الزعيم والمقدّس والتفاهة المحضة/ حازم صاغية
منذ أن وُلد المقدّس في التاريخ وُلد المحرّم. فهذا الأخير الذي سمّاه البولينيزيّون القدامى «تابو»، ومنهم استعارت الكلمةَ لغاتُ الأرض، هو السور الذي يسوّر المقدّس كي لا تُنزع عنه قدسيّته فيصير عاديّاً، يتجرّأ عليه من طاب له أن يتجرّأ.
وقد يصحّ القول إنّ العرب يعيشون اليوم رحيل المقدّس الذي كانه الزعيم السياسيّ، مع أنّ مُقدّسين آخرين يحاولون التصدّر وملء الفراغ الذي أحدثه موت الزعيم.
فالثورات والانتفاضات العربيّة، على بؤس المصائر التي انتهت إليها، إنّما كسرت المحرّم بوصفه السور الواقي للمقدّس وحرمته، بالتالي، وظيفته.
وأمرٌ كهذا انتظمَ سيرَه خطٌّ متدرّج: فمن جمال عبد الناصر إلى حافظ الأسد وصدّام حسين ومعمّر القذّافي، غدا التقديس في حاجة إلى تحريم أكبر، أي قمع أكثر، وفي الحالة الليبيّة، إلى رشوة ماليّة أكبر تشوب القمع وتتخلّله.
وهذا التراجع في قدسيّة المقدّس لم يكن مردّه الأوحد إلى الفارق الكاريزميّ بين عبد الناصر والآخرين. فالأصحّ، في المقابل، أنّ هذا الفارق الكاريزميّ هو نفسه نتاج الفارق بين الحقبتين.
فالحقبة الناصريّة كانت تختلط فيها الإنجازات الفعليّة، بدءاً بجلاء 1954، وأوهام الإنجازات ومزاعمها. هكذا أتت شعبويّتها الظافرة مسنودة إلى ما يمكن تصويره مكاسب للسكّان، وإلى اتّحاد سوفياتيّ اجترح كتلة جبّارة بعد الحرب العالميّة الثانية، وبها خرج إلى العالم ينافس ويقارع. وهذا ما جعل القيم التي يقول بها عبد الناصر ومجايلوه، كسوكارنو الإندونيسيّ ونيكروما الغانيّ، سلعة تقبل التداول أو عملة تتّسع لها سوق صرف العملات. وإذ تحالفت القداسة مع الظاهرة الجماهيريّة لما بعد الحرب العالميّة الثانية، وإذ استدعت الأولى الثانيةَ وسيّستها، بتنا في مسرح متواصل متعدّد المرايا. وكما في المسارح، يقلّ عدد الأبطال الممثّلين ويكثر تعداد المشاهدين المصفّقين. وكما في الصور، هناك صورة لواحد وهناك كثيرون ينظرون.
وقد ذكّرنا، يوم الأحد الماضي، الزميل وحيد عبد المجيد، على صفحات «تيّارات – الحياة»، بأغنية عبد الحليم حافظ الناصريّة: «صورة صورة صورة… كلّنا كده عايزين صورة… صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة».
لكنْ في الحقبة ما بعد الناصريّة، طغى غثّ الإنجازات طغياناً مبرماً على سمينها. وإذ دخل الاتّحاد السوفياتيّ وإيديولوجيّته ونموذجه طور التخشّب المديد، باتت أجهزة الأمن وحدها مَن يوفّر للقائد جماهيره، وللصورة الرانين إليها.
ولئن وفد آية الله الخمينيّ من خارج هذا المسار الانحداريّ، فقُدّم نفسه بوصفه المعصوم والبداية والنهاية، فهو كان ومضة سرعان ما انطفأت. ذاك أنّه لم تظهر في أوساط الإيمان السياسيّ زعامة كاريزميّة أخرى من عيار ناصريّ. أمّا الكاريزما التي رآها البعض في أسامة بن لادن فكانت وظيفته الإرهابيّة والخبيئة تحول دون اشتغالها الجماهيريّ المعلن.
وإذ حاول محمّد خاتمي أن يشكّل حالة محترمة ومتواضعة تكابد التوفيق بين أنماط الشرعيّات الدينيّة والزمنيّة، فإنّ الورثة الآخرين، لا سيّما منهم أحمدي نجاد، جعلوا المسألة كلّها لزوم ما لا يلزم.
وفي منطقتنا الآن، حيث زمننا العالميّ بوتينيّ، يغدو نقص المواصفات القياديّة أوّل مواصفات القيادة. وإذا كان بشّار الأسد شيخ طريقة في التراكم السالب هذا، فإنّ الطريقة تضمّ أتباعاً وتابعين آخرين يغطّون بلدان المشرق جميعاً. فالسلطة أمنٌ محض، بلا أيّ زعم إيديولوجيّ، ولو من العيار الذي عرفناه مع حافظ الأسد وصدّام والقذّافي. أمّا الاقتصاد فلم يعد معنيّاً، في جموحه النيوليبراليّ، لا بالإنجازات ولا حتّى بأكاذيبها.
وإذ ابتُذل المقدّس تفاهةً محضة، انحطّ التحريم إلى سويّة القتل المحض، فبتنا في عالم من التعميم والمشاع، بلا تقديس يقدّس ولا تحريم يحرّم.
الحياة