السوريون يجربون على الطريق الطويل إلى الحرية
«مثقفون من أجل سوريا» حاجة إلى الغناء وإلى الصراخ أيضاً
جهاد بزي
الشمس، لمن يرى الخليج للمرة الاولى، تظل اكتشافاً مذهلاً. ثابتة ومقيمة ولا مفر منها، بل إن كثيراً من يوميات الحياة التي تدور هنا، يكون لمداراتها والتخفيف من وطأتها. أبسط الامثلة ترك محركات السيارات المركونة مشتغلة لساعات كي يظل داخلها مبرداً، أو كأن تكون معظم هذه السيارات بيضاء اللون، بزجاج داكن، في سبيل رد ما أمكن من هذه القسوة الصفراء الحارقة، أو بالطبع، كأن يمضي النهار في الداخل، كل وأي داخل، بمنأى عنها ما دامت إلى هذه الدرجة ساطعة.
كل هذه الشمس فوق مدينة تُبنى كل الوقت. طرقات ومجمعات وأبنية وحتى مدن صغيرة، كاللؤلؤة، تبنى في قلب المدينة الكبيرة، بهوية عمرانية خاصة، و”بنهر” شُقّ من البحر. وأبراج ارتفعت وغيرها يرتفع. أبراج باتت دلالة المدن إلى فخرها بصورتها، والدوحة لا تشذ عن قاعدة الفخر هذه. عالية ومتلونة وبأشكال هندسية غريبة، تتجاور لتصنع مشهدها المرغوب من بعيد، والذي لا يمكن رؤيته واضحاً في غبش صيف هذه الايام نهاراً، لكنه يشع ليلاً.
تبدو المدينة على عجلة من أمرها للذهاب إلى مستقبلها. تبني ما لا يبدو حاجة آنية. على أنها تعد العدة لغدها. والمكان على سباق مع عناصر الطبيعة الجامحة، من الرمل إلى الشمس، التي تحيل كل جديد، بسرعة إلى عتيق ومرهق، ليكون البحر، الخليج، الاكثر هدوءاً هنا، والاحلى لوناً.
في طقس كهذا، وفي دولة طامحة سياسياً، كانت سوريا بدءاً من أول حزيران، عنواناً للتظاهرة التي دعا إليها “مثقفون من أجل سوريا”. وهي تضم أسماء كثيرة، كعزمي بشارة (رئيسا)، وهاني فحص، وأحمد فؤاد نجم، وزكريا تامر، وعلي فرزات، إلى آخرين. المهرجان الفني الثقافي استضافته وزارة الثقافة القطرية والفنون والتراث، وكان الكاتب السوري حكم البابا المشرف العام عليه.
هذه “التظاهرة” التي تختتم اليوم، أقيمت في “كتارا”، المجمع الهائل المعد لاستقبال المهرجانات الفنية على أنواعها. وقد جمعت الكتاب والشعراء والفنانين من دول عربية عدة. روائيون وشعراء ومغنون ورسامون وممثلون، من المخضرمين الى الشباب الذي لا تجربة له خارج “فن الثورة” على أنواعه أتوا إلى لقاء يتيه فيه الخيط الفاصل بين حديثي السياسة والثقافة المتداخلين. ويقع السؤال الاول والأخير لهم، ولغيرهم، في “ما يمكن المثقف العربي أن يصنع من اجل الشعوب العربية”، في لحظة يقينه بأن جل ما يمكن فعله هو أن يلحق بركبها، بعدما تأخر، وسبقته إلى ما كان يطالبها به.
وهو نقاش فيه الكثير من التواضع الاقرب إلى الخشوع “أمام الشعب الذي يدفع دمه ثمن الحرية”، والاقرب إلى جلد الذات التي تشارك في فعالية ثقافية بينما الناس يقتلون. لكن الاستنتاج المنطقي هنا هو أن لكل دوره. ما يجري على ضفاف الحراك الشعبي ليس هامشياً، بل على العكس أساسي وضروري. وبين السوريين، ما زال كل نقاش تجريبياً، في ظل مُتغير جذري في بلد غُيّب قبل عقود مختصراً بحزب وبضعة شعارات قبل أن يخرج كله ودفعة واحدة، بأصوات ناسه ومثقفيه، وليحتل حيزاً واسعاً من مشهد عربي.
عمّ الثورات
وتجريب السوريين واسع هنا، من حواراتهم إلى إنتاجاتهم الابداعية. في الاخيرة كثير من مفرداتهم الخاصة بهم، والتي باتت أيقونات ثورتهم. حمص وبابا عمرو وحمزة الخطيب، وغيرها من الكلمات المثقلة بحدثها والتي ما إن تقال حتى تدوي المشاعر تصفيقا عالياً. الحرب والقتل والدم والظلم والجندي والحرية، وكل ما كتب من قبل، يكتبه السوريون من جديد، بعدما اختبروه بكل قسوته. هذه تجربة سبقهم إليها، وإلينا جميعاً، الفلسطينيون. أسسوا لأدب القضية ولفنون القضية بل ذهبوا بعيداً في التأسيس له حتى باتت منافسة تراث الفلسطينيين مستحيلة. لكنها ليست منافسة بطبيعة الحال، بل طرق تعبير، فيها المباشر، الواضح، ابن ساعته المنفعل الصادق الذي لا يبقى، وفيه ما سيبقى، كأي وكل فن.
السوريون يجربون إذاً، والعرب يحيطون بهم. في لقاءات كهذه نلمس معنى أن نكون عرباً. ندخن كثيراً ونحكي ونضحك ونتأخر دائماً عن المواعيد ونستمتع بشعرنا وموسيقانا ونتشارك هذا الذهول المستمر بما تغيّر. هناك دائماً ما يجمعنا، من رهابنا الذي لا ينقطع من المؤامرات المحاكة ضدنا، إلى ايماننا الحالم بقدرتنا على التغيير الجذري. نحتفل بنجومنا المشتركين. العجوز الرائع بجلابيته البيضاء لا يهدأ. يظل يمشي في ردهات الفندق وحده حيناً ومتكئاً على صديقه المصري الشاب حيناً آخر. أحمد فؤاد نجم لم يبق أحد إلا وتصور معه. يقبل بنفسه على الحكي مع الناس وعلى سرد “حواديته” التي لا تنتهي. قطع أمسيته الشعرية فجأة حين شعر أنه أرهق. كان بدأها بحكاية أكملها بقصيدة عاد بعدها إلى نكتة. بين هذه وتلك، يطلق سخريته اللاذعة. هكذا. والناس مأخوذة بهذا الذي عاش ليرى وليروي، على ما قال غابرييل غارسيا ماركيز عن نفسه. عاش ليرى كل هذا التغيير، ويصير هذا المصري الجميل “عمّ” الثورات العربية، نقاوتها وبراءتها الثوريتين.
الغناء والصراخ
سميح شقير هنا ايضاً، بنحوله وعوده و”يا حيف” التي افتتح بها الغناء للثورة السورية. ثمة خصوصية تقوم بينه وبين جمهوره من السوريين، لا يدعي العرب أنهم جزء منها. بات للسوريين أخيراً ما يغنون لأجله، وهذا فيه حنين خاص بهم وحدهم، وبكاء وفرح وانفعال خاص بهم وحدهم أيضاً. كذلك سيغنون مع مؤدين آخرين شباب أكثر مباشرة وأقل موهبة. ليس الوقت للحكم على القيمة، وإن كان السؤال حول قيمة الإبداع مطروحاً ومبرراً طرحه. ما زالوا في قلب الحدث. بعض المشاركين السوريين موجودون هنا أصلاً بسبب وقوفهم إلى جانب الثورة. المنفيون منهم، طوعاً أو قسراً منذ أعوام بعيدة، أسسوا وباتوا حاضرين قبل اندلاع الحدث السوري. كذلك غيرهم. علي الحجار الذي غنى بعد سميح شقير خرج إلى المسرح بمجموعة من الاغنيات بعضها كان ممنوعاً ايام الرئيس السابق. هذا الوجه المصري المغاير للسائد، يحمل صوتاً قوياً فيه طاقة غريبة على الأنوثة والرجولة والبكاء والفرح. اشبع المكان غناء. في الليلة اللاحقة ستغني اصالة وحدها. وبعدها بيوم، ستخرج من حيث لا يدري أحد سناء موسى، لتنثر صوتها في فضاء المسرح شجناً خالصاً. الشابة الفلسطينية التي تبحث في التراث الشعبي الفلسطيني غنت بكل ما في صوتها من نضارة كما غنت الأمهات في فلسطين، أو حملت مشاعرنا في اقل تقدير على الاعتقاد بذلك. جاءت بأحزان البلاد وثوارها ورائحة قراها. كانت بدورها من أفضل ما قدمه المهرجان. بعدها، غنى أحمد قعبور بحماسة اصابت الجمهور وأشعلته، هو الذي افتتح الغناء بـ”أناديكم”.
في ليلة أخرى، صعد رشيد غلام إلى المسرح ليحمله والجمهور إلى ذهول بصوت لا يصدق.. وبلا نهاية. المطرب المغربي يظل يرتفع بإنشاده حتى ينتزع الدموع من العيون. غنى القدود وغنى المدائح ورباعيات الخيام. ولما ردد شعارات الثورة ضد حافظ وبشار الأسد قفز الجمهور برمته صارخاً بكل ما أوتي. كشف السوريون عن عمق اختناقهم وعن مدى حاجتهم إلى الصراخ. ولا يبدو أنهم مستعدون للسكوت ثانية.
لبنان المنسي
في احتفالية كهذه، تتراجع نجومية بلاد لتتقدم بلاد أخرى إلى نجوميتها العربية. نادراً ما كان لبنان منسياً، ويبدو أن نسيانه، الآن، من حسن حظه. خاض البلد عذاباته التي كان للحاكم السوري جزء كبير من مساهمته فيها. لبنان الهادئ، بينما محيطه يرقص، كان رقص قبلاً، وغنى وكتب شعراً وصارت له مفرداته وأيقوناته ومهرجانات التضامن معه. لا أحد يمكنه أن يحدد سبب هدوئه إلا أن هذا يبقى من حسن حظه. البلد الخائف على نفسه ينأى وينأى بها حتى بات تنظيم مهرجان كهذا، في بيروت، شبه مستحيل، إن لم يكن مستحيلاً فعلاً. هذا نقاش آخر على أي حال. ما زال الخبر العربي يموج وليس من يمكنه أن يرى ما في افق هذا المشهد. البلاد التي تنتج قتلة وحكاماً آلهة، تنتج مغنين ورسامين وشعوباً تثور أو تخوض حروباً أهلية. المهرجان الذي يُقفل اليوم على غناء جماعي للحرية، ترددت فيه هذه الكلمة مئات المرات كل يوم، رسماً وفي فيلم أو اغنية أو قصيدة أو نقاش. المفردة، مهما استخدمت، وفي اي ظروف، لا تبتذل، لكن الطريق إلى فهمها طويل بما لا يقاس. أما البحث عن الحرية، فلا يقل أهمية عنها.