الرقص على قبور الطغاة/ مكرم رباح
“نياية عن الجامعة الأميركية في بيروت اعتذر عن عدم دفاعنا عن العظم في الماضي، حينما اضطهد بسبب شجاعته الفكرية، فالباحثين قد يكونوا على صواب أو على خطأ، ولكن لا يمكننا السماح لأحد باضطهادهم بسبب افكارهم أو معتقداتهم، فاضطهاد العظم لشجاعته الفكرية كان انحرافاً عن القاعدة، في اخر المطاف هدفنا تشجيع باحثينا على القيام بمثل تلك الخطوات”.
بتلك الكلمات، افتتح رئيس الجامعة الدكتور فضلو خوري أعمال مؤتمر “صادق جلال العظم–فكره وإرثه”، ولعل التكريم الفعلي للعظم هو قيام الجامعة الأميركية و بعد انقضاء 47 سنة على طرده من جسمها التعليمي، بتلك البادرة الأخلاقية و الاعتراف بتقصيرها بالدفاع عنه بعد أنْ اضطهِدَ و سُجِنَ بموافقة أعضاء من إدارة وأساتذة الجامعة آنذاك.
العظم بمواجهة “الحقيقة”
درس العظم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت وأكمل شهادة الدكتوراه في جامعة ييل في الولايات المتحدة الأميركية، حيث عاد إلى بيروت سنة 1964 ليلتحق بدائرة الفلسفة في الجامعة الأميركية التي كانت عرين أستاذ الفلسفة ووزير الخارجية اللبناتي السابق، شارل مالك.
فمالك، السياسي المخضرم الذي أطلق عليه تلامذته لقب الحقيقة “The Truth”، اشتهر بغلوّه للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، نظر إلى الأستاذ الدمشقي اليافع الذي كان تحت التأثير الماركسي بنظرة من الشك، ووضع العقبات في وجه مسيرته الأكاديمية، ومنع ترقيته وتثبيته في وظيفته مما أجبر العظم على الانتقال إلى دائرة الدراسات الثقافية (Cultural Studies).
ازداد اضطهاد رموز اليمين اللبناني، وبعض الأطراف العربية للعظم بعد هزيمة حرب 1967، وسطوع نجم الثورة الفلسطنية كخيار شعبي غير تقليدي لتحرير فلسطين. فبعد الهزيمة المدوية للأنظمة العربية انتقد العظم، عبر كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة، التجربة الناصرية التي فشلت في طرح مشروع تحرري فكري ديمقراطي.
أدّى صدور كتابه نقد الفكر الديني، سنة 1969، إلى فتح أبواب جهنّم في وجه العظم الذي تعرض للملاحقة القضائية من قبل السلطات اللبنانية التي تحركت بعد شكوى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، وسجنت الكاتب لوقت قصير، وتمّ إخلاء سبيله بعد تدخل وزير الداخلية آنذاك كمال جنبلاط. اقتنص أعداء العظم، على رأسهم أستاذه السابق شارل مالك، الفرصة لطرده بموافقة مع رئيس الجامعة وقتها، صاميول كيركود، الذي امتنع عن الدفاع عن خريج الجامعة وعضو الهيئة التعلمية فيها، الماركسي الملحد بنظر الرأي العام اللبناني.
خيانة ذوي القربة الأكاديمية دفعت بالعظم إلى مغادرة لبنان باتجاه الأردن حيث درّس في الجامعة الأردنية، وثم عاد إلى سوريا حيث التحق بجامعة دمشق حتى تقاعده سنة 1999.
العظم الثوري
معرفتي العلمية بالعظم اقتصرت صراحة بحادثة طرده من الجامعة ومحاكمته التي وثقته في كتابي A Campus at War، ودور الطلاب آنذاك في محاولة ثني إدارة كيركود عن صرف أستاذهم المحبوب.
ولكن شاءت الصدف أن ألتقيه، أنا وصديقي رئيس مكتب الرأي الكويتية في واشنطن، حسين عبد الحسين، في خريف سنة 2009 في بوسطن أثناء انعقاد مؤتمر MESA السنوي الذي يعنى بدراسة الشرق الأوسط. وقد تكرم علينا العظم بمقابلة أجراها معه حسين حول تجربته وآرائه في الإصلاح والديمقراطية.
بصوت هادىء وذهن صافي، ومن من وراء نظاراته السميكة، شخّص العظم المشكلة في العالم العربي ببساطة تامة: “الحرية والديمقراطية”. فمن جهة “للحركات الإسلامية مثل حماس وحزب الله والقاعدة، لم تتعلم الدروس من حركات التحرر الناجحة، بل تقوم بقتل شعبها، وتنقصها الديموقراطية”. أما الانظمة العربية تقوم بقمع شعوبها. فالعظم اعتبر بأن نظام السوري يستطيع أن يخطو خطوات كبيرة بحال قام بشار الأسد برفع قانون الطوارىء “حتى لو تم رفع قانون الطوارئ بحدود 40 في المئة، نكون حققنا قفزة هائلة”.
بالرغم من نصيحة العظم المعتدلة لنظام الأسد أدى نشر المقابلة إلى منع المفكّر الشامي من العودة إلى الوطن كما قال لي عندما التقيت به مصادفة في بيروت بعد أشهر قليلة على انطلاق الثورة السورية سنة 2011.
“بدكن حرية يا كلاب”
كلام العظم في بوسطن، كان أول ما تبادر إلى ذهني لدى مشاهدتي أحد أوائل الفيديوهات مع بداية الثورة التي وثقت قمع أجهزة بشار الأسد للمتظاهرين العزّل وبالتحديد فيديو يظهر قيام عناصر من المخابرات بالدوس على رؤوس المعتقلين و شتمهم “بدكن حرية يا كلاب”.
فالعظم كما حال السوريين، لم يطلب في بداية الأمر بإسقاط نظام الأسد، بل طالب بمساحة من الحرية وبعض الإصلاحات، ولكن النظام البعثي الحديدي لم يكن لديه النية أو حتى المعرفة بتحقيق أي من تلك المطالب على الرغم من تواضعها.
فالعظم كما هو حال العديد من المثقفين المتنورين بادروا إلى دعم الثورة السلمية في البداية وحتى ذهب البعض منهم، وعلى رأسهم العظم بدعم العمل المسلح “للإطاحة بالنظام القديم المهترئ والمتداعي والذي لم يعد قابلاً للحياة”. بطبيعة الحال، أدّى موقف العظم هذا إلى اتهامه بالمذهبية وبالاستزلام إلى الغرب الإمبريالي، كون نظام الاسد بنظر هذه الطبقة المناهضة للعظم، هو اخر معقل لمحاربة الإمبريالية واستكبار الغرب.
فتجربة العظم النقدية والنضال السياسي والفكري للعديد من أنصاره ركزت بالتحديد، على ضرورة تحرير العقل قبل تحرير الأرض، خاصة بعد فشل الأنظمة والقوى الشعبية، وعلى رأسها الثورة الفلسطنية.
وتلك المقاربة الثورية والتحررية للعظم سيطرت على معظم مجريات المؤتمر حيث عالجت ثلة من المثقفين والأكاديمين مساهمات العظم الفكرية التحررية بدأ من مقاربته للمدرسة التي أسسها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد و موضوع الاستشراق، أو ما اعتبره العظم الاستشراق المعكوس Orientalism and Orientalism in Reverse. كما تطرأ العديد من المحاضرين إلى مواضيع عالجها العظم خلال مسيرته، كنقد الفكر الديني ومحاربة الاستبداد وتفكيك الأسطورة.
ثقافة الاحتلال
ولكن العظم المثير للجدل في حياته كذلك في مماته حضر بشكل أوضح في الجلسة الأخيرة من المؤتمر، تحت عنوان “الالتزام صادق جلال العظم السياسي”، التي تحولت إلى حلبة من الجدل الفكري العنيف التي تخلله تهجم من أحد الحضور بطريقة همجية على أحد المحاضرين التي أدارها مدير مركز الفنون و الإنسانيات الدكتور عبد الرحيم أبو حسين، وقدّم فيها الباحث اللبناني ربيع بركات والباحث السوري ثائر ديب، مطالعتان عن العظم و الثورة السورية مع تعقيب من الدكتور بشار حيدر أتت كمسك الختام.
ركز بركات بتشريحه على زلات العظم السياسية وتصريحاته المتناقضة منذ اندلاع الثورة، التي أصر بركات على تسميتها بالأزمة السورية، كدليل على فشل رهان العظم على إسقاط النظام. و كذلك وضع بركات العظم بإطار المهلل للخارج و تماديه بالاعتماد على أعداء الأسد لقلب النظام، كما انتقد تصريحاته بحتمية زوال العلوية السياسية و النظام البعثي. فبركات استخلص بأن العظم كما هو حال العديدين من المثقفين المنضويين في الثورة ركزوا على الخطاب الشعبوي وتناسوا بحسب تحليل بركات تشخيص أسباب الأزمة مما ساهم في هزيمة خطهم السياسي.
أما ثائر ديب فقدم تحت عنوان «النقد الثقافوي للسياسة والمجتمع: النقد الذاتي بعد الهزيمة نموذجاً» والذي عالج فيه أبرز المثقفين السوريين كنزار قباني وسعد الله ونوس وأدونيس، اتت هادئة في إطار أكاديمي ركز على العمق الثقافوي السوري.
ختم حيدر المداخلات بمناقشة النقاط التي أثارها كل من بركات وديب مختلفاً عن توجه الأول الذي رسم ارتهان العظم للخارج بطريقة خاطئة، مقدماً أمثلة للدفاع عن أفكار العظم وبالتحديد بأن فشل رهان العظم لا يستنتج منه سقوط الفكرة.
فرد حيدر ،على لوم بركات العظم على عدم تبصره للمغامرة التي قام بها، أي دعم الثورة بوجه الأسد، ببساطة بأن فشل العرب بتحرير فلسطين لا ينفي صوابية القضية الفلسطنية.
بالرغم من حدة النقاش بين المتحاورين، بقي الجدل ضمن أصول اللعبة الأكاديمية التي التزم بها كل من بركات وديب وحيدر حتى بادر أحد من الحضور إلى التهجم على حيدر بعد تعليقه على إحدى الاسئلة متهماً إيّاه كما العظم بكونهما مثقفي الاحتلال الذي هو بطبيعة الحال غربي وأمريكي.
فسخافة هذا المعلق ضمن الجمهور و الطريقة الهمجية التي حاول به الدفاع عن مداخلة بركات -الذي أكد بركات رفضه أسلوب الشبيح المتنمر -أتت لتؤكد على العديد من أفكار العظم وبالتحديد موضوع الحرية والاستبداد فإن مثقفي الاحتلال هي تهمة لا تصح على حيدر أو على العظم لعدة اعتبارات واقعية.
أولاً، لأن الاحتلال لسوريا هو احتلال روسي و إيراني بمباركة أميركية، وبشار حيدر هو بالتأكيد ليس من أنصاره. ثانياً، أن أفواج الممانعة المنضوية تحت راية إيران في العراق تحظى بدعم وغطاء جوي أميركي بمباركة الحكومة العراقية، و أكثرية الشيعة العراقيين و لكن تحت ذريعة محاربة داعش.
فمثقفي الاحتلال هنا هم أبواق النظام الأسدي و الإيراني الذين يبررون انتهاكاتهم لحرية الناس وقصف المستشفيات والأسواق الشعبية متذرعين بتحرير فلسطين أو بمحاربة داعش.
الخلاصة الحقيقية لمؤتمر صادق جلال العظم على ضوء مجريات النهار الثقافي الحافل، ومن ضمنها الحلقة الأخيرة بالتأكيد هي التالي: يجدر على مثقفي الاحتلال الحقيقين النظر إلى تجربة العظم واضطهاد الأنظمة له. وأخذ العبر بأن مصيرهم ضمن تلك الانظمة القمعية هو حتمي في حال غضب الحاكم منهم، في حين أن في شرق العظم المرتجى، على كل إنسان أن يدفع ثمن جرائمه وليس أفكاره.
إن صادق جلال العظم، كنهج فكري، يبقى أحد أهم المساهمات الفكرية النهضوية قي المشرق العربي. و بالرغم من اضطهاده عبر السنوات، يعودُ صادق جلال العظم، الفيلسوف الملحد المتنور الثوري، إلى جامعتِه معزّزاً مكرماً حتى لو بعد حين، في انتظار أن ترقص شعوب المنطقة “على قبور الطغاة”.
مكرم رباح محاضر في كلية التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت، صاحب كتاب A Campus at War: Student Politics at the American University of Beirut, 1967–1975″.