الشاعر الإسباني خيسوس مورينو سانث: الشعر رنّة الحلم ومن الضروري أن نكتب بدمنا نفسه
المصدر: ترجمة رفعت عطفة
حوار أحمد ديبو
خيسوس مورينو سانث من كبار شعراء إسبانيا المعاصرين، ولد في إكسترمادورا – كاثرس في العام 1938، له شعراً “مسافة الظلال”، “ذاكرة الفصل الغائب”، “إقليم الرمل”، و”قصائد من لا اسم له – رحمانييل”. نشر أعمالاً للمفكرة الإسبانية المعاصرة ماريا ثامبرانو وقدّم لها وألّف عدداً من الكتب عن حياتها وفكرها مثل “عقل في الظل”، وربما عمله الأهم في هذا المجال كتاب “لقاء بلا حدود”. ترجم لعالِم الإسلاميات والمفكر الفرنسي الكبير لوي ماسينيون كتاب “علم الرأفة” إلى اللغة الإسبانية، وكانت هذه المرة الأولى يتم فيها ذلك في إسبانيا. عمل أستاذاً لتاريخ الفلسفة والفكر السياسي في الجامعة الوطنية للتربية عن بعد. حاضر في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا والأرجنتين والمكسيك والولايات المتحدة الأميركية واليابان وسوريا. ولمناسبة تقديمه لكتابه الشعري “رحمانييل” الذي ترجمته إلى العربية ملك مصطفى صهيوني، كان لنا معه الحوار الآتي:
* كيف تقدم نفسك إلى القارئ العربي؟
– سأحيل القارئ على كتبي.
* لك الكثير من الكتب النقدية والفكرية، هل نستطيع أن نعتبرك شاعراً أولاً؟
– تستطيع ذلك لأني بالشعر اكتشفت العالم، وأكتشفه.
* إذاً، ما هو الشعر بالنسبة إليك؟
– الشعر هو الوصول إلى معنى من خلال الصور والإيقاع، أي وقع الشعر في أعمق أعماق التلقي لدى القارئ المستمع لأني أعتقد أن الشعر جوهرياً هو الكلمة في محل الوقع، هذا في الإسبانية أو الفرنسية أو يمكن أن يقال بسهولة أكبر في الإسبانية، وتستطيع أن تعتبر هذا معنى أساسياً في شعري، فالشعر إذاً هو النغم المحمول إلى الحلم ويمكن القول إنه رنة الحلم.
في الفرنسية يمكن أن يكون عنوان الكاتب اللغوي جاكوبسون، “الصوت والمعنى”، هو ما يعنيه القول هنا. في هذا المعنى فإن آخر كتبي الشعرية “إقليم الرمل” أو “رحمانييل” يبحثان بالفعل ليس عن إلغاء النص بل عن تنقية اللغة في حدودها القصوى، أي تعريتها حتى الداخل.
* ماذا تقول إذاً، عن رولان بارت الذي يعتبر المعنى نظام الفراغ والشكل نظام الرغبة؟
– بالنسبة إليَّ، هذا شكل من أشكال أن لا يقول المرء شيئاً، أعجبت كثيراً في شبابي برولان بارت وبالمدرسة البنيوية الفرنسية كلها، لكني أعتقد اليوم أن البنيوية الفرنسية أفسدت حس التلقي الفكري والشعري عندنا وأستثني المفكر الأنتروبولوجي كلود ليفي شتراوس. في هذا المعنى أفضل فرع العلاقة بين الفراغ والمعنى التي يقول عنها الناقد والروائي الأرجنتيني خواروس إن الاحتفال يسكن في مركز الفراغ.
* إذاً، دعني أتساءل هل مهمة الشعر – إذا كان للشعر مهمة – أن يعطي معنى دقيقاً رناناً وجميلاً لهذا الاحتفال؟
– كل شعر هو أصل اللغة، معها ولد في صحبة الموسيقى وليس مع النثر، وهذا شيء يصعب على بارت والبنيويين الفرنسيين فهمه.
* لكن رولان بارت، كما قرأته وفهمته، كان دائم التحدث عن هسهسة اللغة، أي تلك الموسيقى الداخلية التي تبثها اللغة، لكن اللغة السليمة والمعافاة.
– هؤلاء جميعهم لا يفعلون سوى أن يرددوا كلام باتاي ودريدا. يضعون على رؤوسهم تاجاً من المجوهرات، والحقيقة أنهم لا يقدمون غير التنك من دون الدخول في النتائج الخطيرة وخصوصاً الفلسفية منها. فالمفهوم الدريدي هو في النهاية تفسير سيئ وبائس لهايدغر. لعل الشيء الذي فهمه جيداً هذا المفكر الألماني (هايدغر) هو كل نظرية نيتشه في اللغة الرائعة التي تحتوي على متشابهات مع المفكرين الصوفيين الكبار في الشرق والغرب. بل ويمكن إيجادها مع المفكرين اليونانيين السابقين لسقراط. هذا يقودنا من جديد إلى العلاقة مع اللوغوس والعيش والشعور والحلم. وهذا من أهم تعاليم هيراقليط، لذا أعتبر أن أهم كتاب كتبه رولان بارت كان عن ميشليه وأنا في الحقيقة تعلمت حب ميشليه من بارت، وهذا كتاب أعتبره بريئاً من أي شوائب.
* لنخرج الآن من رولان بارت ومشكلاتك مع كتبه، لننحو منحى آخر، أنت كشاعر إسباني عرفت كيف تنهل من التراث العربي الإسلامي، وواضح من خلال شعرك اهتمامك بابن عربي، كذلك بالقرآن وبالإسراء والمعراج. ترى، كيف أفدت من ذلك؟
– إرادة الحوار مع ابن عربي واضحة في شعري، وأنا أعتبره أفضل معلّم لي، هو والشاعر الإسباني سان خوان دلاكروت، وكذلك صديقتي ومعلمتي ماريا ثامبرانو وعالم الإسلاميات الإسباني آسين بالاثيوس. لكن علاقتي بابن عربي ليست فقط من خلال كتبه. فأنا لم أبدأ بفهم ابن عربي إلا من خلال طريقي الشعري الخاص بي، الذي لا شك في أنه ينطلق من تجربة ليست فكرية بالضبط، بل تجربة حياتية خاصة بي. لا غرور إذا قلت إني بدأت وحدي أفهم بعض التصوف، متمثلاً في ذلك مقولة نيتشه، بعيداً من الخير والشر، ومن خلال تجربتي الخاصة التي حاولت أن أعطيها معنى من روحي وأقدّمها، أي أن أوصلها بشعري. أعتقد أن في استطاعتي اليوم أن أقول إنه لحقيقي ما قاله نيتشه، إن من الضرورة أن نكتب بدمنا نفسه، وهذا ما قاله وبطريقة أكثر جذرية، الحلاج، الصوفي الكبير ابن القرن العاشر، يجب أن نتوضأ بالدم.
بهذا نكون قد ابتعدنا عن رولان بارت، وباتاي وجيل دولوز وغيرهم ممن ينتمون إلى ما يسمّى أصحاب الفكر الحديث. بل ربما سيكون ضرورياً من جديد أن ينقذ بعض الشعر الفكر من هزيمته. قلائل هم مفكرو القرن العشرين، هايدغر، وولتر بنيامين، وماكس سيللر، أو المفكرة الإسبانية ماريا ثامبرانو الذين فهموا ذلك.
أقول وأنا لا أدري ما إذا كان الفكر في الشرق لم يهزم وما إذا كان يوجد تنوّر أكبر.
* نحن كعرب قرأنا ثرفانتس وفتنّا بعمله الرائع “دون كيخوته”، وقرأنا الشعر الإسباني وأحببنا كثيراً لوركا، كذلك علّمنا بيكاسو ودالي وميرو كيف ننظر أبعد وأعمق. أنتم في إسبانيا، هل استطعتم التعامل مع الثقافة العربية بجدية، أم بعقلية المركز والأطراف؟
– لا يمكن أن تنوجد جدية حيث يوجد جهل، بل ورفض. ربما كانت الجدية على علاقة بتمجيد القيم المسيحية المرتبطة بأسوأ أنواع القومية الإسبانية. مع ذلك أعطت إسبانيا ولا تزال تعطي علماء رائعين في الإسلاميات، وعارفين بالعالم العربي، كذلك يوجد في مجتمعنا الإسباني قطاعات كثيرة تملّكت وعياً كبيراً للتخلي العلمي عن مفاهيم العرق والقومية والدين أو كل ما يصدر عن الكائن الإنساني بما هو غريب عنه لكني أخشى أن تكون هذه القطاعات صغيرة.
* هل قرأت لشعراء عرب معاصرين؟
نعم، قرأت لأنسي الحاج وأدونيس، لكني أعتقد أن الترجمة كانت سيئة.
* * *
مختارات
الأحمر خطف الوحشة
الإقليم اليباب
زوبعةٌ قاسية
من نار وشمس صيف
دون أي فصل آخر
خراب وحشيّ كريه
جروح الريح الجافة
تزيد عذابي
بأسوأ الشرور،
اللهفة التي تأتيني بذكرى
أن أعود لأرى البحر
وأقبر في لغط
هذا الأذى حيث أضيع
لا أحد عرف بجرحي
ولا أنا استدعيت أحداً لنجدتي،
وها قد فتحوا لي، كما في كل ميتة،
مفاصل بيضاء،
الدم ماء منسحب
حيث السعادة ومقطع القوت: هواء أخيراً!
النور وحده
والفصول فصل بعد الآخر،
والرقصة الوحيدة، لا أحداً لا أحد كان عليه أن يمثل،
ولا أنا أحزنت أحداً،
أخيراً الأحمر خطف الوحشة
وها هي شمس الموت متّقدة متجسدة
والأحشاء سعادة مقولة في فراغها، مدوّية
تفتح فسحة من المتعة خصيبة!
* * *
مجهول الاسم يتصوّر مع ميشليه
سنون، أشغال وآلام
كم مضيئة خشنة وحلوة صحرائي
المساءات مزروعة بأحلام واحات،
نخيل، صبّار زنبق وورد
ينابيع منعشة، مرفأ فسيح
مفتوح على بحر مشع
يا للمعان الفولاذ! وأكثر منه الذهب
المبهر، شفافية الهواء،
تنقل الرنين العجيب،
عبقه، سحره، لونه الوردي، المخضوضر
أزرق! قبل انفجار الخطف!
* * *
كتاب حبرون
قلبي يوقظ
لحظة ويعلم
أنه حلم حلماً
منه تنطلق
وإليه تعود
دروب الرحلة الوحيدة جميعها
حلمت ببلدٍ
اخترقني
فأيقظني
ذاك الطائر المتوحد
جاءني بالنحيب
في سماء مساء خريف رمادية
البرق
ساكناً صرخت: البحر النخيل
وماس الشفتين الحلوتين
حيث ضعت.
هكذا يخترع من لا اسم له إقليم الرمل
استيقظت فوجدتني جريحاً
وكنت فضلة وبقايا حلم.
رمل
وحده التائه يستطيع
أن يعيش الآن هنا
في هذه الصفحات البيضاء
حيث ينبثق مثل الدم
ويندب ويولد من جديد
محطماً يبتدع لنفسه، من جديد
في دروب هذا الكتاب
إقليم الرمل الفسيح
الذي لا عمر له
في الحبات المجردة من خرائبها
في الصحراء أنا سيد الفضاء
أكتّف الزمن
كل فجر
ومع الغروب أرتاح في سلام بلا حدود
بدوي وطليق
قوافلي في كل يوم ذكريات وأشكال لأكثر رغباتي اضطراماً
ومن الحب ما عدت أحمل غير آثار وعد
أتعرّف إليها في أوشحة الرمل اللطيفة تموجها
الريح دقة لغتي وروابطها
مرة وأخرى أعثر عليها في رجال قوافل الصيف
أو الشتاء متوقفين في بيتي مع الليل
بجانب الماء
في واحتي
إنه سلام الحجاج السعاة الأحرار
للذين يمكثون واقفين
لأجل الذين يسجدون، أو لأجل الذين يصلون قادمين من الممرات العريضة والعميقة يتسلى ويدوي
قلبي بالهواء النقي والليل البهي
وهو يصغي
إلى شيبة يروي قصة الرحلة.
برهة وتغني بعذوبة سلمى
زوجة عبد الله الجميلة
بعدها يحصي أبناء مكة القاحلة ينابيعهم واحداً فواحداً
ضاحكين
* * *
بلد نخيل
رحلات الشتاء إلى الجنوب
رحلات الشتاء إلى الشمال
طرق البخور القديمة
والواحة التي انبثقت من الحلم
نقِّب عن الصفاء اللطيف
نقِّب في الكنز الخفي
نقِّب فيه لأنه إرثك
فهو لن ينضب أبداً، لا ولن يتخلى
عن إمدادك بالذهب والماء.
النهار