السينما وسيكولوجيا الديكتاتور
محمد رُضا
حين انتهى عرض فيلم “الأيام الطويلة” أمام الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، انتظر الحضور ردّ فعله قبل أن ينطلقوا بالتصفيق الحاد. ذلك أن إبداء الإعجاب او الإزدراء يجب أن يكون متجانساً مع رد فعل الرئيس. إذا بادر الرئيس بالتصفيق، فمعنى ذلك أنه أحب الفيلم، وعلى الجميع، أحبّوا الفيلم أم لم يحبّوه، أن يصفّقوا له ويحبّوه. أما إذا نهض من مكانه واتجه الى الباب، فإن أحداً لن يستطيع حتى أن يبتسم. سيفسّر الأمر على أن الاستياء وحده هو الذي دفع الرئيس لمغادرة المكان، وليس من حقّ المشاهد، والحال هذه، أن يكون موقفه مغايراً لموقف الرئيس.
الفيلم كان حسّاساً كونه دار عما اختاره الرئيس من مراحل حياته. وكان مهمّاً كونه الفيلم الروائي المنتظر من المخرج المصري توفيق صالح، الذي كان قبل ذلك الحين قد أخرج “المخدوعون” و”درب المهابيل” و”صراع الأبطال”، والذي كان منذ وصوله الى بغداد للتدريس والعيش، محط رغبة مؤسسة السينما العراقية في إسناد فيلم لكي يخرجه، مستفيدةً من المكانة الكبيرة التي كان أنجزها سابقاً. هذا الفيلم تبلور عن قصّة حياة صدّام حسين، والمخرج قبلها بامتعاض كما قال لاحقاً، وأمّ المشروع بمحاذيره. تصفيق الرئيس منح المخرج “كارت بلانش” لأعمال أخرى في طبيعة الحال، فهو أعجب بالفيلم، ومُنح المخرج مبلغاً كبيراً من المال لم يكن ليتقاضاه في مصر فيما لو حقق عملاً آخر هناك.
لكن حيال ذلك الإعجاب، كانت هناك شروط أساسية: يجب ألاّ يبدو الرئيس متردداً او خائفاً او مخطئاً. قبل سنوات، صرّح توفيق صالح لي قائلاً: “هل تذكر المشهد الذي يتم إخراج رصاصة من ساق الرئيس؟ القصّة حقيقية، لكن حين صوّرت المشهد طبيعياً، تم الاعتراض عليه. ففي الفيلم يصرخ صدّام حسين، كما لعبه صدّام كامل، من الألم، وهذا شيء طبيعي، لكن الأوامر صدرت بأن صدّام حسين لم يتألّم ولم يصرخ وبأن عليّ إعادة تصوير المشهد”.
أما صدّام كامل فلم يعمل مطلقاً في التمثيل بعد ذلك. كيف يمكنه ذلك وقد صدر قرار جمهوري بمنعه! السبب طبعاً لا يعود الى نوعيّته كممثل، بل لأن من يجسّد شخصية الزعيم لا يمكنه أن يجسّد أي شخصية أخرى بعد ذاك.
حدود
هذه بعض الصور التأليهية التي هي ليست حكراً على الرئيس السابق، بل منتشرة شمالاً جنوباً، شرقاً غرباً، في العالم العربي، حيث يكمن ديكتاتوريون يعتبرون أن العالم يتمحور حولهم وأن طريقتهم في كل شيء هي الصحيحة، وكل ما عداها هو الخطأ.
مع أنه من السذاجة الاعتقاد بأن بشّار الأسد أو معمّر القذافي أو حسني مبارك أو علي عبدالله صالح وسواهم سيسمحون لأحد بأن يكتب أو يصوّر فيلماً أو مسرحية أو كتاباً عنهم، الا أن الظاهرة تستحق التأمل، وخصوصاً أن الأمر لا يتوقّف عند حد صنع الأفلام، فكل فعل تعبيري مقيّد بالإجراءات التي تخرجه من التعبير الى صفة التماثل. بذلك لا يصبح العمل خلقاً تعبيرياً، بل تنفيذاً امتثالياً. تريد أن تحقق فيلماً عن معمّر القذافي فليكن، لكن خياراتك هي بين تلميع صورته وتلميع صورته. لا شيء أقل من ذلك.
حين كانت السينما الغربية تضجّ بالأفلام المعادية لصورة العربي، كانت شخصية الديكتاتور من تلك المتكررة دوماً. أحد أبرز ظهور لها، كان في فيلم “جوهرة النيل” الذي تناول حكاية شعب عربي يحكمه ديكتاتور، والشعب مذعن على رغم أنه يعاني. حين يسقط الحاكم ينحنون للحاكم التالي. المفاد: يستحق العرب من يُولّى عليهم، فهم مسلوبو الإرادة وخانعون تماماً، يرضون بأيّ شخص يركب ظهورهم.
صورة الديكتاتور خرقتها السينما من قبل كثيراً. إحدى تلك المرّات الأولى، تلك التي عالج فيها تشارلي شابلن شخصية أدولف هتلر في “الديكتاتور العظيم”، وهو، إذا راقبنا الفيلم عن كثب، لم يعمد الى تنميط العدو على نحو ساذج او قبيح، بل منحه حضوراً ناتجاً من تصرّفاته المعهودة، من دون الدخول الى شخصيّته. هذا لا يعني أنه كان مؤيداً على الإطلاق، فالفيلم يصرخ بالعداء للفكرة الفاشية ويستند الى حكاية مزدوجة، واحدة عن الديكتاتور الشبيه بهتلر وهو يقود بلاده لتحقيق حلم مجنون، وواحدة عن حلاّق يهودي من المفترض أن يتحوّل، بحسب السياسة النازية، ضحية كاملة.
في الغرب، احترام الحريّة الشخصية والعمل الخلاّق لا يزال سائداً، لكن هناك استثناءات. حين قام المخرج الدانماركي لارس فون تراير بإبداء رأي هازل وهزيل حول حبّه لهتلر، سارع مهرجان كانّ لإصدار قرار يحرمه من المهرجان. نعم، القرار ينقصه الوضوح، وخصوصاً أنه لم يسحب فيلم تراير من المسابقة. لكن ما يعنينا أن حريّة إبداء الرأي تتوقّف عند حدود معيّنة. تستطيع أن تكون ضد الله، لكنك لا تستطيع أن تكون مع هتلر. تستطيع أن تعبد الشيطان لكنك لا تستطيع أن تعجب بالديكتاتور الألماني.
ايديولوجيا حكم
ربما ليست هناك حريّة مطلقاً حول العالم. ربما ما نعيشه هو حالة أرجوانية، وكلّنا مهلوسون على حبوب “ال أس دي”، لكن الحرب حيال حرية التعبير تبدأ، في رأيي، من القمّة. عليك أن تتحرر من الخوف حين تتناول بالحديث رئيس البلاد، وهذا ما بدأت الشعوب العربية، في سوريا وليبيا واليمن ومصر وتونس، القيام به، وقد بلغ الوضع ما لا يمكن قبوله.
على الرغم من أن كل ديكتاتور حول العالم يتحلّى بخصائص سيكولوجية متشابهة، الا أن هناك فروقاً بين ديكتاتورية قائمة على مبدأ إيديولوجي يميني (هتلر) أو يساري (ستالين، كاسترو)، وبين آخر قائم على مبدأ ديني (كحال كل القادة العرب الذين واجهوا او يواجهون حالياً نقمة شعوبهم عليهم). ما أعتقده سائداً في الحالات جميعاً، هو إيمان انتقائي بالتعاليم والخصائص الربّانية تجعل الحاكم يقبل القضاء والقدر ويحيل عليه سبب وجوده في الحكم، ويرفض التعاليم السماوية الأخرى التي تندرج تحتها مبادئ الحرية وديموقراطية الرأي والمعاملة الإنسانية ومسؤولية الحاكم حيال رعيّته وتوفير الأعمال والخدمات والعلم ومسائل العدل والإنصاف والرشد في الإنفاق والمعاملة التي تحفظ للإنسان حقوقه كلّها.
هذا أشبه بأن يكون انفصاماً شخصياً. ممارسة مزدوجة تتطلّب قدراً من تأليه الذات واعتبار أن وجوده، كونه قدراً إلهياً، اختيار من الله، في حين أن ممارسته ذلك الاختيار أمر دنيوي عائد إليه ومعفى من مسؤوليّته. تبعاً لذلك، لا ينفع تفسير بعض التحليلات الغربية، بأن الأسباب التي تدفع الديكتاتور الى الديكتاتورية، تعود إلى نزعته السادية والى كونه شخصاً يعاني الشعور بالنقص، ويحكم بتلك القبضة الحديد لمجرّد أنه يحاول إثبات قدرات شخصية لا يملكها. حتى ولو كان ذلك جائزاً، كحالة القذافي أو مبارك، فإنه ليس المحرّض الوحيد ولا الدافع الرئيسي لاندفاعه في الحكم على النحو الذي يخاله حقاً طبيعياً من حقوقه. إنها إيديولوجيا حكم ذات صلة بمفهوم ديني ضيّق ومصلحة اقتصادية واسعة، يتضامنان لإفراز مبدأ ثابت في أن الحكم أحقيّة لا نزاع فيها، وأن البلاد هي هو، والناس هم رعاياه وليسوا مواطنين كاملي المواطنية. وفي حين نجحت النازية والفاشية الإيطالية في تجييش شعبيهما للإنضواء تحت إيمان شديد، الا أن ذلك من تبعات الاختلاف الجدير بالدراسة: الديكتاتورية الفاشية في ألمانيا وفي ايطاليا، وبعض الديكتاتوريات الصغيرة القائمة في لبنان، شيّدت الإعجاب بها على قوائم المصلحة الفردية للإنسان الساعي للإنقضاض على أسباب معايشته الحق مع الآخرين واعتبار إيديولوجيّته أكثر من علاقة بينه وبين الله والوطن، إنها علاقة بينه وبين الذات الفردية المندمجة ضمن المجموعة من دون تمييز.
الجدير بالتقدير هنا أن المخرج الروسي ألكسندر زوخوروف نجح في عزل السائد من المواقف المسبقة عن كل من هتلر وستالين وهيروهيتو في ثلاثة أفلام هي على التوالي “مولوش” (1999) و”توروس” (2001) و”شمس” (2005). هذا العزل ناتج من رغبة المخرج في النظر الى الحاكم والحكم خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. هل يستطيع مخرج عربي استثمار علمه ومعرفته وفنّه في إلقاء نظرة عادلة على حاكمه، تبحث في جوانب شخصيّته على نحو يجعله واضحاً للآخرين؟ طبعاً، لكن ليس خلال حياة الرئيس أو فترة حكمه أو حزبه، بل عليه، كزوخوروف، الإنتظار طويلاً حتى بعد انقضاء الشيوعية ذاتها، قبل أن يستطيع إنجاز هذه المرحلة من حياته. من ناحية يفيد من المسافة الزمنية وما تشبعه تلقائياً بالمفاهيم الإنسانية، لكن من ناحية أخرى عليه أن يكون من الوعي بحيث أن حجاراته لا تُلقى هباء على النحو الذي قام به مخرجون عراقيون (وسيقوم به مخرجون آخرون، كل في بلده بعد التحرر) فهاجموا النظام السابق كما لو أن النظام الحالي أفضل، أو برهن عن حسناته فأنهى الفساد والتبعية ومبدأ فرّق تسد، ونشر وضعاً يفيد منه كل مواطن على النحو الذي يرفع من مستوياته المعيشية والثقافية والتعليمية. فالخروج من عباءة حكم والإنضواء تحت عباءة حكم آخر، لا يعني سوى المزيد من الحجر ذاته. تبعاً لذلك، فإن على الخلاّق أن يعرف أنه كان دائماً وسيبقى ضد نظام البلد الذي يعيشه، حتى ولو كان أفضل في جوانب هنا او هناك. مسؤوليّته أن يكون ناقداً لنظام بلده لأنه لا يوجد نظام مثالي، بينما هو ممثل المثالية على الأرض.
النهار