صفحات الرأي

“الربيع العربي” ومعركة الأفكار


فؤاد سلامة

“إن كان هناك من يجب أن يُستدعى فكره وتُستحضر روحه الوثابة في أيامنا هذه فلا أحد غير عبد الرحمن الكواكبي. إنه طاووس الحرية الذي تبختر في شوارع حلب الشهباء رغم الاستبداد التركي الذي كان يكيد له صباح مساء. وهو حبر الحرية الذي خط “الطبائع” في حلب ونشرها في القاهرة حيث هاجر بحثاً عن حرية عشقها حتى الثمالة. لو لم تعمل طبائع الاستبداد على التخلص من الكواكبي باكراً، بالسم، وهو في ذروة عطائه في منتصف أربعينات عمره، لكان واصل إنتاجه الفذ أضعافاً مضاعفة. لكن يكفيه سفره العظيم “طبائع الاستبداد”. يكفيه أنه اختصر الجدل من اول المشوار وسطر أن “الحرية أم البشر” وأن “الاستبداد أصل كل فساد”. الكواكبي كتب بعمق وغضب في آن معاً. كتب بعمق قائلاً إن تاريخ وسيروة العرب تقضي بعدم قبول الاستبداد . وكتب بغضب مستهجناً أن يقبل العرب ديمومة الإستبداد “. (دكتور خالد الحروب/ أكاديمي فلسطيني / كامبريدج).

لا يكتفي الطغاة عندما يخوضون معركة الوجود والبقاء بالتنكيل بشعوبهم وارتكاب المجازر من دون التفات إلى قيم أو معايير أخلاقية. وعلى غرار المستعمرين القدامى والجدد الذين يدعون محاربتهم، فإنهم يحاولون كسب معركة الرأي العام، أي معركة الأفكار. وهم في سبيل ذلك، يسعون لكسب المثقفين والإعلاميين المؤهلين للإنضمام إلى معسكرهم، والدفاع عن فضائلهم ووطنيتهم، وحبهم للشعب وقضاياه الوطنية وعلى رأس هذه القضايا في العالم العربي القضية الفلسطينية ومناهضة الإمبريالية. إنها عدة الشغل الثقافية التمويهية للطغاة الذين لا يعادل “وطنيتهم” إلا دمويتهم وبربريتم.

ظهر واضحاً انقسام المثقفين حول الموقف من الزلزال الذي ضرب العالم العربي منذ نهاية العام 2010، وما زال يتفاعل ثورات وانتفاضات إلى يومنا هذا. المثقفون الرافضون والمشككون بما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، يسخرون من الثورات العربية “الإسلاموية” بنظرهم، ولا يعيرون اهتماماً لمطالبة الشعوب العربية بالحرية والعدالة والكرامة، باعتبار أن هذه الأمور تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية إن لم يكن الثالثة. وهم يعتبرون أن لا ضرورة للثورة ضد الطغاة “الوطنيين”، خشية أن تكون هذه الثورة مطية للخارج الطامع والمتآمر، أو أن تقع في قبضة الإسلاميين الرجعيين. ويشكل بعض مثقفي الأقليات، المستفيدين من تحكم الأوليغارشيات العائلية الطائفية بالسلطة وأجهزتها، جزءاً لا بأس به من هذا الفريق المشكك، الخائف أو المتعالي.

المثقفون الداعمون لربيع الشعوب العربية، لا يبحثون في المقابل عن المسوغات الأيديولوجية لدعم الثورات العربية تحت أي مسمى كان. فسواءً حظي الربيع العربي بدعم الغرب ودول الخليج أم لم يحظى، فإنه يبقى بالنسبة لمعظم المثقفين بداية تأسيسية لتاريخ عربي جديد: تاريخ بروز الشعوب العربية كفاعل أساسي يقرر مصير القادة والأنظمة في هذه المنطقة من العالم، التي كان يحسبها الكثير من المثقفين العرب، تأثراً ببعض المستشرقين، عصية على التطور ورافضة بطبع شعوبها للديموقراطية.

وعلى غرار الثورات الكبرى فإن المعركة تخاض على أساس الأفكار أولاً، وتنتصر الأفكار عندما تنتشر بين الناس فتتحول إلى قوة لا تقهر، كما هو معروف. هكذا حدثت التحولات الكبرى في التاريخ، ولنا في بداية التاريخ. الإسلامي ما يؤكد هذه المقولة، وكذلك في الثورة الفرنسية، التي ما كانت لتنجح لولا أفكار التنوير. المحرك الأساسي للثورات العربية الراهنة، قبل الدعم الخارجي الذي يبقى محدوداً، وقبل المؤامرات والمخططات الغربية الحقيقية أو المتوهمة، هو فكرة الديموقراطية التي تختزل قيمتين أساسيتين دخلتا في وعي المواطنين العرب ووجدانهم بعد طول اختمار، وهما الحرية والكرامة.

وكسائر شعوب الأرض يجب أن تتمكن الشعوب العربية في نهاية الأمر، وإن عبر مسارات متعرجة، من إرساء دولة المواطنين الأحرار وإزاحة القادة الملهمين والمؤبدين الذين جمدوا أوطانهم في عصر الإنحطاط العسكري لأكثر من أربعة عقود. الإسلاميون الذين ركبوا الموجة الثورية وقطفوا أولى ثمارها، لكونهم أكثر من استطاع تجسيد فكرة الحرية والكرامة في وعي المواطنين المسحوقين، سيضطر هؤلاء الإسلاميون لتطوير مفاهيمهم في الحكم لتتلاءم مع القيم التي فجرت هذا البركان الشعبي. أو سيكون مصيرهم السقوط في تجربة السلطة وإفساح المكان لغيرهم.

التنافس السلمي على امتداد المنطقة العربية ـ الإسلامية سيكون مستقبلاً بين الديموقراطيين، مسلمين ومسيحيين وعلمانيين ويساريين ليبراليين من جهة، وإسلاميين محافظين وسلفيين وأصوليين وطائفيين وعنصريين من جهة أخرى، أي باختصار، بين يمين ويسار كما في البلدان الراقية. ولما لا تستحق شعوب المنطقة هذا المآل “الطبيعي”للمجتمعات المعاصرة؟ لغو الممانعة وخطابها الممجوج لم يعد يعني شيئاً للناس الذين اكتووا بجحيم خمسة عقود من الديكتاتورية المتغولة، المتمترسة بهذا الخطاب الوطني الزائف، الذي باسمه تصادر حرية المواطنين وتسحق كراماتهم. إنه هذا الخطاب المقيت ذاته الذي يفجر غضب الناس في الشوارع والدساكر، لأنه يذكرهم بالقهر الذي طال ليله، وبالحرية التي طال انتظارها، والتي يدفعون ثمنها غالياً في ساحات المواجهة. العنوان العريض للصراع السياسي في الممالك والجمهوريات العربية والإسلامية سيتمحور حول الديموقراطية وسبل تطويرها وتعميمها في المنطقة، كشرط لا بد منه لتقوية المجتمعات، وتحقيق التنمية، واسترداد الحقوق الوطنية، ومواجهة الأطماع الخارجية، وإسرائيل خصوصاً كتجسيد لهذه الأطماع.

الإشتباك الفكري القائم حالياً بين المشككين بالثورات العربية، الباحثين عن أخطاء وعثرات هذه الثورات، والمؤيدين للربيع، العربي السائرين على خطى “الكواكبي” ابن حلب الشهباء، هو جزء من معركة الأفكار التي يخوضها الجميع، أنظمة ومواطنين، مثقفين موالين ومعارضين، بجميع الأسلحة المتاحة. لطالما برع الطغاة الأكثر ظلماً ودموية في العالم العربي في استدعاء المثقفين والخبراء والإعلاميين “وتدليل” بعضهم بهدف استحضارهم في المعارك، التي يستلون فيها السيوف دفاعاً عن وجودهم وامتيازاتهم وسلطتهم، التي لا حدود لها. وباستثناء إعلاميي المخابرات والمثقفين الطائفيين، الذين أفل نجمهم مع بزوغ الفجر العربي الجديد، لم يعد هناك مثقفون حقيقيون منخدعون بمزاعم الطغاة وبخطابهم “القومجي”، المعد للإستهلاك والدعاية لا أكثر.

إننا ولا شك نشهد الفصل الأخير من أعنف معركة بين آخر ديكتاتورية في جمهوريات الرعب العربية (العراق، ليبيا، سوريا) وشعبها العظيم المندفع في ثورته من دون كلل، وفي هذه المعركة لا يتوقف حراس الديكتاتورية وخبراؤها الاستراتيجيون عن حرف الأنظار عن الثائرين ومطالبهم عبر اصطناع الأعداء المتخيلين. الغرب وإسرائيل وشيوخ النفط مثلاً . ونحن نعلم أن هؤلاء الأصدقاء الطارئين للشعب السوري لم يكونوا يوماً أعداء حقيقيين للطاغية، بل طالما كانوا وإياه في حلف معلن أو مستتر، يتبادلون معه المصالح والأدوار.

يمكن القول بأن الطغاة قد خسروا معركة الأفكار منذ زمن طويل، وهم في طريقهم الآن لخسارة معركة الوجود. وأما من تبقى من المثقفين الذين يصرون على الطعن بالثورات، لأنها لا تتم وفق قوالبهم الفكرية الجاهزة والقديمة، فسيجد الكثيرون من هؤلاء الوقت الملائم والكلام المناسب بعد أفول الطغاة، لتعديل رأيهم أو تغيير موقفهم من الربيع العربي، وسيجدون في السلفيين الخصم المفضل لتبرير تواطؤهم مع الطغاة في زمن مضى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى