السلفية الجهادية: نص واحد وقراءات متناقضة/ علي العبدالله *
وضعتني الظروف خلال اعتـقالي عام 2005 على خلفية قراءتي رسالة المراقب العام لـ «الإخوان المسلمين» الاستاذ علي صـدر الدين البيـانونـي في ندوة لمنتدى جمال الاتاسي للحوار الوطني الديـموقراطي خـصصت لموقف المعارضة من الاصلاح السـياسي في سـورية، وضـعتـني في مواجهة مع عدد من المنتمين إلى السلفية الجهادية، حيث تواجدنا في غرفتين منفردتين متقابلتين (الجناح الثاني الذي يديره الامن السـياسي في سـجن دمــشق المركزي- عدرا، أنا في منفردة 5 ،2× 2م ضمنها حمام ومرحاض، وهم 4 أفراد حشروا في مثلها) وهذا سمح بحصول حوار متقطع وحاد. فقد تنـبه السـلفيون إلى وجود قادم جديد إلى جوارهم من خلال حـديثي مع سجين في الغرفة المجاورة، فبادر أحدهم إلى سـؤالي إن كنت إسلامياً، وعندما أجبته بـ «نص نص». سألني إن كنت «إخوانياً». وعندما أجبته بالنفي، وأضفت أنا اعتبر العروبة والإسلام ثوابت في الهوية العربية والنظام الديموقراطي الحكم الصالح، قطع الحديث بالقول سنتحدث لاحقاً، ولم يأت هذا الـ «لاحقاً».
مرت فترة طويلة قبل أن اسمع صوت الشاب الذي حدثني ثانية، حيث أتاح وصول معتقل جديد مرحّل من المملكة المتحدة إلى منفردة مجاورة، سماع صوت السلفي ثانية، فبعد أن تحدثنا إلى المعتقل الجديد وعلمنا منه أن والده من حركة الإخوان المسلمين، تحدث السلفي إليه حول «أصحاب» والده، يقصد حركة الإخوان المسلمين، قائلاً: «إن أصحاب والدك بلغوا، بقبولهم الحوار مع السلطة وتبني الأساليب السلمية في العمل السياسي، حد الشرك». مبرزاً أن معيار الإيمان هو الجهاد المباشر والقتال ضد الكفار والمشركين. ثم انبرى يحذره من التحدث إلينا أو المشاركة في الحوارات التي كانت تجري ليلاً بين الذين يحتلون المنفردات المتجاورة على خلفية اعتبارنا مشركين. واستند في البرهنة على تحريم الحديث معنا إلى الآية الكريمة: «وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويـستـهزأ بها فلا تقعدوا معهم» (النساء الآية 140)، وردت بالصيغة نفسها في الآية 68 من سورة الأنعام من دون أن يكمل الآية حيث تقول التتمة: «حتى يخوضوا في حديث غيره»، أي أن القرآن الكريم لا يدعو إلى مقاطعة أو اعتزال المجتمع كما تدعي الدعوات التكفيرية بل يكتفي بالمطالبة بمقاطعة الجلسات التي يتم فيها الكفر والاستهزاء بآيات الله، وذهب في تأكيد وجهة نظره إلى اعتبار حالة النبي إبراهيم (عليه السلام) مع قومه التي أوردها القرآن الكريم دليلاً على ضرورة مقاطعة السلطة وأصحاب الرأي المخالف، حيث جاء في الآية 4 من سورة الممتحنة: «قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده» من دون أن يأخذ في الاعتبار التباين الواضح والصارخ بين الحالتين: شرك قوم إبراهيم وإسلامنا، وأن خلاف إبراهيم مع والده وقومه كان حول الألوهية والإيمان بالله، بينما الخلاف بيننا وبينهم ليس خلافاً حول العقيدة بل حول فهمها.
وعند الإعلان عن دخول شهر رمضان الكريم هنأت أصدقاء (وليد البني وحبيب عيسى وفواز تللو ورياض درار) وزملاء المنفردات المجاورة بحلول الشهر الكريم، وأحببت أن اهنئ السلفيين، فتوجهت إليهم بالحديث فلم يردوا على تهنئتي وكأنهم غير موجودين. غير أن أميرهم، عمر، استمع إلى حديثي مع صديقي رياض درار بعد السحور، وبشكل شبه يومي، حول آيات القرآن الكريم ودلالاتها، ورأى أن يتحدث إلينا، ربما اعتبرنا حالة قابلة للإصلاح، فخاطب رياض قائلاً: إني لم أتحدث إليكم من قبل لكن عندما سمعتكم تتدارسون القرآن وجدت أنه من الضروري التحدث إليكم. وراح يحدثه عن عقيدة التوحيد، وأن النقطة الأساس الآن هي الإقرار بالإلوهية الخالصة (لا إله إلا الله)، تميز السلفية بين نوعين من التوحيد: توحيد الإلوهية الذي تعتبره التوحيد الصحيح وتوحيد الربوبية الذي تعتبره ينطوي على شرك بالله، واستشهد بالآيات الكريمة: «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله» و «ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله» (العنكبوت 61 و 63) و (الآيات لقمان 25 والزمر 38 والزخرف 9 و 87) والتي يقر فيها المشركون بوجود الله وبخلقه للكون، ليصل إلى استنتاج «حتى المشركين يسلمون بوجود الله وبخلقه للكون والبـشـر وبتـدبير الكون»، ما يجعل هذا التسليم غير كافٍ لصحة العقيدة ويستدعي تأكيده بعقيدة التوحيد الخالصة. ثم قال له أراك وقعت في الفخ بالتحدث إلى الأشخاص الموجودين في الغرف المجاورة، كان صـنفهم كفاراً على خلفية رفضهم في حوار سـابق معه إقامة الحدود (قطع يـد الــسارق ورجم الزانـي) في عصرنا والاكتفاء بالتعزير، وإيمانهم بالديـموقـراطية، واستـشهد بالآية الكريمة «ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون» (المائدة، 44) رد عليه رياض بالقول: «إنك تخلط بين القضاء وميـدان السـياسـة، حيث يسـتـخدم القـرآن الكـريم عند الحديث عن قضايا الأحوال الشخصية والاجتماعية والاختلاف حول الحقوق مصطلح «الحكم» بينما يستخدم عند تناوله قضايا الـسياسة مصطلح «الأمر» كما في قوله تعالى «وشاورهم في الأمر» (الآية 159، آل عمران) وأمرهم شورى بينهم (الآية. 38 الشورى). وصيغة «أولي الأمر» على الحكام».
صمت السلفي من دون أن يعني ذلك انه قبل كلام رياض أو اقتنع به، ما يعني أن الحوار المتقطع لم يسفر عن نتيجة. وقد أكد هذا الاستنتاج رد فعله على أنباء عمليات السلفية الجهادية في العراق ضد القوات الأميركية والعراقية والمدنيين من الشيعة والأكراد التي كان يسمعها من المذياع، حيث كان يدخل في حالة فرح هستيري يعبر عنها بإطلاق أهازيج السلفية التي تحض على الجهاد والاستشهاد. وعندما اعترضنا على القتل الوحشي الذي لا يميز بين المحتل والمواطن، بين العسكري والمدني، واعترضنا على تكفير الشيعة وقتلهم على هذه الخلفية، لم يستطع الدفاع عن هذه الممارسة الوحشية أو تقديم براهين شرعية لتكفيرهم، لكن من دون أن يدين هذه الممارسة التي ربطها بسلوك القتلى السياسي قائلاً: «إنهم خونة»، وإنهم – السلفيون – يناقشون كل حالة على حدة قبل القيام بأية عملية ولا يقتلون إلا الذي يثبت كفره أو شركه أو خيانته، وهذا يبرر قتلهم. وعندما أشرنا إلى القتلى الذين يسقطون نتيجة التفجيرات من غير المستهدفين بالفتوى حل القضية بسهولة باعتبارهم قتلى الصدفة وأطلق عليهم صفة شهداء الصدفة، ما يعني أنه منَّ عليهم بالجنة.
يعكس الحوار السابق صورة ونمط الثقافة السائدة في أوساط السلفية الجهادية التي تكفر المختلف في الفروع والأصول و «تشرعن» العنف والقتل لاعتبارات عقائدية أو سياسية على حد سواء. وهذا يستدعي جهداً ثقافياً كبيراً لإيضاح خطأ هذه الأفكار والممارسات وخطورتها على الإسلام ذاته، ولحماية المجتمع، وجيل الشباب بخاصة، من تأثيرها المدمر.
* كاتب سوري
الحياة