القول: وتلك هي الحال بالنسبة إلى ماركس؛ وإمّا أن ينتج المؤلّف بكيفية أكثر تبسيطا وبناءً على تعقّل مبسَّطٍ للّغة، أي بواسطة العلم بمفعولاتها الخاصّة، نصّا سياسيّا يكون في الآن نفسه، صارما وحرّا، ويتحمّل علامةَ فرادته الاستطيقيّة كما لو كان يخترع ما قيل وينوّعه: كما هي الحال بالنسبة إلى بريشت في كتابات في السياسة والمجتمع؛ وإمّا أيضا أنْ يسلّح السياسيُّ مادّة اللّغة نفسَها ويحوّلها: وهذا هو النصّ، من مثل نصّ القوانين).

(*) مقطع من كتاب “رولان بارت بقلم رولان بارت” ترجمة ناجي العونلّي، يصدر قريباً عن منشورات الجمل، وننشر النص بالاتفاق مع الناشر

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى