صفحات الرأي

الربيع العربي والطغيان الغيبي نقيضان لا يلتقيان أبدا؟


مطاع صفدي

كلما أقترب العرب من الحياة السياسية كممارسة إجتماعية، تعصف بهم الغيبيات مرةً بعد أخرى. هذه الواقعة ليست حكمة فلسفية ولا قانوناً تاريخياً، لكنها نوعٌ من انبعاث الطغيان الأشبه أحياناً بعدوان الاستعمار، بيد أنه نابعٌ من ضحاياه أولاً، قبل أن يكون مستورداً أو مفروضاً من الخارج بفعل ‘المؤامرة’. فلقد تكررت ظاهرة الطغيان الغيبي هذه عبر مفاصل مغرقة في تاريخ الانحطاط العربي، ومع عودتها إلى مسرح الحدث المسمّى بالنهضوي إلا تعبيراً عن هشاشة المرحلة التاريخية، وابتعاداً مفجعاً عن ممارسة السياسة الطبيعية بين الأفراد أو القوى والمكونات الإجتماعية المختلفة.

لم تعرف مجتمعاتنا الناهضة، كيف تتعاطى مع ثقافة الحريات العامة التي لم نتعلم منها إلا شعاراتها الفوقية الحاكمة في ظل الطغيان السياسي، النازلة من أعلى، أي من قمم السلطات لكي يتلقفها الطغيان الآخر الموصوف بالغيبي، والمتصاعد من بؤر الجهل والغريزة والتعصب، المعششة بذورُها في حقول هذه الدول شبه المستقلة، لكنها الغارقة في بحران أمراضها المزمنة الذاتية المستعصية. فلم يتح للسياسة أن تهبط قليلاً من مستوى بعض النخب الثقافية والعسكرية إلى طبقات السواد الأعظم من مجتمعات (الأمة)، فقد تُركت [الجماهير] هذه جملةً وتفصيلاً بعيدةً عن كل حراك عام تلقائي، ظلّت مجرد مواد إنسانوية خاضعة ومطواعة للانصباب في القوالب الجاهزة الساقطة عليها من فوق هاماتها ورؤوسها.

هكذا كان تغييب الكتل الجماهيرية الكبيرة وإخفاؤها وراء حدود كل مجال وطني أو جماعي، أشبه بالمحرك المركزي لمختلف صيغ الطغيان الأخرى، التي يفرزها انحطاط متجدد، في نسيج البنى المجتمعية، مرافق ومغذّ لأسوأ متغيرات السلطات الفوقية.

هكذا تمت كتابة تاريخ الاستقلال الوطني، عبر الأحداث الجسام المتتابعة على سطوح هذه المجاميع البشرية دون أن يكون لجماهيرها الكبيرة أية علاقة بأسبابها المباشرة، ولكن كان يُطلب منها فقط الانصياع لمتغيرات، ليس لهذه الجماهير فيها أية مصلحة حقيقية، سوى أنها شاهدة صامتة على أفعال الآخرين بمصائرها. فالغياب عن الأفعال العامة، سبب حقيقي في تفشي ظاهرة الارتداد إلى القوى الميتافيزيقية التي قد يُنسب إليها القدراتُ الكلية، وبالتالي يغدو الانصياع إلى الناطقين باسم عقائدها أشبه بالانتماء إلى أقوى القوى المحركة للعالم، كأنما ليس لمجتمعات هذه الأمم المغلوبة على أمرها ما تفعله بإرادة أحرارها، وليس فقط إزاء (مؤمرات) أسيادها الوطنيين والأغراب معاً.

السؤال عما يحدث للكفاح الثوري عندما ينبثق فجأة حاملاً لأعلى الأفكار وأنبل الأهداف الإنسانية، ما الذي يحدث له حين يُصاب بالنكسات والارتدادات ويتم تعليق شعاراته تلك على حوامل لا علاقة لها بالواقع المباشر.

ليس من جواب مقنع يقدمه العلم المعاصر إلا في اعتبار أن الخيبة السريعة من عجز الأفكار المثالية عن التحقق المباشر قد تدفع بالمجاميع البشرية إلى الارتداد عنها، إلى انتماءاتها شبه الغريزية، لعلها تجد فيها مأوى فكروياً يعيد إليها شيئاً من الطمأنينة.

ذلك أمرٌ واقعٌ فعلاً، إذ أن الثورة الواعدة بالتحولات الحاسمة، لا يمكنها أن تحتفظ بحماسات قطاعها البشري الحركي، من دون أن تترك على الأرض بعض أثار أفعالها الكبيرة. تلك الأفعال لا يمكن اعتبارها منذ البداية أنها صانعة للمعجزات، ولا هي قادرة على شق صخور الواقع القاسي، لا بالسرعة المتصورة ولا بالامكانيات الجاهزة المتواضعة إجمالاً. وكأن آمال الثورة لم تعد سوى عوارض مشبعة سلفاً بنوازع انتصارات لم تتحقق بعد، وإن كانت مفعمة بوعودها البراقة.

بينما تحصر الثورةُ اهتمامَها بعدوها الأكبر المتجسد أمامها، فإنها تترك حدودها الخلفية والجانبية مفتوحة أمام من هبَّ ودبَّ من مختلف أصناف الطارئين، من لصوص الإنجازات التاريخية، من وراء ظهور أبطالها الأصليين. فما تعانيه ثورة الربيع العربي السوري، بعد المصري والتونسي خاصة، من هؤلاء الطارئين، يكاد يُفقدها هويتها الأصلية، ولعل أخطر ما في موجات الطارئين على مسيرتها ومبادئها، هو ما يمثله فائضُ التعصب الأعمى للأفكار الجاهزة المسبقة، وأعنف ما في هذه الأفكار هو النوع المتشبث بالمرجعيات الغيبية، إذ لا يتبقّى ثمة منافس لهذه المرجعيات خارجاً عن سلطانها، إنها متحفزة دائماً لمحو كل (آخر) لا يقبل الانبطاح تحت طقوسها. فليس الاستبداد وحدَه هو الذي يحتكر وسائل الاستغلال في مجتمعاتنا، كذلك فإن الحركات المضادة له والموصوفة أصلاً بالثورية والشعبية قد تخضع للتوظيف والاستغلال، حتى تكاد تتناسى أهدافها الأصلية.

الطغيان الغيبي ليس ثورياً في أصله، ومن مهماته الأساسية التسلّط على ثورات الآخرين. فليست البرجوازية هي المنتجة للثورات المضادة فقط، ولعل مصطلح: الثورة المضادة ينطبق على تحرك الطغيان الغيبي أكثر من سواه، وهو ليس نابعاً فحسب من طبقات إجتماعية عليا، بل ترفده تحشيدات البروليتاريا شبه الأمية. فهذه القطاعات تنطوي على نوع من القوى الاحتياطية التي يستنفرها الطغيان الغيبي ويجنّدها في خدمته، مستغلاً حماساتٍ شعبوية يغذيها بأساطير الماورائيات وأشباه المعجزات، فكانت أكبر عون احتياطي وجاهز لارتدادات الاستعمار على أوطاننا، شبه المتحررة من احتلالاته العسكرية السابقة. فالثورة في الأصل هي التضحية بالذات من أجل الآخر، والطغيان الغيبي هو على العكس تماماً. إنه المضاد لكل آخر لا ينتمي إلى أتباعه المريدين، ولقد تكشّفت جولات الطغيان الغيبي، عبر حقبة النهضة العربية الثانية ـ ما بعد الاستقلال ـ عن أدوار صارخة في إنتاج نوع العقبات الذاتية داخل حركات التقدم ومن حولها. فإن النكسات التي كابدتْها ثوراتنا العربية الماضية، لم تكن في منجاة عن أساليب الطغيان الغيبي الذي كان يغتال حركات الشبيبة الناهضة، وهي بين أيديهم، مستعيناً أحياناً بأساليب الثورات عينها، ليجعلها ترتد على أصحابها بأسوأ النتائج.

فلنَقُلْ بصراحة أخيراً: أن الربيع العربي والطغيان الغيبي متضادان لا يلتقيان. ومن طبع هذا الطرف الثاني ـ الطغيان ـ، رغم مختلف صيغ المناورة والتلفيق والتكاذب عبر ما يُسمّى بالتحالفات التكتيكية أو الاستراتيجية، من طبعه الغدْرُ برفاق الدروب ما أن يلوح منعطف النهاية الآنية المنقضية بعد كل تحالف ظاهري بين النقيضين، هذا الذي سوف يصبّ في مصلحة النقيض السلبي حتماً. وإذا كانت الثورة السورية خاصة، قد اضطرت بعضُ قياداتِ معارضتها الخارجية إلى عقد التحالفات مع أقطاب الغرب باسم الضرورة التكتيكية على الأقل، فإن الجماعات الثائرة في الداخل تعرف جيداً أنه لا مصلحة لها أبداً في عقد أية علاقة تنظيمية أو سياسية مع سلالات الإرهاب الغيبي، خارجياً أو داخلياً. وتدل تجارب المِحَن المتواصلة أن أسوأ ما يقع لهذه التحالفات ـ إن تحققت ـ هو تشويه أخلاقية العمل الثوري كلياً ما أن ترتكب بعضُ فصائله الفاحشة الكبرى. كأنه يضطرإلى استخدام عين الوسائل الدموية التي يدينها عند أعدائه. فالثورة إن أجبر جانبٌ منها على حمل السلاح، ليس ذلك إلا دفاعاً عن سلميتها وأخلاقيتها، في الحساب الأخير، وضداً على ديمومة الوحشية المتسلطة على كيان الدولة والأمة، لن تنحدر الثورة إلى مستوى عقليتها وأدواتها، لكن أشباه الثوار الطارئين الحاملين لأساطير الطغيان الغيبي، يبررون أتعس وسائل العنف إذ أن جوهر تحركهم يقوم على إلغاء الآخر كائناً من كان، حليفاً ثورياً أو عدواً استبدادياً.

ما يعنيه إلغاء الآخر، هو حرمانه من حرياته الأساسية، تجريدُه من إرادته الشخصية إلا فيما يُعتبر طاعةً مباشرة للأوامر الفوقية التي قد يُعطى لها تعابير اصطلاحية من الثقافات الدينية. لكنها في حقيقة الأمر، لا يمكنها إلاّ اعتماد الحقيقة الواحدة التي هي من صنع ما فوق عقلي، وليس لوعي الإنسان إلاّ أن يستظل ببعض أنوارها. فقد يجنح بعض الباحثين إلى اعتبار بعض مصادر التراث سبباً وحيداً لانعدام ثقافة الحرية من تقاليد الأخلاق الشائعة في مجتمعات الشرق.

لكن المسألة أن الطغيان الغيبي لن يكون محايداً في الأمور السياسية، بل يجعل من ذاته الخصم والحكم معاً في كل قضية ما دام ممتلكاً دائماً لصندوقٍ من الحلول الجاهزة، يستطيع أن ينتشل منها ما يشاء من التسويغات والمبررات سلباً أو إيجاباً، ثم يخترع لذاته دائماً أساليب التنصل من المسؤوليات الفعلية عن أية أحداثٍ ظاهرة أو متوارية، ويجعلها مرتبطة بعللها الموغلة في التجريد، بحيث يمتنع تحديد هويته، وإن عُرفت أوصافه الكلية غير المصرّح عنها، ذلك أن (المطلق) لا يمكن التعبير عنه بأية مقولات جزئية، فليس ثمة حوار قابل للتبادل بين الأطراف البشرية فيما بينها عندما تتدخل النصوص المقدسة لتفرض حدودها، عندئذ يصبح التفكير الإنساني محصوراً فقط في مجال شروحات الشروح، ما يجعل الوصول إلى ينبوع المشكلة ممنوعاً، أو ممتنعاً من قبل الباحثين عنه، فلا أحد يمكنه أن يخترق حدود المجهول ويعود منه بتقارير واضحة عن مشاهداته في ربوعه..

ومع ذلك لا تزال الثورة العربية قادرة على اكتشاف عقباتها الكبرى، ولن يكون الطغيان الغيبي إلاّ واحداً من أصعب تحدياتها الدائمة، متربص بها في كل منعطف تاريخي أمامها.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى