الشباب السوري ومكتسبات المرحلة
محمد العطار *
أكثر من ثلاثة أشهر هي عمر الحراك الشعبي في سورية الذي لا يبدو أنه سيتوقف قبل تحقيق أهدافه كاملة.
ولكن بعيداً من قراءة المستقبل، ماذا عن اللحظة الراهنة؟ ما هي المكتسبات التي انتزعها الشباب السوري أصلاً والتي يبدو من المتعذر تخيل فقدانها أياً كانت ملامح المرحلة المقبلة؟
إن عقوداً من تغييب العمل السياسي المستقل، بصفته جزءاً لا يتجزأ من مفهوم المواطنة (المُغيب بدوره)، وضعت الشباب السوري، في موقع المتفرج إزاء كل ما يخص إدارة مقدرات البلاد ورسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى التعليمية والتي تعني مباشرةً وبالمقام الأول جيل الشباب. فيما تحولت شريحة الطلاب، والتي تدفع عادةً عجلة العمل السياسي إلى شريحة مُعطلة ومُبعدة من العمل السياسي، فأُفرغت الجامعات من أي حراكٍ سياسي بل وحتى معرفي حقيقي، وتحولت مؤسسات مترهلة محكومة بأيدولوجيا الحزب الواحد وليست بعيدة بالطبع من آفات البيروقراطية والفساد. إضافة إلى أن النظام كان دوماً أكثر شراسة في التعامل مع أي بوادر حراك طالبي، ليقينه بأن أي حراك من هذا النوع قد يجمع الحيوية والوعي معاً، ولا أدل على ذلك من الكيفية التي تم التعامل بها أخيراً مع تحركات الطلاب في بعض أقسام جامعة دمشق أو المدينة الجامعية في حلب..
قد يبدو من المدهش حقاً لمن لم يعايش هذه الظروف، تصديق الطريقة التي تحولت خلالها علاقة شريحة الشباب بالعمل السياسي (كممارسة أو حتى كتنظير)، وكيف يمكن أن تصل غالبية ساحقة من الشعب السوري إلى نتيجة مفادها أن «السياسة وجع راس» أو «أنا ما دخلني بالسياسة» أو «أنا لا أتعاطى بالسياسة» وكلمة تعاطي هنا ذات دلالة لا يمكن تجاوزها إذ إنها تحيل كما نعلم إلى «تعاطي المخدرات أو الممنوعات»، وبهذا المعنى الدارج، أصبح حتى الحديث «بالسياسة» يندرج تحت خانة المحظورات ذاتها، بل إنه غالباً قد يفوقها قسوة من حيث نتائج العقاب. وهكذا تحول ما هو بالأصل، حق مكفول دستورياً إلى غولٍ مرعب اسمه «سياسة» قد تروى عنه حكايات ما قبل النوم. وبالطبع فإن التجربة المريرة لمعتقلي الرأي في نهاية السبعينات وعقد الثمانينات، كان كفيلاً ببث مزيد من الرعب في قلوب الأجيال اللاحقة التي كانت تملك أصلاً قوتها الكافي منه……
كل ذلك جاء ممهداً لخلو أروقة الجامعة وقاعاتها الدراسية وصولاً إلى المقاهي وبقية الفضاءات العامة، من أية نقاشات سياسية حقيقية ناهيك عن تكتلات طالبية أو حتى نقابية قد تحتج على هذا القرار أو ذاك، أو حتى تطالب بدور أكثر فاعلية في صناعة القرار نفسه. تحول لعب الورق الذي لا يقاطعه إلا متابعة المسلسلات التلفزيونية ومباريات كرة القدم إلى نشاط شبه وحيد في المقاهي، والنقاشات حول الطرق المثلى للنجاح في الامتحانات المقبلة أو إيجاد أي فرصة عمل هي الأحاديث الغالبة في أروقة الجامعات والمعاهد الأكاديمية.
اليوم وبعد أسابيع على بدء الاحتجاجات، لا يبدو المشهد مشابهاً بالمرة. قد يكون من باب المبالغة القول بانهيار جدار الخوف السميك الذي هيمن على صدور السوريين لعقود. إلا أن الحديث عن ارتفاع سقف الخوف هو توصيفٌ موضوعي من دون أدنى شك، كذلك الأمر فيما يتعلق بالعودة التدريجية لتداول السياسة كشأن يخص أولاً عموم السوريين ومستقبلهم قبل أن يكون حكراً على نخب بعينها.
هذا الغليان الشبابي، وإن لم يكتسب دوماً شكل الأفعال الملموسة أو حتى العلنية كتلك التظاهرات التي يقودها الشباب في شوارع المدن السورية، إلا أنه يُفصِح عن استعادة لامتيازات حرم منها الشباب مطولاً: مناقشة الشأن العام، إبداء الرأي في ما يحدث، بل ومحاولة تقديم المخارج والحلول.
تعج الفضاءات الافتراضية (بصفتها الأكثر رحابةً حتى اللحظة) بالمبادرات والبيانات وأوراق العمل والنقاشات. بينما يندر أن تدخل المقاهي أو أن تصادف مجموعة من الشبان اليوم في أي مكان من دون أن تسمعهم يتكلمون أو يهمسون (فنبرة الصوت ما زالت مرتبطة بالموقف السياسي) بما يخص الأوضاع السياسية الراهنة. من المعلوم أن أكثر من قسم في جامعة دمشق شهد تظاهرات أو وقفات صامتة وكذلك المدينة الجامعية في حلب على رغم علم الطلاب المسبق بالتكلفة العالية لهذه التحركات، التي قد تصل حد الفصل بعض الأحيان.
وينسحب الأمر على الشباب السوريين كافةً، بتنوع شرائحهم الاجتماعية ومواقفهم من النظام، بمعنى انخراط الجميع بين مؤيد ومعارض في نقاش الشأن العام، الذي كان حتى الأمس القريب من المحظورات. هنا بالطبع لا بد من التمييز في ما يخص حجم الحرية والمساحات المتاحة أمام كل طرف للتعبير عن رأيه في غيابٍ واضح للعدالة والتوازن، إلا أن المؤكد أن خرق المحظور باستعادة النقاش السياسي بات أمراً واقعاً لا محالة، وهو بكل تأكيد قد انتُزع ولم يُمنح، فليس من سبيل المصادفة أن يستعيد الشباب السوري هذا الفعل في الوقت نفسه الذي يدفعون به ثمناً باهظاً لاستعادة الفضاء العام (التظاهر في الشوارع والساحات). فكما تُمهد استعادة ملكية هذا الفضاء نحو انتزاع الحرية المنشودة، فهي كذلك تهدم حاجز الخوف وتعيد «تعاطي» الشباب بالسياسة إلى منطقه الطبيعي كحق إن لم يكن واجباً، كما تنزع عن النظام قدسية وهمية لطالما حرص على إسباغها على بنيته وممارساته.
يبدو من المتعذر اليوم تخيل أن الشباب السوري وبتنوع أطيافه (حتى أولئك الموالين للنظام)، سيقنع بالعودة إلى الركود الذي عهده طويلاً قبل ثلاثة أشهر فقط، الجميع يعترف الآن بأن هناك أموراً تغيرت ولم يعد بالإمكان معاندة حركة التاريخ أكثر من ذلك. على الأقل بات واضحاً للجميع الآن، أن التغيب القسري «لتعاطي» السياسة كجزء من تغييب أعم لمفهوم المواطنة، وخنق المجتمع المدني الكفيل وحده بإتاحة الفرص المتساوية لإبداء الرأي والمشاركة في الشأن العام، قد جلب الويلات على البلد. وهل هناك أفضل من استعادة هذه الحقوق الطبيعية من أجل تجنيب البلد خطر التمزق الطائفي والفتنة (لمن يعتقد أنها البديل الحتمي للنظام) ودحر جميع المؤامرات الداخلية والخارجية وحتى الكونية (لمن يؤمن بوجودها)؟
اليوم تبدو بوادر استعادة حراك الشباب مترافقة مع انتزاع صكوك احتكار تداول الشأن العام والشروع في العمل السياسي على الأرض، حتى وإن لم يتبلور بعد على شكل تنظيمات أو تيارات ناجزة، مكاسب عظيمة ولا عودة عنها أياً تكن ملامح المرحلة المقبلة، ليس فقط لأن السوريين دفعوا ثمناً باهظاً لاستردادها، الأهم أن السوريين أعادوا اكتشاف إمكاناتهم ومقدراتهم، وعليه يصعب التصديق أنهم سيرضون بالقليل بعد اليوم.
* مسرحي سوري