الرحلة في دمشق بين مناطق النظام والثورة
رزان زيتونـة
عبَرَت صديقةٌ لي من دمشق إلى أحد أريافها المحررة. تقول إنها أمضت في ذلك ساعتين لا تشبهان شيئًا ممّا مضى في حياتها. لا تجربة الاعتقال لعدة سنوات ولا سواها.
هي لم تغادر البلاد منذ أول الثورة، وتعيش في منطقة – وإنْ كانت غير محررة – لكنها محاطة بالقصف وأصوات الانفجارات. وهي ليست “سائحة ثورة”، بل أتت من قلبها، ومع ذلك بقيت ساعات عديدة تصف مسار “العبور”. تبكي حيناً، ويشرد ذهنها حيناً آخر، وتتدفق بالحديث.
وكأنّ هناك عالمَين منفصلَين. ما قبل العبور بعدة أمتار تنتصب الأبنية واقفةً، وبعده بعدة أمتار ينتصب حطامها. ليست الحياة قبل العبور حقيقة، وفق ما تشرح صديقتي. لا الطرقات ولا المدارس ولا المقاهي ولا الأسواق التي تزدحم بالناس. بل إن مظاهر الحياة تلك لا تخفف من طغيان الخوف والإحساس بالاختناق الذي يولّده تحول المدينة إلى ثكنة أمنية وعسكرية مقطّعة الأوصال.
وليس الموت بعد العبور حقيقة، تؤكد في حديثها المتقطّع. فالبيوت مدمّرة وما تبقى من مقتنياتها تناثرت حولها. لا ضحكة طفل ولا حبل غسيل ولا بائع متجول ينادي على بضاعته. غُرف المنازل فتحت بطونها وارتمت في الأرجاء لعبة طفل هنا، علّاقة ملابس هناك، لا سكان ولا بشر غير العابرين.
قالت إنها أحست بغضب يغطي العالم كله مرات عدة. غضبٌ حيَّد أي مشاعر بالخوف أو القلق. فرصاصة قنّاص كفيلة بإنهاء الرحلة في أيّة لحظة عند أي تردّد للعابر أو سوء تقدير في اختيار الاتجاه أو اختلال في سرعة العبور وبطئه وفقاً لما يقتضي الأمر.
أخبرها أحدُهم أن شخصاً عابراً قبل أيام وقف في منتصف الطريق، لم يعلم أحد ماذا انتابه، بماذا كان يفكر، هل اعتراه الخوف؟ هل نسي أو أضاع شيئاً.. لن يتمكن أحد من معرفة الحقيقة أبداً لأنّ رصاصة قناص أردته في لحظتها.
مع ذلك فقد كانت تشعر خلال العبور، أنّها تطير عندما كانت تضطر للزحف لعبور نقطة ما. وكانت تحسّ باتّساع المدى حتى آخره حين تضطر لدخول أضيق الأمكنة وأكثرها ظلمة. كانت تفكر، كم شخصاً يعبر المكان ويمرون بالرحلة نفسها يومياً، لتأمين بعض ضروريات الحياة من مناطق قبل العبور إلى مناطق ما بعده. هناك تصنع الحياة، تنتزع من بين طلقات القناصة وشواهد الدمار.
أثناء العبور كانت تستمع لحكايا من عبروا بهذا المكان. باعتبارها معتقلة سابقة، كانت ورفاقها في الماضي يمضون جزءاً من السهرات بجمع أعمار الموجودين التي قضوها في معتقلات النظام. اليوم تحولت العملية إلى جمع حيوات من رحلوا قنصاً أو قصفاً أو ذبحاً. هذا فقد أباً، وذلك زوجة، وآخر عدة أبناء. آخرون لا زالوا يعبرون يوميًا كي يحموا حياة أب أو زوجة أو طفل.
روَت أن بعضهم يعبرون يوميا لنقل علبة حليب أو دواء. يقطعون المسافة وهم يتضاحكون ويلقون النكات لتشجيع العابرين الجدد. تقول الصديقة، إنّها تعجب لمن رأى أو سمع بما يتضمنه العبور وبقي صامتاً أو محايداً أو رمادياً. وتؤكد أنّ جميع الباقين سيعبرون في النهاية مهما كان “لونهم”! لكنّ أي فرق بين من عبر على أشلاء وآلام الآخرين وبين من حملها بين ضلوعه في كل رحلة عبور.
موقع لبنان الآن