صفحات الثقافة

الرجل الطير: رحلة في جحيم الممثل/ زياد عبدالله

 

 

إن كان “بيوتفول” (Biutiful, 2010)، قد شكّل خطوة مغايرة في مسيرة المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إينياريتو، فإن جديده، “الرجل الطير ـ فضيلة الجهل المفاجئة”، هو قفزة هائلة تأخذه بعيداً عن كل ما صنعه من أفلام، مستكملاً فيه فراقه الفني مع شريكه غليرمو أرياغا، كاتب سيناريوهات “أموريس بيروس” (2000)، و”21 غراماً” (2003)، و”بابل” (2006)، حيث الخطوط الدرامية المنفصلة المتصلة تمضي بمصائر جمهرة من الشخصيات.

في “الرجل الطير”، نحن في حضرة الممثل وصراعه مع ماضيه الخارق وقد تقدّم به العمر. فريغان تومسون هو “سوبر هيرو سابق”، وهو في صدد هجران ماضيه الخارق وتحليقه في السماوات، لتستقر قدماه على خشبة المسرح، ويصير مخلّص نفسه بدل أن يكون مخلّص البشر من الأشرار.

هكذا، فإن الحاجة الدرامية لدى بطل الفيلم كامنة في تخلّصه من ماضيه، وإنجاز شيء منحاز للفن بعيداً عن هوليوود. أما صراعه الحالي، فمع العقبات التي تواجه تطلّعه لإخرج وإنتاج وتأدية بطولة مسرحية مقتبسة عن قصة قصيرة للكاتب والشاعر الأميركي ريموند كارفر (1938 – 1988)، تحمل عنوان “ما الذي نتكلم به حين نتكلم عن الحب؟”.

يأتي الصراع في فيلم “الرجل الطير” من هوليوود نفسها والمصير الذي ترتبه للممثلين فيها، حيث النجومية وأفولها، في امتزاج أخّاذ بين المسرح والسينما. ومَن جسّد شخصية ريغان ليس إلا مايكل كيتون الذي لعب شخصية “باتمان” مرتين ورفض أن يظهر في ثالث أفلام هذه السلسة، كما هو حال ريغان الذي لعب شخصية “بيردمان” في ثلاثة أفلام ورفض أن يظهر في الرابع، وها هو يعود إلى المنبع الأول للفنون الدرامية، كما لو أنه في صدد عملية “تطهير” مسرحية، تتخللها الكوميديا، من دون أن ينجح في النهاية بمفارقة البطل الخارق الذي كانه، في فصامية لها أن تتصاعد وتحضر بقوة حين تتزايد العقبات أمامه.

ما من شيء نهائي في فيلم “الرجل الطير”. هو متأسس على بنية محكمة لدرجة “خارقة” وعلى مستويات متعددة. فالفيلم يتحرك على خيط رفيع يفصل التراجيدي عن الكوميدي، وآخر يفصل الواقعي عن الفنتازي، وتداخلهما مع بعضهما بعضاً يأتي من حاجة الأول للثاني. وحين يصل الواقعي إلى حائط مسدود، يحضر الفنتازي، والعكس صحيح. وهذا ما سنقع عليه من البداية، حيث ريغان متربّع في الفراغ يحدّق من نافذة غرفته ورجلاه لا تلامسان الأرض.

وعندما يبحث عن بديل له، فإن جميع من يسأل عنهم مِن ممثلين يكونون مشغولين بأداء أدوار أبطال خارقين. فمايكل فاسبندر يمثّل في “إكس مين”، وروبرت دونواي يلعب “أيرون مان”، ومن حسن الحظ أن مايك شينر (إدوارد نورتون)، لا يمثّل في أي من أفلام الأبطال الخارقين، ولذا هو متاح. وللمفارقة، يمكننا أيضاً أن نضيف أن نورتون نفسه سبق وقدّم “هالك” عام 2008.

بين الخارق والحياتي والفني، يمضي الفيلم، ويجد في خشبة المسرح وكواليسها فضاءً حيوياً للقطته الطويلة التي نشاهدها ممتدة من دون قطع من بداية الفيلم إلى القسم الأخير منه، الأمر الذي ينجح به تماماً إينياريتو ومعه مدير التصوير، إيمانويل لوبيزكي، والمونتير دوغلاس كرايس، في تحقيقه من خلال معالجة اللقطات وربطها لنشاهدها كما لو أنها لقطة واحدة.

لن يكون رهان تلك اللعبة آتياً من مسعى لتقديم الزمن الواقعي متطابقاً مع زمن الفيلم الافتراضي. فأحداث الفيلم تجري في ثلاثة أيام، وبالتالي تكون صياغة اللقطة الواحدة ناجحة في إلغاء الخيط الرفيع ما بين الحقيقي والمُتخيّل لدى ريغان، وعلى شيء يلتقي فيه مع فيلم بوب فوس، “كل ذاك الجاز” (1979)، ليكون هذا الأخير معتمداً على تقطيع مونتاجي يتناوب فيه الماضي والحاضر والمتخيّل في حياة جوي (روي شنايدر)، وصولاً إلى تحويل احتضاره ومن ثم موته إلى استعراض غنائي.

أيضاً، وعلى مقربة من فصامية ريغان، تحضر شخصية ميرتل (جينا رولاندر)، في فيلم جون كازافتيس “ليلة الافتتاح” (1978)، فهي لم تكن خارقة يوماً، إلا أنها، مثل ريغان، تستشعر الزمن ومروره، فتعارض نص المسرحية التي تلعب بطولتها لأنها “تدور حول التقدّم بالعمر”، لترتجل وتخرج من النص لدرجة أنها تفصّل المسرحية على هواها.

في كلا الفيلمين، ومعهما “الرجل الطير”، تتداخل الحياة الشخصية للممثل بفنه أو ما يؤديه من أدوار. فجوي، في “كل ذاك الجاز”، يستدعي حياته كاملة وعشيقاته وابنته وأمه، ويكون الممثل المقابل لميرتل في “ليلة الافتتاح” عشيقها السابق في الحياة والمسرحية، بينما سنتعرّف إلى ابنة ريغان (سام ستون)، في “الرجل الطير”، وهي تعمل معه بعد أن عولجت من الإدمان. وسرعان ما تقع في حب مايك (نورتون)، الذي سيكون كائناً مسرحياً يعيش ويتنفس على الخشبة، حقيقياً يضج بالحياة حين يمثّل، مزيفاً وبارداً حين يحيا، كأن لا يقبل إلا أن يثمل بمشروب كحولي حقيقي وهو يمثل.

وحين يجري استبدال “الجن” بالماء، يصرخ مطالباً به غير آبه بخروجه عن النص، كما هي مرتيل في “ليلة الافتتاح” حين لا تعثر على علبة كبريت لتشعل سيجارتها فتصرخ مطالبة بها، وتمضي إلى الكواليس تبحث عنها أثناء تأديتها دورها على الخشبة.

هكذا، سيمضي ريغان شبه عار في شوارع نيويورك حين تضطره حادثة انغلاق الباب الخلفي للمسرح من دونه، على الالتفاف حول مبنى المسرح ليدخل من البوابة الرئيسة، وليمضي في مسير طويل حيث سيقوم الناس بالتقاط الصور له ومعه، وليحقق من خلال ذلك نصف مليون تغريدة على “تويتر”، هو الذي لا يعرف شيئاً عن وسائل التواصل الاجتماعي وكل ما يسعى إليه تقديم مسرحية لأقل من ألف شخص يشاهدون العرض ويمضون إلى أقرب حانة بعد انتهائه، كما ستقول له ابنته.

والحياة، في النهاية، ليست سوى “ظلّ يمشي، ممثل مسكين، يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح، ثم لا يسمعه أحد: إنها حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شيء”، كما سيسمع ريغان في الشارع أحدهم يردد تلك الأسطر من “مكبث” شكسبير، وهي تختزل جوهر الفيلم، حتى وإن كان عن بطل خارق أراد أن ينهي حياته وهو على خشبة المسرح.

العربي الجديد

 

ملاحظة من “صفحات سورية”

المقال نقل بشكل شبه حرفي من الرابط التالي، ونسب  إلى المؤلف دون أدنى خجل، ونشرته “العربي الجديد” دون أي شعور بالذنب أو المراجعة

http://www.nytimes.com/2014/10/17/movies/birdman-stars-michael-keaton-and-emma-stone.html

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى