رستم محمودصفحات الناس

السوريون والعجوز النوبية/رستم محمود

قبل أعوام، كنت أعمل على إخراج فيلم وثائقي عن المسألة النوبية في مصر، قُيض لي وقتئذ أن ألتقي بعجوز نوبية في العقد التاسع من عمرها، هُجرت إلى القاهرة منذ نصف قرن تقريباً. فبعدما شيدت الحكومة المصرية السدّ العالي على نهر النيل في منطقة أسوان، غمرت مياه بحيرة ناصر قرية تلك العجوز، وتم ترحيلها إلى القاهرة وكانت في الثلاثين من عمرها.

 تحدثت العجوز في الفيلم عن أشكال آلامها، فهي لا تستطيع مثلاً الحديث مع حفيدها الذي يسكن معها في البيت نفسه، فهي لا تعرف سوى اللغة النوبية، وهو لا يتقن سوى العربية، وكذلك وجعها بسبب تحولها إلى كائن سلبي. فهي لا تتقن أياً من مهن المدينة وسلوكياتها، بعدما كانت تنشط في الزراعة وتربية الماشية والتطريز في قريتها النوبية التي غُمرت بمياه نهر النيل. الصدمة كانت، حين سألتها من وراء الكاميرا، عن أكبر أمنياتها وأحلامها، فجاء جوابها البارد بعد ثوان مليئة بالزفرات: “أتمنى أن يجف نهر النيل، لأرى قريتي التي نشأت فيها، ولو لمرة واحدة قبل الموت”.

في ذاكرة ملايين السوريين وقرارة أرواحهم، ما يشبه حالة العجوز النوبية تلك. إذ لن يعوض ألمهم من افتقاد المكان الذي كانوا فيه، أي مكتسب آخر. بيوت وحارات وأحياء ومدن سوّيت بالأرض؛ بغض النظر عما كانت عليه من سوء تنظيم وشروط بالغة الرداءة للإقامة، لكنها دوماً كانت وحدها تحتل جغرافيا الذاكرة.

 في حالات كثيرة، كان بعض الأماكن، خصوصاً في الأرياف وبالنسبة إلى إناث البيئات المحافظة، كانت تلك الأماكن هي الشاهد الوحيدة على السيرة الذاتية الشخصية، ارتبطت بها تفاصيل العلاقات والرموز والمعاني والأحداث والأشخاص.

 ما الذي للعالم “الحرّ” والأخوّة والأصدقاء أن يقدّموه للسوريين، هل سيعيدون بناء أحياء ومدن حديثة لهم! لكن كيف سيُعاد ذلك النسيج الاجتماعي الذي كان، من جيران وأقرباء مثلاً، حيث توطدت أركان الطمأنينة والود في ما بينهم، جيلاً بعد جيل، وأسّست لأشكال راسخة من منظومة القيم والتقاليد. سيعيدون بناء المدن، لكن ماذا بالنسبة إلى شجرة الصفصاف عند مدخل الحارة مثلاً، تلك التي كانت علامة لكل قادم غريب، وكانت ظلالها مرتعاً للعب أطفال الحارة لعقود وعقود؟ ماذا بالنسبة إلى قطط الحارة وكلابها الشهيرة؟ ماذا عن الشحاذين الذين كنا نعرفهم؟ ماذا عن كشك بائع الفول وصوت موزع المازوت الذي سيختفي؟ وأين سنجد المجانين الذين كبرنا معهم وعلى مفارقاتهم؟ ماذا عن المقاهي وروّادها وديكوراتها التي ستختفي؟ عن الحلاق وحفافة الحواجب اللذين تعودنا على خفة يديهما؟ باعة الخضار المشهورون؟ الصاغة والأطباء والخياطون الذين ليس لنا أن نثق في غيرهم؟ كيف لنا أن ننجو من بحر السيّر التي سنبقى نقصّها عن أماكن زالت، مدارس وحدائق وملاعب ومسابح وساحات عامة وشرفات؟ آهٍ من شرفة تختفي.

 سنبني مدناً جديدة، لكن كيف لنا أن ننفك من أسر طبائع وشروط مدننا التي كانت، أقصد هويات المدن وخصائصها وعلامتها وأجوائها. مثلاً بالنسبة إلي، كيف لمدينتي أن تعود كما كانت لو هجرها سكانها السريان مثلاً، هؤلاء الذين لا أعرف سلوكاً في الحياة العامة إلا عبر تقليدهم، فمنهم وعبر أشكال من الصداقة والجيرة والعيش المشترك، غطت كامل أيام عمري، تلقفت وتبينت من دون وعي، كافة أنماط العيش والسلوك ومنظومة القيم وأشكال التعبير، هؤلاء الذين أشعر باسترخاء وطمأنينة حين أكون معهم وضمن أجوائهم. أي شيء يمكن أن يعوّضني ويشعرني بالأمان وأن يعيد لي حيويتي التي كانت، حتى لو بقيت المدينة بشكلها المادي كما كانت، لكن لو هجرها سريانها. مدننا التي اكتسبت شكلها وهوياتها عبر تراكم زمني اجتماعي طويل جداً، يستحيل أن يُعاد تشكلها بنفس النمط والسياق.

 كالعجوز النوبية، ربما نختلق أشكالاً وأنماطاً من الرفاهية والعيش للبقاء، لكن الأكيد، أننا في بلادنا القادمة، سنبقى نعاني من شيء غريب نتوق إليه دائماً. سنعاني من وجع في ذاكرتنا عن أمكاننا التي كانت.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى