صفحات الرأي

هل أنت نائم؟ أيها الشاهد.. هذا الاستبداد لا وجه له


جون برغر

ما يُميّز الديكتاتورية العالمية الحالية أنها بلا وجه. ليس هناك من فوهرر، أو ستالين، أو كورتيس. ميكانيزماتها تتبدّل وفقا للقارات، ونماذجها متصلة بالتاريخ المحلي، لكن نمطها العام يبقى واحداً: نمط دائري.

الفجوة بين الفقراء والأغنياء نسبياً تحولت إلى هوة ساحقة. القيود والتوصيات التقليدية تهشمت. المجتمع الاستهلاكي يستهلك أي استفسار. الماضي أصبح ماضياً فعلاً. وبالنتيجة، فقد الأفراد فرديتهم، وخسروا إحساسهم بهويتهم، ولكي يميزوا أنفسهم كان لا بدّ لهم من اختراع عدو. وهناك يصبح النمط الدائري ديكتاتورياً.

إلى جانب الثروة، لا ينفك النظام الاقتصادي يولّد العوز، عائلات متزايدة تصبح بلا مأوى، فيما يروّج هذا النظام سياسياً لإيديولوجيات تبرّر الإقصاء، وتدافع عن الإلغاء النهائي لجحافل من الفقراء الجدد.

الدائرة المفرغة الجديدة هي التي تشجع اليوم هذه القدرة الراسخة لدى الرجال على ارتكاب فظائع إبادة الخيال البشري. «الليلة الماضية، تلقيت اتصالاً من صديقة في فادوفارا في الهند. ووسط دموعها المنهمرة، استغرقها الأمر خمس عشرة دقيقة لتخبرني بالأمر. لم يكن الأمر على درجة بالغة من التعقيد. لم يكن سوى أن صديقتها سعيدة تعرضت للاعتداء من قبل مجموعة. لقد بقروا بطنها وبعد موتها طبعوا على جبينها التوقيع المقدس للهندوس». كان هذا الحديث مع الكاتبة الهندية أرونداتي روي، التي تكلمت عن مجازر ارتكبها هندوس متطرفون بحق آلاف المسلمين في ربيع العام 2002، ثم قالت «سنكتب يوماً ما عن ثغرات في الحائط، كانت في السابق نوافذ».

ننزل الى الأرض، نراقب، ندوّن ملاحظات، نستقصي، نكتب، نعاود الكتابة، ثم نصل إلى الطبعة النهائية. يتم نشرها، تلامس إحساس الجمهور الواسع، علما اننا لا نعرف من هو الواسع ومن هو المحدود. نتحول إلى كاتبة تثير الجدل، وفي الغالب تكون مهددة، مدعومة أحيانا، تكتب عن مصير الملايين من الناس، نساء ورجالاً وأطفالا، تتهم بالاحتقار، تستمر في الكتابة وفي تسليط الضوء على مشاريع يقوم بها متنفذون ستجرّ مصائب يمكن تجنبها. تسجل ملاحظات، تعبر قارات، تكتب عن اليأس الفاقع، وتستمر في الكتابة والنشر من دون توقف، شهرا تلو الآخر، والأشهر تتحول إلى سنوات. أفكر فيك يا أرونداتي.

ومن دون أي مقاومة، وفي صمت لا ينقطع، كما لو أن أحداً لم يكتب أي كلمة. ثم نطرح السؤال: هل للكلمات أي قيمة؟ ونتلقى أحياناً جوابا على شاكلة: الكلمات هنا كالحجارة التي نضعها في جيوب المساجين، مقيدي الأيدي والأرجل، قبل أن نرميهم في النهر.

كل احتجاج سياسي عميق هو دعوة للعدالة الغائبة، يصاحبه أمل بأن تقوم هذه العدالة في المستقبل، ولكن هذا الأمل ليس الدافع الرئيسي للاحتجاج. نحن نحتج لأن عدم إقدامنا على ذلك يصبح أمراً مخزياً جداً، مدمراً جداً، قاتلاً جداً.

نحتج (عبر إقامة الحواجز، امتشاق السلاح، الإضراب عن الطعام، تنظيم سلسلة بشرية، الصراخ، الكتابة) لإنقاذ اللحظة الراهنة، وتلك التي يخبئها المستقبل.

الاحتجاج، هو رفض أن نختزل إلى صفر وأن نجبر على السكوت. ولذلك، فإن اللحظة نفسها التي نحتج فيها، إن احتججنا، تسجل انتصاراً صغيراً. تصبح لحظة خالدة. تمر، لكنها تبقى محفورة في الذاكرة. التظاهرة ليست تضحية نقدمها لمستقبل آخر، الأصح أنها التضحية بالحاضر من دون انتظار نتيجة. ولكن كيف نتعايش كل مرة مع عبارة «من دون نتيجة»، هنا تكمن المشكلة.

«المسألة التي تطرح هنا، بحسب أرونداتي، تتلخص في أسئلة عدة: ماذا فعلنا بالديموقراطية؟ إلى ماذا حولناها؟ ماذا سيحصل عندما نسنفدها؟ عندما نفرغها من الداخل ونحرمها من معناها؟ ماذا سيحصل عندما تتحول كل واحدة من مؤسساتها إلى شيء خطير، ثم تتفشى؟ في أي لحظة تماهت الديموقراطية مع اقتصاد السوق في هيئة مفترسة حيث المخيلة الضيقة والفقيرة محدودة في التمحور بشكل شبه كلي حول فكرة مضاعفة المنفعة؟ هل من الممكن عكس هذه العملية؟ هل يمكن أن يعود ما تبدّل إلى حالته الأصلية؟ كيف نتعايش مع عبارة «من دون نتيجة»؟

رفض المحتجين يصبح الصرخة المتوحشة، الغضب، تنوير النساء والرجال والأطفال في التاريخ. السرد هو طريقة مختلفة لترسيخ اللحظة، لأن الروايات عندما نسمعها توقف مسار الزمن وتفرغ عبارة «من دون معنى» من معناها.

من كلمة قدمها الكاتب في مهرجان افينيون في فرنسا

ترجمة: هيفاء زعيتر

عن «لوموند» الفرنسية

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى