صفحات الرأي

هزال التضامن مع السوريين أم استهلال رابطة وطنية؟

وضاح شرارة
يسأل يوسف بزي عن السبب فيما يسميه “فراغاً سياسياً ووهناً لبنانياً عاماً إزاء الحدث السوري، ونأياً بالنفس” عن ملابساته اللبنانية الداخلية وانقسام اللبنانيين حزبين كبيرين هما حزب 8 آذار وحزب 14 آذار (“نوافذ”- “المستقبل” 25 آذار 2012). ويخلص، في أعقاب إحصائه الدعوات الى التظاهر ووصفه التظاهرات كماً و”نوعاً” (مكانات)، الى التسليم بما أعلنه وسم المقال وهو “امتناع السياسة” في كنف “المتن” الطائفي في لبنان اليوم، معاصر “الثورات العربية”، واقتصار “لبنان” على “ساحة هوامش”: الأمانة العامة لقوى 14 آذار، مشاركة رمزية للحزب الاشتراكي “ولقصر المختارة بالذات”، حضور منظم لمجموعة من الناشطين الآتين من الضاحية الجنوبية… وما عدا السهو والغلط، تناول صاحب “المرقط” و “نظر إليَّ ياسر عرفات وابتسم” المسألة في مقالين سابقين. وعليه، فهذا مقاله الثالث. وهو ربما تكلم في الموضوع الذي يلح عليه شفاهاً وخطابة. وأنا (وهي خير من “كاتب هذه الأسطر” أو “الموقع أدناه”، ومعرض الكلام أو بعضه شخصي أو ذاتي) أشارك يوسف بزي السؤال، ولم يسبق أن شاركته الدعوة ولا التلبية أو الحضور. ولم أتردد كثيراً في اختيار الاستنكاف والميل إليه، في المرتين الأوليين اللتين دعي فيهما الجمهور، من “المستويات” كلها وأحسب نفسي وغيري في عوامها بديهة، إلى التجمع والتظاهر. ومن بعد المرتين لم “أفكر” في المسألة، ولم أتردد و “قعدت” لا طاعماً ولا كاسياً ولا حاسباً أن البغية هي “المكارم”.
فلماذا، حقاً، هذا القعود “اللبناني”؟ (وهذا من باب تعيين المكان ليس إلا). ولعل بعض عسر الجواب مصدره عموم الاستنكاف والإحجام (البيروتيين في المرتبة الأولى) “جناحي” الجمهور، المسيحي والمسلم، وجناحه الفرعي أو الجزئي العلماني “الثالث” (وهو على هذا زغب الجناح المفترض وليس ريشه)، على غرابة التصنيف وطرافته. ولولا العموم هذا لجاز ربما الاستنجاد والتعليل بعروبة راسخة من هنا وذاكرة اضطهاد مديدة من هناك، وبانقسام “الصف” الإقليمي من هنالك. فلماذا لا ينحاز “المسلمون” اللبنانيون، وأهل السنّة منهم على التخصيص، إلى “أهلهم”، المسلمين السنّة والعرب، في سوريا؟ وتدعوهم الى الانحياز شراكة طبيعية أو غريزية “صنعها الله” على قول الأسدي الأول، وذاكرة اضطهاد وإذلال واحتلال سامهم بها ضابط الاستخبارات السوري وتوجها بالشوك اغتيال رجل دولتهم الوحيد منذ مصرع رياض الصلح برصاص “قومي سوري” سوري قبل ستين عاماً وعام واحد. وتدعوهم الى الانحياز من وجه ثالث، مصلحة وطنية وإقليمية مشتركة ينبغي ألا يشك أحد في منافع تقييدها الدور “المفتاحي” الشامي ونفخه الأرعن والمتهور في القضايا العربية المتقرحة والمزمنة، بعد ثلث قرن من الاختبار والمكابدة. ولماذا لا ينحاز “المسيحيون” اللبنانيون إلى من يتقاسمون معهم اليوم رأيهم القديم والثابت في استبداد النظام العسكري والعروبي بسوريا (وغيرها)؟ وهم نعوا على هذا الصنف من الأنظمة عدوانها على الحريات الخاصة والعامة، وتحطيمها القوى الاجتماعية المدنية والأهلية، ومناهضتها الغرب مناهضة هستيرية ومتشنجة، وتوسلها بالمسائل العربية المشتركة إلى فرض سياسات مستولية وباهظة التكلفة. وكان لبنان مسرح هذه السياسات المدمرة، ولا يزال. ولماذا لا ينحاز “العلمانيون” واليساريون والمدنيون اللبنانيون الى السوريين المتمردين على أشرس صنف من الحكام الطائفيين والمذهبيين العرب، وأشدهم إنكاراً للـ “حريات الديموقراطية والنقابية” وللأحزاب المعارضة والحليفة، وأوقحهم فساداً وكبحاً لإنتاج الثروات الوطنية وتوسيعاً للفروق بين الطبقات، وأذرعهم قتلاً واغتيالاً للقيادات الفلسطينية الوطنية؟
ولا ريب عندي في أن هذا النمط من الأسئلة، المنطقية والعقلانية (أو المعقولة، تواضعاً)، لا جواب عنه. وهو يفترض أن الجماعات تطرح على نفسها، وعلى غيرها من الجماعات، أسئلةً مراجعُها أو بواعثها هي مصالحها المشتركة والمتقاسمة والمدركة على هذا النحو أو هذا الوجه من الاشتراك والتقاسم والإدراك معاً. وليست هذه حال الجماعات، ولا حال أسئلتها. والحق أن هذه الأسئلة تقبل القلب والإبدال. فالسؤال الذي ألح عليَّ، وعلى أمثالي، طوال نيف وثلث القرن، وأظنه لم يغادر الى اليوم بعضنا (من غير أن أدري من هم هؤلاء الـ “نا” ولا كيف يُحد “سورهم”)، هو: لماذا لم ينتصر للبنانيين في محنة تمزقهم واقتتالهم ولبننتهم، على رغم زعم انطوان مسرة أن “لبنان لم يتلبنن”، سوريون يُحصون عدداً، أو بعض العدد (ما يقترب من إحصاء يوسف بزي الدقيق والكريم)؟ فانشقاقات الأحزاب السورية، الشيوعية والناصرية، منذ اوائل سبعينات القرن الماضي، كان مدارها على “المقاومة الفلسطينية”، وحربها “الشعبية” العربية والمسلحة المفترضة، وعلى تجديدها “مضمون” الحركة العربية الوحدوية واحتياجاتها الحيوية من مناهضة صارمة للإمبريالية ومصالحها وعملائها ووسائطها، ومن حريات تُسَلِّح الجماهيرَ بالبندقية والوعي “الشامل” والاستراتيجي ورأسه تمييز العدو من الصديق والإقبال على التعبئة والطوارئ والأحكام العرفية والتقشف…
وأنكرت “العقول المفكرة” السورية، من اليسار “العلماني” أو “القومي”، على لبنان انقساماً أرادوا الاعتقاد انه جيني، أو في جبلَّة البلد وأهله، على شاكلة اعتقاد رؤسائهم البعثيين منذ نصف قرن أن اللبنانيين يقتتلون في طبعهم وأن الداعي الى الاقتتال هو ميل بعضهم إلى “أعداء الأمة العربية” (بشار الأسد في كل خطبه منذ اغتيال رفيق الحريري). وبعض هذه “العقول” كان مقيماً على هذا الاعتقاد إلى أسابيع خلت. وهو لا يعوِّل على إرادة السوريين المنتفضين في سبيل رفض اقتتال الأهل المتحاجزين، ولا على “نقد” الحركة الوطنية والديموقراطية السورية إرث التسلط المذهبي والكوارث التي جرها على السوريين، بل يعوِّل على الفرق بين الطوائف السورية غير الطائفية وبين انقسام الطوائف اللبنانيين الطائفية!
وهذا رأي، إلى تقريره ما عليه البرهان عليه، يقر للسلطان المذهبي السوري بما يزعمه لنفسه، أي تعهده وحدة السوريين الوطنية وتماسكهم دولة ومجتمعاً. وهذا كذب مشهود قام السوريون عليه، وعليهم “فضحه” عملاً وسياسة قبل فضحه قولاً. وهو يقر للجهاز العشائري والبيروقراطي البوليسي بصدق ما ردده طوال ثلث قرن في لبنان واللبنانيين، وحرض عليه، وسوغ به تسلطَه على اللبنانيين، جماعات ودولة، وقَمَعه حركات الاحتجاج السورية نفسها، “المقاتلة” الإسلامية منها أو المدنية الوطنية والسياسية والاجتماعية. وصدق السوريون المتعلمون اليساريون مزاعم فلسطينية فصائلية وسورية بعثية في أن مقاومة لبنانيين كثر، معظمهم مسيحيون، تصرف المنظمات الفلسطينية المسلحة بمصائرهم تصرفاً متعسفاً و “قومياً” (عروبياً) إنما الباعث عليها انعزالية محلية دينية وانقياد الى مصالح الغرب الاستعماري (والصليبي ضمناً على تأويل عصبي وأهلي إسلامي وشعبي) وتبعية مزمنة.
ولم يدر بخلدهم أن “ضحايا الضحايا”، على قول إدوارد سعيد في أهله وقومه الفلسطينيين بإزاء المهاجرين واللاجئين اليهود الأوروبيين الى فلسطين، لا يعدمون التسلط بدورهم على ضحايا من الدرجة الثالثة هم نحن. ومعظم السوريين اليساريين ناط بالحركة الفلسطينية المسلحة، وبحيازتها شروط الدوام والامتداد والتعاظم، مصير الحركات الوطنية والمحلية، المحكومة بالجزئية، وضيق الأفق (القطري)، وضعف حدة التناقض مع العدو الرئيسي والمهيمن، وبالمسالمة أو الموادعة. وحين يكتب أهل الرأي والقلم اليساريون هؤلاء فموضوعهم الأثير هو “فلسطين”، على المعاني الأسطورية التي تفتحت وانعقدت طوال معظم القرن العشرين، ويقيم عليها ناشرو وكتبة صحف “ناصرية قذافية” قرت على إيرانية حرسية ومجزية. ومن يتناول منهم موضوع الديموقراطية أو موضوع الدولة فقصاراه تذكر جملة من كاتب سوري، من “الاجداد” غالباً، تجمل القول الجامع والمانع، على مثال مدرس يجري عليه “المثقفون” السوريون. فلا يخطر ببال أحدهم أن تجربة اللبنانيين الطويلة قد تعلم شيئاً. وأحسب أن أحداً منهم لم يتواضع على قراءة صفحة من ميشال شيحا أو عمر فاخوري أو بشارة الخوري.
هؤلاء السوريون، إذا لم يختصرني، فرداً أو جماعة، تفكير عاقل محض ومتعالٍ عن الهوى والميل والتذكر، لماذا أنتصر لهم وأؤيدهم؟ وأنا لا أزعم أن بعض إمساكي وتحفظي لا يعود إلى الأساليب المخيفة التي توسلت بها قواتهم وأجهزة استخباراتهم إلى “حكم” اللبنانيين والفلسطينيين وردعهم وقمعهم حين دخلت لبنان على شاكلة “قوات سلام عربية معززة”، قبل أن تنقلب قوة احتلال ووصاية ضرورية وموقتة ويقتضي انسحابها أو إعادة انتشارها طلباً على الحكومة اللبنانية ان تتقدم به الى “المجلس الأعلى” وأمينه العام المرتجف في حضرة السلطان السياف والمريض (يومها). ومن الأساليب هذه أسلوب محبب هو التصدي للمتظاهرين بـ “متظاهرين” مثلهم، على شاكلة “الأحباش” في موقعة السيوف والخناجر “الجميلة” وشاكلة رجال الأمن في 7 آب 2001، وللمؤتمرين الصحافيين بمؤتمرين مثلهم، الى بعض السلاح الفردي الظاهر والحق الصريح في الرد المباشر واعتلاء المنبر عنوة، على ما حصل حين حسب جبران تويني، الصحافي، أن صفته النقابية تخوله الطعن في بعض وجوه “الإدارة” الاحتلالية الثقيلة والمتمادية. وكان حشد 8 آذار (2005) في ساحة رياض الصلح رداً من الصنف الصلف نفسه على تظاهرات تشييع رفيق الحريري، والاعتصام في ساحة الشهداء، والمسيرات المتواترة الى موقع الاغتيال بميناء الحصن. وكرت سبحة التصدي والرد. واحترف “القوميون السوريون – الاجتماعيون”، منذ قيام السوريين على طاغيتهم، ما تولاه “الأحباش” بعض الوقت على نحو مسرحي “جميل”، وتولاه الحرسيون الخمينيون على نحو كوري شمالي وهوليوودي.
ولوح هذا الضرب من الجواب، قبل أن تنوه بهلهلة سينماه ضآلة عدد المتظاهرين تأييداً للسوريين المنتفضين على “مسرورهم” الجلاد، باستئناف ما برع فيه الجهاز البوليسي الاسدي، طوال عهده المديد في لبنان بعد سوريا، من قتل بالواسطة، وتخفٍ وراء الدمى المتحركة المشلولة والمتعثرة، وتقنّع بالمقاومات والعمامات والمقامات. وهذه البراعة أوتيها الجهاز العتيد من باب عريق هو بيت قصيد في الملاحم اللبنانية. فمنذ 1952، أي “خلع” بشارة الخوري أو استقالته طوعاً، دارت الخلافات والمشادات اللبنانية على قضايا “عربية” إقليمية. وامتحنت هذه، على مقادير متفاوتة، تماسك اللبنانيين واستقلالهم بدولة وطنية “قطرية”. وفي ما يكاد لا يحصى من الحوادث والمناسبات (الإعلان الثلاثي في 1953، أزمة السويس في 1956، حلف بغداد في 1957- 1958، الجمهورية العربية المتحدة في
1958، الانفصال في 1961، “الحرب العربية الباردة” في 1961 1967، بدايات العمل الفلسطيني المسلح في لبنان في 1965- 1969 و “اتفاق القاهرة”،…)، ومن القرار السياسي “الأخير”، أي قرار الحرب. ولم يَصُغْ رؤساء الحكومة السنيون والعروبيون المسألة على هذا النحو، أي على النحو الذي صاغه عليه كمال جنبلاط في 1975 (وقبلها في 1958) واستأنفه الحزب الخميني المسلح في 1982، ومذذاك إلى اليوم.
واتفق انفجار الأزمات على الدوام مع حاجة الطرف العربي المهيمن، وقتذاك، إلى ميدان يحط فيه النزاع، ويختبر (الطرف المهيمن) فيه قوته بإزاء الدول الغربية أو الإقليمية المتصدرة والبارزة (إيران الشاه…)، أو بإزاء إسرائيل. وكانت الأزمات هذه ذريعة الجماعات الأهلية المسلمة، المتفرقة والمتنازعة قبل الأزمات وفي أثنائها وبعدها، إلى رص الصف ظاهراً، وإلى المطالبة عموماً إما بالتسلح “المفرط”، أو بالانضمام الى جبهة حرب مرتجلة، أو بقطع العلاقات الحيوية ببلدان “عدوة”، أو بفتح الحدود أمام جيوش عربية متخاصمة ومتآكلة، أو بحماية “ضيف” لا يتقيد بأضعف شروط الحذر والسلامة، أو بإشراك موظفين وضباط في هيئات أمنية وعسكرية لا يقرون بمعايير عملها ويتمسكون بتمثيل عصبياتهم وزعاماتهم فيها (على مثال وزراء خارجية “دولة الرئيس” الذاتية، ومدراء أو قادة الأجهزة الأمنية…). ولم يعالج اتفاق الطائف (1989) المسألة المتواترة، ونجم عنه فعلاً انتصاب الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة ولاية متعسكرة في قلب الدولة والمجتمع اللبنانيين، وجزءاً من مركب أهلي إقليمي ينتهك معايير علاقات الدول السيادية والإقليمية.
وخاض شطر عريض من اللبنانيين هذه الأزمات، والحروب التي نجمت عنها، بعد تردد في بعض الأحيان ومنقادين في معظمها، وحملهم الهوى العروبي، أو “الإسلامي” الذي لابسه وخلفه، وهما هويان سلطانيان وفاتحان الى استعجال الحروب أو إلى التسليم بحتمها. ولم يكن الشاغل الديموقراطي أو السياسي والدستوري، مرة واحدة، باعثاً على التضامن مع حركة شعبية أو سياسية في بلد عربي أو غير عربي. فالتضامن إما عصبي، “قومي”، يفضي لا محالة الى التضحية بالنفس وتقديمها قرباناً على مذبح الهيكل المقدس، وإما عَدِم المعنى وانتفى منه. فشاع في أوساط السياسيين المسيحيين قول مأثور ذهب إلى أن تلبية مطاليب الجماعات المسلمة والعروبية من طريق “إعطاء العرب”، السوريين على وجه الخصوص، والنزول لهم عن امتيازات عسكرية أو أمنية أو اقتصادية، وليس”إعطاء” اللبنانيين المسلمين في الهيئات والمؤسسات، هو الحل الأيسر والأنجع للأزمة. واستقر دمج البرنامجين منذ صوغ “الحركة الوطنية”، الفلسطينية العروبية المحلية، نقاطها الخمس التي تصدرها إنشاء مجلس عسكري طائفي (وهو كان طائفياً) “متوازن”، أي ترجح في ميزانه احتياجات الحرب الفلسطينية. وانتهى هذا الى “عقيدة” “المقاومة والشعب والجيش” و”استراتيجية دفاعها” المعروفة والمشهودة، وإلى رجحان احتياجات الردع الإيراني السوري.
وهذه الحروب، مع مقتضياتها الأهلية والداخلية، خاضها شطر راجح أو غالب من اللبنانيين، منقادين الى عصبيات لا توسع كثيراً، ولا قليلاً، للرأي المعلّل، أو التكتلات السائلة والمتقلبة، والانقسامات المركبة، وللتداول على الكثرة والقلة والحكم بالنيابة عن الكثرة الموقتة، ولا تراعي ثبات القوانين الأساسية، ولا تحتكم الى النتائج المقررة والمحاسبة عليها. فهذه أصول أو مبادئ إجرائية، أو شكلية وصورية، شأن نواة الديموقراطية. وهي تفترض أو تشترط هدم العصبيات التي تقدم روابطها الداخلية، ومراتبها وأعرافها، على القواعد العامة والمشتركة. فيستميت الجمهور، وهو جموع وأجسام، ويستبسل في “الدفاع عن عبوديته”، على قول صاحب “روح الشرائع”، أو لحمته “القومية” والدموية، وينيط قوته في “الصراع على الوجود” أو “المكاسرة”، على قول خبراء استراتيجيين أسديين (من وزن فريق مستشارات الوارث اللعوب)، باللحمة العمياء و “الميكانيكية”.
ويخالف هذا بعض ما تلتمسه الحركة السورية المتعرجة، والمترجحة بين تقدم وركود، من بلورة أعمال تدمج الناس الخارجين من بيوتهم وعائلاتهم وأحيائهم ومهنهم في تيارات وكتل و “ساحات” جامعة ومؤثرة، من غير إلغاء أو اطراح نازعهم الوليد إلى العبارة غير المقيدة أو النمطية عن رغباتهم في التعارف والكلام والمداولة والاختبار. ويؤدي تنازع السوريين وحركتهم بين تماسك يغرف من قاع العصبيات الأهلية وبين ابتكار مثالات علاقات ترسي التداول والتنسيق والتكليف على قواعد إجراء مقبولة، يؤدي دوراً مزدوجاً. فهو معين تجدد، وباعث على خروج موارد إنسانية وسياسية من جمودها “الأسدي” وعقمها إلى العلانية. وهو، من وجه آخر، يعقد التنسيق، ويبعثر طاقات كثيرة في الطريق، ويرجئ تنفيذ ما تقدم التواضع عليه. والحق ان التنازع لا ينفك من الحركات الوطنية (على خلاف “القومية” العصبية) والديموقراطية المدنية (على خلاف الشعبوية الجماهيرية في صيغها الدينية والمذهبية على الخصوص). فهذه الحركات تستبق غالباً ما يقوم من الأنظمة الديموقراطية بمنزلة الركن أو المحور، وهو الفرق بين المجتمع وحقوقه (ومنها “الحق في الخروج” والانفضاض) وبين الدولة وقوانينها. وينزع الفرق هذا الى الشقاق، ويجعل “الحكومة” الديموقراطية، المضطرة الى احتساب الكثرة والاختلاف والتقريب، عسيرة ومضطربة. ويخلع عنها امتياز التجسيد والامتلاء الماثلين في “صنم” أو هُبَل تملأ تماثيله ومجسماته الميادين والساحات ومداخل الإدارات.
وتُرددُ الحالُ هذه اصداءَ “واقعة” سياسية وثقافية عربية ضخمة هي حمل الحركات الوطنية والاستقلالية النهضوية الحرية على معنى السيادة الخارجية. وهو المعنى الشائع والغالب على البعث وحركة القوميين العرب ومنظمات وحركات التحرير المتفرقة، وفي التيارات “الإحيائية” الدينية المعتدلة و “الجهادية”. وأما السيادة الداخلية وموجباتها، من اضطلاع المواطنين في صورة الشعب بالتشريع وتولي الدولة قوة القانون العام والواحد وتقسيم السلطات وضمان الحريات الخاصة والعامة، فعريت في نظر السلطان ومعظم الرعية من مقومات الانتصار في “حرب الوجود” المتطاولة. فموجبات السيادة الداخلية لا تدعو، في المجتمعات العصبية التي تقودها عصبية دولة مستولية، إلى “الذوبان” (“ذوبوا في الخميني كما ذاب الخميني في الثورة”، عن “آية آيات الله العظمى” محمد باقر الصدر، عن أحد جدران حي اللجا ببيروت في أواخر الثمانينات)، ولا إلى التظاهر المائج ولباس الأكفان.
ولست أتهم يوسف بزي بالحض على مثل هذا أو نظيره وشبهَه. ولكنني أحدس في رغبته في يقظة حماسة عامة وهادئة تملأ الطرق والساحات اللبنانية والبيروتية التي امتلأت، من حيث لم يدرِ أحد بالناس العاديين غداة اغتيال رفيق الحريري، أولاً بالمتظاهرين الديموقراطيين والمدنيين، رغبة عامة ومشتركة. فلا نناصر السوريين المكلومين والمستفيقين من كابوس الطاغية وغبائه الثقيل والخانق وحسب، وهذا ما يفعله أهالي طرابلس وعكار على طريقة أهلية ينبغي ألا يستهان بها أو يغفل عنها، بل نطمئن حقيقةً الى أن إنجاز 14 آذار (وسياقته الطويلة) لم يتآكل، ولم يطفئه الردم والحطام اللذين أهالتهما “القيادة السورية” وحواشيها المسلحة والمتحزبة عليه، وتركنا تعهده وتثميره في ثقافة سياسية معاصرة. ونيقن، فوق هذا وذاك، أن طلبَ دولة مدنية وطنية ومتعددة القوى والمشارب السياسية والاجتماعية والأهلية، ومقرة بحقوق مواطنيها ومساواتهم، والوعدَ بها، توطنا من غير رجوع ولا إبطال في قلب أهوائنا وأفكارنا السياسية والعامة. وأنهما، الطلب والوعد، أصبحا أو صارا هويين أو ميلين أساسيين من أهوائنا وميولنا ودواعي قيامنا واجتماعنا ومنازعاتنا وتكتلنا. فهذا وحده، على ما نظن (“ن”؟)، كفيل بالتضييق على غلواء الإسلاميين، والحؤول دون استيلائهم وانفرادهم، وسؤالهم عن علة تمسكهم بنسبتهم الدينية السياسية وليس الشخصية – حين يجهرون (مثل إخوانيي سوريا في وثيقتهم باستانبول في 25 آذار المنصرم) مدنية تامة، على قدر ونحو ما هو كفيل بقطع الطريق على عودة غول السلطان، والتهامه الحريات والحقوق والقوانين والأرواح.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى