السفينة السورية الغارقة/ ساطع نور الدين
اما ان سوريا تتعمد صنع الالغاز، او انها هي اللغز الذي يحير العالم كله، ويزداد تعقيدا كل يوم. لم تعد هناك حركة سياسية او خطوة عسكرية او حتى بادرة اعلامية، مفهومة. كل ما يصدر عن السوريين هذه الايام يحتاج الى منجم او ضارب بالرمل..يستوي في ذلك النظام والمعارضة وما بينهما من جمهور يائس، ومن شركاء او حلفاء يقفون مذهولين، عاجزين عن ادراك سبب هذا الانحدار المريع لكل ما هو سوري.
لعلها الشخصية السورية العصية على الحكم وعلى الاعتراض في آن، التي تحمل في جيناتها بذور هذا الخلل التكويني. او انها الحرب الوحشية التي اعادت سوريا الى ما قبل اختراع فكرة الدولة وما قبل تشكيل الاجتماع السوري، ودفعت السوريين الى عصبياتهم وغرائزهم الاولى..التي تنتج الموت الجماعي، ولا شيء سواها، وتفشل في صياغة الحدود الدنيا لبقاء الاسم والعلم والعملة والحدود.
قد يكون الاتفاق الاميركي الروسي الاخير حول ازالة الاسلحة الكيماوية هو الدافع الى مثل هذا الارتباك على مستوى النظام الذي بات يحكي بشكل يومي تقريبا كلاما اقرب الى الهذيان، او على مستوى المعارضة التي بات التعرف او حتى احصاء تشكيلاتها السياسية والعسكرية، يتطلب جهدا استثنائيا، فكيف اذا كان الامر يتناول تحديد الهويات والايديولوجيات وبرامج العمل.
سال لسان الرئيس بشار الاسد اكثر من اي وقت مضى. مراسلو التلفزيونات الروسية والصينية والفنزولية والايطالية وسواهم نالوا حصتهم من حوارات سوريالية تبدأ بالسلاح الكيماوي الذي استخدمته المعارضة برغم انه في عهدة الدولة وحدها، وتنتهي بالسفينة التي لا يريد الاسد مغادرتها لانها مهددة بالغرق.. اختير المراسلون بعناية فائقة، بحيث ان احدا منهم لم يجروء على ابلاغ الرئيس ان الادلة الكيماوية القاطعة تدين نظامه، ولم يخطر في بال اي منهم ان يبلغه ان السفينة غرقت بالفعل ويجري الان البحث عن المفقودين من ركابها لانقاذهم.
لم يكتشف الاسد في نفسه اخيرا حب الظهور على الشاشات، هو فقط يرد على الاتفاق الاميركي الروسي الذي وقع من دون رغبته وحتى من دون معرفته. يبرر لجمهوره قرار التخلي عن السلاح الكيماوي الذي لم يعد سلاحا استراتيجيا مفيدا، في الصراع مع “العدو” ويسأل الموقعين الاميركيين والروس عن الثمن الذي سيتقاضاه لقاء تدمير هذا السلاح. هل سيكون بولاية رئاسية ثالثة في الصيف المقبل ؟ في واشنطن وموسكو صمت مطبق. وفي دمشق سيل من المقابلات.
معظم هذه المقابلات الرئاسية يضيع سدى. المعارضة لم تجد حتى الان الوقت الكافي لقراءة وتحليل مضمونها. فهي منهمكة بانشقاقات وصراعات وحتى اشتباكات متلاحقة، ليس لها تفسير سوى ان المعارضين على اختلاف انتماءاتهم وميولهم اساءوا تفسير الاتفاق الاميركي الروسي. بعضهم رأى فيه نهاية حقبة ملتبسة وطويلة من عمر الثورة، وبعضهم الاخر اعتبره بداية سريعة في مسيرة الوصول الى السلطة.
يقال ان الثورة كبرت على المعارضة الراهنة، ويقال ان المعارضة هرمت على الثورة الراهنة. لكن الاكيد انه لا يمكن العثور اليوم وبعد اكثر من ثلاثين شهرا على الثورة على كيان او حتى على عنوان واحد للمعارضة السورية التي صارت تتقاتل في ما بينها اكثر بكثير مما تقاتل النظام: الائتلاف يتفكك ويخسر تباعا تشكيلاته العسكرية والاسلامية، والجيش الحر يفقد وحداته وكتائبه الاسلامية، والجيش الاسلامي يظهر فجأة من تحت هذا الركام ، والديموقراطيون ينتظمون، للمرة الثالثة او الرابعة على الاقل، في اتحاد جديد.
اي أحجية هذه التي يقدمها السوريون اليوم؟ النظام لا يتعمد بث هذا التشوش، والمعارضة لا تتقصد هذا التفتت. هذا مؤكد، ومحير، ومحزن على اولئك الذين يحاولون النجاة من تلك السفينة الغارقة.
المدن