السرد السوري.. مخيّلة الأمكنة المقتولة/ أيمن الأحمد
تحرّض البديهية النقدية، المتعلّقة بارتباط المكان بالحدث، على التفكير بمصائر ومآلات أمكنة سردية (روائية وقصصية) سورية مرتبطة بالحدث السوري الحالي؛ إذ من غير “المتصوَّر تخيّل حدثٍ ما دون مكان”.
وعلى نحو واقعي، شكلّ فضاء المكان السوري أكثر العناصر التي ارتبطت بالحدث المتواصل منذ أكثر من خمس سنوات، إذ لا يمكن تخيّل نشرة أخبار، أو تقرير حقوقي، أو توثيق، أو حديث شفهي من دون مكان سوري محدّد ومعرّف.
هذا التحريض يولّد أسئلة وخيالات كثيرة عن مآلات أمكنة شكّلت عنصراً فاعلاً في أعمال سردية سورية متعدّدة. فما هو مصير دمشق في “موزاييك دمشق 39” لفوّاز حداد؟ وإنخل – درعا في “مديح الهرب” لخليل النعيمي، وخان الحرير في “حلب” لنهاد سيريس، وعامودا في روايات سليم بركات، والرقّة في روايات إبراهيم الخليل، وتدمر في روايتي “القوقعة” لمصطفى خليفة و”السوريون الأعداء” لفواز حدّاد أيضاً؟ والحسكة ودير الزور والسويداء في قصص الراحل سعيد حورانية؟
لا تبدو كل من دمشق وحلب، المدينتين المركزيتين في الخارطة السورية، هما اللتان استحوذتا على الحصة الأكبر للأمكنة السردية السورية بحالتهما الطبيعية، فلم تعد مدينة دمشق في “موزاييك دمشق 39” تشبه نفسها بحيويتها وألقها قياساً على تلك الفترة، فهي الآن غريبة عن ذاتها وعن أهلها، مصنّفة كأتعس مكان للعيش في العالم، حسب تقارير دولية.
“وليس الحال أفضل في كل من حلب خالد خليفة، المدينة الأخطر في العالم، وخان الحرير “سيريس”، المكان الأثري الجميل الذي جرى إحراقه بالكامل نتيجة المعارك الطاحنة في المدينة القديمة.
لكن أطْلَس القتل للأمكنة السورية لم يقتصر على المدينتين المركزيتين، بل كان أكثر فظاعة في مدن وأمكنة الهامش – سردياً وواقعياً – في الخريطة السورية. فمن تدمير جزئي وتفريغ من السكّان، كـ”أحياء حمص”، إلى تدمير كلّي، كما حصل لسجن تدمر العسكري سيّئ الصيت صيف 2015 (مكان روايتَي “القوقعة” و”السوريون الأعداء”).
درعا خليل النعيمي ليست بأحسنَ حالاً، فرواية “مديح الهرب” التي تتحدّث عن بنية الجيش المرابط على حدود الجولان من وجهة نظر الطبيب الضابط، الذي عاين تلك التجربة بدقّة وبعمق من داخل المؤسّسة العسكرية، تكشف هشاشة تلك البنية، وكيف كانت علاقة الجيش مع المكان، خاصة استغلال أفراد وضبّاط الجيش للنازحات من الجولان بعد المعركة التي خسرها الجيش نفسه.
تعرّضت درعا المدينة وإنخل وأغلب مدن وبلدات وقرى سهل حوران إلى تدمير كبير منذ انطلاق شرارة الثورة قبل أكثر من خمس سنوات، ومن يقرأ رواية النعيمي “مديح الهرب” لن يتفاجأ بما فعله الجيش بدخول مدينة درعا وإدارة ظهره للجولان.
أمكنة القصص السورية التي تناولت غالباً بيئات ريفية وهامشية، لم تكن أفضل حالاً. فقد تعرّضت إلى الدمار ولاقت مصير الأمكنة الروائية السورية.
قصص الكاتب سعيد حورانية (1927 – 1994) في مجموعاته الثلاث؛ “في الناس المسرة” و”سنتان وتحترق الغابة” و”شتاء قاس آخر”، خير مثال لمعاينة مصائر أمكنة قصصية سورية بسبب تنوّع الأمكنة التي تحدّث عنها حورانية، بدءاً من حوران والسويداء، جنوب سورية، مروراً بدير الزور والميادين شرقها، كما في قصّة “عريضة استرحام”، وصولاً إلى الحسكة، في أقصى الشمال الشرقي.
ولعل قصّته المعنونة بـ”محطّة السبع والأربعين”، ذلك المكان الغائب الحاضر في رحلة المعلّم المنقول تعسّفاً إلى أقصى البلاد خمسينيات القرن الماضي، خير مثال؛ إذ لم يعد هذا المكان موجوداً تقريباً بعد أكثر من نصف قرن من محاولات البقاء في تلك البادية الفقيرة المنعزلة، بعد أن تعرّض إلى القصف الجوي خلال العامين الماضيين واستُهدف صيف 2013 بصاروخ يُعتقد أنه بالستي سقط بالقرب من تلك البلدة.
كل ذلك كان كافياً ليهجره أصحابه، خصوصاً بعد احتدام المعارك، قبل شهر، بالقرب من “السبع والأربعين”، ونزوح من تبقى منهم إلى بادية دير الزور، ربّما من دون أن يقرأ أحدهم نص حورانية عن بلدتهم.
على أن الصورة اليوم تأخذ بعداً آخر في سياق تحطيم المركز لصالح أمكنة لطالما كانت هامشية واقعياً وسردياً. روايات جديدة تتحدّث عن ريف حلب، وبابا عمرو، وحمص القديمة وريف إدلب، وربما قادمةٌ تلحظ رمزية أمكنة سورية عديدة ظهرت كأمكنة للحصار والتجويع؛ كـ”مضايا”، والزبداني، ودير الزور، والوعر، ودوما، وعربين… أمكنة وقفت الإنسانية عاجزة عن إنقاذها.
وعلى ضوء ما ستشكّله الخريطة السياسية لسورية، ستُبنى معها بشكل موازٍ خريطة سردية جديدة تلحظ مصائر ومآلات الأمكنة المقتولة، وهي تبحث في خيالاتها رائحةَ من غادروا.
لكن السؤال الذي يطعن المخيّلة الآن ونحن نفكّر في تلك الأمكنة “الجديدة”: هل كان لا بد أن تتحطم تلك الأماكن الهامشية واقعياً بهذه القسوة والمأساوية لتنتقل إلى السردي؟
العربي الجديد