الرهائن القطريون: أسئلة مكتومة/ حسام عيتاني
الكثير مما ورد في تحقيق “نيويورك تايمز ماغازين” عن اختطاف أفراد من العائلة الحاكمة في قطر، أثناء رحلة صيد في جنوب العراق، كان معروفاً: مسؤولية المليشيات العراقية الموالية لإيران عن الخطف. الفدية الضخمة التي دفعتها الدوحة والإشكال الذي حصل حول الجهة التي استولت عليها. إرغام قطر لفصائل سورية تتلقى تمويلها من الدوحة على إكمال “صفقة المدن الأربع” التي انطوت على تغيير ديموغرافي وتهجير قسري للسكان، مقابل الإفراج عن الوجهاء القطريين وحاشيتهم….
كل هذا كان معروفاً وتناولته وسائل الإعلام، الغربية منها خصوصاً، أثناء أزمة الرهائن القطريين في العراق وبعدها. بيد أن الجديد في التحقيق الذي كتبه روبرت أف وورث ونشر “درج” ترجمة له في 17 أذار (مارس)، هو الأجواء والمناخات والتفاصيل التي يتعالى عن سردها ووصفها وتحليلها في العادة, الصحافيون المستعجلون إلى قطف السبق الخبري. ناهيك عن أنها غائب دائم عن أكثرية وازنة من الكتابات الصحافية العربية حيث لا يجد القارئ ربطاً بين سمات المكان وأحوال أهله، على سبيل المثال. فلا الأثاث يشير الى شيء ولا نوع السيارة ولا طبيعة البناء ولا المحيط القريب من مكان التحقيق. لعل زملاءنا يأخذون كل هذه المعطيات مأخذ الأمور المعروفة والمسلم بها عند القراء. وجود رشح للمياه في الجدران، قد لا يلفت انتباه الصحافي الى حالة الفقر والعجز عن معالجة هذه المشكلة في البناء، إذ أن عديدين من بيننا ترشح المياه من جدران بيوتهم. النفايات المنتشرة أمام البيوت لا تُنبه المحقق إلى وضع مزري في القرية التي يزورها، ما دام أن النفايات تحتل مكانا رئيساً في مشاهد مدننا وقرانا. وهكذا دواليك.
من وصف قاعة قاعة كبار الزوار في مطار بغداد، حيث تلتقي فئات قدامى المحاربين والقتلة المأجورين ورجال الأعمال والمرتشين الخ… إلى مضافات أفراد الأسر الحاكمة في الإمارات الخليجية التي لا يدخلها (المضافات) الأجانب في العادة، ما لم يكونوا موضع ثقة صاحب المضافة، وصولا ًإلى أسلوب صيد الحبارى الافريقي بالصقور وشكل الطريدة ومكافأة الصقر…
غالباً ما نحتاج إلى “عين” خارجية لتصف لنا ما نغفله عن أسلوب حياتنا وتفاصيلها. “المستشرق” عاد هذه المرة بثياب صحافي استقصائي. ومثلما لم نكن مضطرين لتصديق المستشرقين، لسنا ملزمين بالاستماع الى الصحافيين الاستقصائيين الغربيين. خرائط الاجتماع والانثروبولوجيا الاستشراقية، يعيد الصحافيون قراءتها، من دون اهتمام حقيقي في مدى اقتناعنا، نحن الموصوفون، بها. تماماً مثلما لم يخاطبنا مستشرقو الماضي و”الباحثون في الدراسات الشرقية” المعاصرون.
ثمة سؤال أعيا وورث وطرحه مرات عدة في تحقيقه: لماذا لم يأخذ الأعيان القطريون النصائح العديدة التي وُجهت اليهم بعدم التوجه الى جنوب العراق، لصيد طيور الحبارى بالصقور؟ والحال أن وزراة الخارجية وجهاز الاستخبارات القطريين حذرا الصيادين من الذهاب الى تلك المنطقة الصحراوية المهجورة، التي تكثر فيها القنابل العنقودية غير المنفجرة من فترة الحصار والغزو الأميركيين للعراق، إضافة الى اعتبارها معقلاً لجماعات مسلحة خطيرة. لكن ابتعاد الناس عن هذه المنطقة في محافظة المثنى العراقية، جعل طيور الحبارى تلجأ اليها بكثرة هرباً من الصيادين.
بالنسبة الى من لم تلفت انتباهه التفاصيل البوليسية والمخابراتية لمغامرة الصياديين القطريين في العراق، سيفيده التحقيق في أمور قد تبدو له أهم وأبقى: أثر الثروة النفطية الهائلة على أهل تلك المنطقة. يعيد التحقيق إنشاء “مدن الملح” عمل الراحل عبد الرحمن منيف، لكن بألوان وأداوات القرن الحادي والعشرين. والسؤال الجديد عما يحمل انساناً على التوجه الى أرض ملعونة بالعصابات والألغام والقنابل غير المنفجرة، من أجل متعة الصيد بالصقور. إلى ماذا يشير هذا السلوك؟ كيف يعيش 300 الف مواطن بدخل إجمالي سنوي يبلغ 171 مليار دولار؟
إذا كان التحقيق المذكور هنا يتناول قطر وحدها، فذلك لا ينفي أن الحالة القطرية تنطبق مع بعض الفوارق على كل دول الخليج، التي اجتاحتها ثروات النفط وغيرها وأهلها على نحو غير قابل للانعكاس. لماذا لم يجد القطريون (واستطراداً كل الخليجيين) غير صيد الحبارى على تخوم ساحات القتال، نشاطاً يمضون به الوقت؟
الاسئلة تأخذ وجهة مأساوية عندما تتحول الى البحث عن الأسباب التي جعلت دولة تدفع ما يقارب المليار دولار، الى اشخاص مثل قاسم سليماني وقادة الميليشيات العراقية واللبنانية وتلك المنبثقة عن تنظيم القاعدة، مع العلم المسبق بأثر هذه الأموال في تغذية الحرب، من أجل استعادة بعض أفراد من الاسرة الحاكمة (غني عن البيان ان مساعدي او حاشية هؤلاء لم تكن موضع اهتمام من المفاوضين على الإفراج عن الرهائن). وكيف يقبل من دفع المال أن يكون ثمن عودة الرهائن الى بيوتهم اقتلاع الآلاف من السوريين من المدن الأربع (الزبداني ومضايا وكفريا والفوعة)، وبغض النظر عن توزعهم الطائفي، من منازلهم وقراهم؟ وقد لا يبدو السؤال المشابه عن “الوكلاء المحليين” من أطراف الصفقة مُهماً بعد سبع سنوات، شهدت بعضاً من أفظع فصول إفلاس العصر الحديث وخيانته لشعاراته الإنسانية.
إلى جانب تجار الحروب وقادة ميليشات القتل الطائفي، قد يكون طائر الحبارى المسكين من المستفيدين من انكفاء الصيادين، الذين جاءوا يبحثون عن معنى لحياتهم في صحرائه البائسة.
موقع درج