الرقة: طوفان الصُور لم يحمل كل الفرح المتوقع/ وليد بركسية
يبدو أن الصور ومقاطع الفيديو الآتية بكثافة من مدينة الرقة السورية، بعد إعلان تحريرها بالكامل، الثلاثاء، من قبضة تنظيم “داعش”، لا تثير شعوراً طاغياً بالفرح، كما كان لمتابعي الشأن السوري أن يتوقعوا طوال السنوات الأربع الماضية. وذلك ليس لأن التحرير نفسه أتى على أيدي قوات كردية، لا عربية، مثلما يكرر بعض العنصريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بل لأن تحرير المدينة يحيل المتابع تلقائياً إلى ذكريات مريرة من السواد والظلم والشر الذي نشره “داعش”، وفيها ومنها إلى العالم، بموازاة الكلفة البشرية والمادية العالية التي دفعتها المدينة وقد لا تتعافى منها لعقود مقبلة، فضلاً عن أن التنظيم نفسه ما زال موجوداً في أماكن أخرى من سوريا والعراق.
وركزت غالبية الصور، التي نشرتها قنوات إخبارية كبرى ترافق قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، على الدمار الشامل الحاصل في المدينة، مع صور قليلة تظهر فرحة المدنيين بالخلاص أو طلبهم للرأفة بعد سنوات من القمع والظلم والقهر من طرف التنظيم، الذي استخدم المدنيين الباقين في الرقة كدروع بشرية ضد غارات طيران التحالف الأميركي. وقد يكون أبرز المقاطع هنا، ذلك الذي يظهر مجموعة من السكان المذعورين المطالبين بالحماية من جنود “التحرير” كي لا يُظّنّ أنهم من عناصر التنظيم، فتصرخ امرأة بصوت متهدج: “إحنا مدنيين”، فيما يتعانق الرجال والنساء وهم يبكون ولا يصدقون نجاتهم من الموت أولاً ومن قبضة التنظيم ثانياً.
والحال أن النقص في صور المدنيين يعود إلى أن الرقة كانت إلى حد ما شبه خالية من السكان بعد نزوحهم تدريجياً خلال الأشهر الماضية، علماً أن معركة الرقة ككل كانت من أقل المعارك في تاريخ الحرب السورية، تقديماً للصور الحية لمجريات الحرب، مع صعوبة التصوير وتقديم مواد إعلامية من طرف الإعلاميين المرافقين لقوات سوريا الديموقراطية ولقوات التحالف على حد سواء، بسبب المخاطر الأمنية والقيود المفروضة عليهم أيضاً.
وهنا تشير أرقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تقرير أصدرته الشهر الجاري أن حوالى 300 ألف شخص فروا من الرقة منذ نيسان/أبريل قبيل بدء الهجوم الذي تدعمه الولايات المتحدة هناك، فيما تقدر الأمم المتحدة أيضاً 10 آلاف إلى 25 ألف مدني فقط كانوا موجودين في المدينة اعتباراً من شهر آب/أغسطس الماضي، على الرغم من أنه من المستحيل التأكد من الأرقام الدقيقة.
إلى ذلك، تظهر مقاطع لشبكتي “سي إن إن” و”إيه بي سي نيوز” الأميركيتين دماراً مخيفاً في البنية التحتية، ويمكن تمييز الساحات التي حصلت فيها عمليات الإعدام الشهيرة والشوارع الرئيسية التي كانت الجثث تعلق على أعمدة النور، حيث كان السكان يعيشون تحت الحكم القمعي لمسلحي التنظيم الذين قطعوا رؤوس المدنيين لاقترافهم “جرائم” مثل التدخين، مطبقين أحكاماً شديدة التطرف من الدين الإسلامي، فيما انتشرت مئات الصور لمقاتلي “قوات سوريا الديموقراطية” وهم يطلقون النار في الشوارع ابتهاجاً بالنصر ويحتفلون مع المدنيين في الشوارع، فضلاً عن احتفالات مماثلة في مناطق خاضعة لسيطرة الأكراد شمال البلاد مثل مدينتي القامشلي والحسكة.
ويقدر تقرير للبنك الدولي في كانون الثاني/يناير 2017 أن الرقة أصيبت بأكثر من 2000 غارة جوية وأن ما يقرب من 17% من الوحدات السكنية في المدينة تضررت أو دمرت. ومنذ ذلك الحين تعرضت المدينة لأكثر من 2500 ضربة أخرى. وقال المجلس المدني في الرقة أنه سيحتاج إلى ما لا يقل عن 10 ملايين دولار سنوياً لاستعادة البنية التحتية الأساسية، حسبما نقلت صحف أميركية، مع تقديرات بأن عمليات إعادة الأعمار ستستغرق 10 سنوات على الأقل، كما تظهر صور الأقمار الصناعية الملتقطة من أجهزة الاستخبارات الأميركية، والتي تم تداولها عبر مواقع التواصل، تدمير الجسور في المدينة بالكامل وقطع المدينة بالكامل عن محيطها في المحافظة.
ويحمل تحرير الرقة من “داعش” رمزية كبيرة، لأن المدينة كانت عاصمة الخلافة المزعومة بعدما سيطر التنظيم عليها، وتحولت المدينة المجهولة في الشمال السوري فجأة إلى رمز عالمي للتنظيم الذي سجل وبث من المدينة ومحيطها أكثر عمليات الإعدام التي قام بها وحشية، مثل قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة وقطع رأس الصحافي الأميركي جيمس فولي في أحد الجبال جنوبي المدينة وحتى عمليات بيع النساء وتجارة الرقيق التي أحياها التنظيم بشكل مروع.
وتجب الإشارة، إلى أن تاريخ المدينة يشكل لمحة مصغرة لتطور الثورة السورية من السلمية نحو الفوضى والعنف والأسلمة، حيث كانت الرقة قبل أربع سنوات ونصل أول عاصمة لمحافظة سورية تخرج عن سيطرة النظام بالكامل، وعندها قامت جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة بالسيطرة على المدينة في آذار/مارس 2013 قبل أن ينجح “داعش” في السيطرة على المدينة في وقت لاحق من نفس العام، ويجبر آلاف المدنيين على الحياة وفق تعاليمه المتطرفة، ليبلغ التنظيم ذروة قوته عندما أعلن الخلافة العام 2014 ووصل أراضيه في العراق بأراضيه في سوريا عبر الحدود التي سقطت لأول مرة منذ إنشائها إثر اتفاقية سايكس بيكو، مستقطباً عشرات الالاف من المتطرفين الإسلاميين الذين هاجروا إلى الرقة تحديداً من أجل “الجهاد”.
رغم ذلك، تثير تعليقات عنصرية من ناشطين عرب في المدينة ضد الأكراد الذين نجحوا أخيراً فيما فشل العالم في تحقيقه خلال السنوات الماضي، بغض النظر عن الظروف المحيطة، قلقاً قديماً من أن مستقبل الرقة في مرحلة “داعش” لن يكون مشرقاً لأنه لا توجد رؤية واضحة حول هوية الحاكم القادم للمدينة، وبالتالي يصبح سقوط الرقة مقدمة لخلافات مستقبلية بين الأكراد والعرب ضمن قوات سوريا الديموقراطية نفسها، علماً أن توترات مماثلة ظهرت بين العرب والأكراد مطلع الأسبوع الجاري في مدينة كركوك العراقية بعد ان طردت القوات الحكومية العراقية القوات الكردية خارج المدينة وسط هتافات السكان التركمان والعرب في المدينة المختلطة عرقياً.
ولا يعني سقوط الرقة ومن قبلها مدينة الموصل العراقية، أن “داعش” قد انتهى ومسح عن الوجود ببساطة، حيث ينحسر نفوذ التنظيم ويتحول بسرعة من دولة إرهابية إلى مجرد جماعة إرهابية تعمل في الخفاء وتنظم نشاطها عبر الإنترنت بشكل خاص من أجل تجنيد المقاتلين في الغرب والقيام بعمليات منفردة ضد “الكافرين”، من أجل انتظار اللحظة المناسبة لإحياء نفسها، لأن المظالم السياسية والاجتماعية التي أدت إلى خلق بيئة خصبة للتنظيم كي ينمو ويزدهر في سوريا مازالت موجودة، ولم يتم التوصل لحل سياسي حقيقي ينهي هذه الحلقة المفرغة التي يمكن تلمسها في العراق، مع التحولات التي طرأت لتنظيم “القاعدة” منذ العام 2003 والتي انبثق منها “داعش” قبل سنوات.
وانسحب معظم قادة “داعش” من الرقة خلال الشهور الماضي وتوجهوا شرقاً نحو محافظة دير الزور حيث تجمعوا في أحياء كان التنظيم يسيطر عليها قبل أن يعلن جيش النظام سيطرته على المدينة الشهر الماضي، علماً أن جيش النظام السوري وحلفاءه أعلنوا سيطرتهم الأسبوع الماضي أيضاً على مدينة الميادين، ما يعني أن البوكمال بالقرب من الحدود العراقية هي المعقل الأخير للتنظيم في البلاد باستثناء المناطق الشاسعة غير المأهولة في الصحراء السورية خارج المراكز السكانية.
وسواء كانت اللحظة الحالية نهاية المعركة ضد التطرف أم لا، إلا أن هزيمة “داعش” في الرقة تحمل ثقلاً رمزياً شديد الأهمية تقتضي الاحتفال والشعور بالابتهاج والفرح، لأن الظلال السوداء التي فرضها التنظيم في المدينة تلاشت أخيراً، تماماً مثل ذلك البرقع الأسود البشع الذي مزقته امرأة سورية أمام الكاميرا في لقطة أيقونية تظهر الخلاص والراحة بعد سنوات من قهر لا مثيل له ربما في التاريخ المعاصر.
المدن