الشباب وثورات «الربيع العربي»/ رضوان زيادة
انطلقت ثورات «الربيع العربي» عام 2011، وكأنها تعبير عن الانفجار الاجتماعي وفشل طريقة الحكم سياسياً واقتصادياً، وبعد ست سنوات من بداية شرارتها فشل معظم دول «الربيع»، كمصر وسورية وليبيا واليمن في إنجاز عملية التحول السياسي باتجاه بناء نظام ديموقراطي ليبرالي يحقق تطلعات الشباب الذي كان في طليعة التظاهرات المليونية الحاشدة التي ملأت شوارع العواصم العربية. ولم تستطع هذه الدول الاستفادة من خبرة التحول الديموقراطي في مناطق أخرى من العالم كدول أوروبا الشرقية في التسعينيات من القرن الماضي، وأميركا اللاتينية في الثمانينات من القرن ذاته.
لقد تم تحطيم الآمال المشرقة لهؤلاء الشباب بتحقيق مزيد من الحريات الشخصية وإنهاء الركود السياسي والاقتصادي الذي عاشوه على مدى عقود. وبدلاً من ذلك، شهد عدد من البلدان العربية ثورات مضادة، حيث اجتاحت هذه الدول صراعات داخلية وحروب أهلية أو عادت الأنظمة السابقة ببساطة إلى الحكم.
وبالنظر إلى الفترة الزمنية القصيرة نسبياً التي تمت فيها تحولات «الربيع العربي» وشهدت ثورات ثم اضطرابات سياسية واجتماعية واقتصادية، فمن الضروري أن لا يتم الحكم على فشلها بالنظر إلى الانتكاسات التي حدثت سواء في مصر أو سورية أو اليمن. هناك بالطبع الكثير من أسباب التشاؤم في المدى القصير وربما المتوسط في العالم العربي اليوم. ولكن عندما يتعلق الأمر بثورات الشباب، فإن الرهان الأكيد هو أن معظم إنجازاتهم الحقيقية ستأتي بعد عقدين على الأقل. إن جيل الشباب العرب الذين قادوا الثورات، هو في الواقع أكثر تميزاً بكثير مما صنعه رواد الاستقلال عن الاستعمارين البريطاني والفرنسي في بدايات القرن الماضي.
علينا أن نضع في اعتبارنا دوماً أن متوسط عمر 370 مليون عربي هو فقط أربعة وعشرون عاماً. وفي الوقت الذي تشهد فيه دول مثل الهند وإندونيسيا انتفاضات كبيرة للشباب، يعاني الشباب العربي بشكل غير متناسب من انخفاض معدلات الاستثمار في بلدانهم ومعدلات البطالة المرتفعة بشكل مذهل. فارتفاع نسبة الشباب في المجتمعات العربية ربما يكون مؤشراً إيجابياً للتغيير الدائم وربما يكون سلبياً للأنظمة الأوتوقراطية التي غالباً ما تفضل الاستقرار الدائم بدلاً من التغيير.
وكما قال كريستين لورد «يمكن هؤلاء الشباب أن يحولوا مناطق بأكملها، ما يجعلها أكثر ازدهاراً، وأكثر عدلاً، وأكثر أمناً. أو أنها يمكن أن تطلق أيضاً فيضانات من عدم الاستقرار والعنف. أو كليهما. وإذا كانت بلدانهم غير قادرة على تلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم، فإنها يمكن أن تولد موجات من الهجرة لعقود. وفي مواجهة هذا الطوفان من الشباب، ينبغي لقادة العالم أن يضعوا الاستراتيجيات ويتخذوا الخطوات اليومية التي توجهنا جميعاً نحو الهدف الأول وبعيداً من الأخير».
ينطبق ذلك بشكل أو بآخر على الشباب خلال فترة الربيع العربي، ففي ما يتعلق بمقاييس التنمية البشرية، مثل وفيات الرضع ومتوسط العمر المتوقع والتعليم المدرسي، تبدو الدول العربية اليوم أكثر تشابهاً مع دول أوروبا الشرقية في عام 1989. وفي عام 1970، كان الرضيع المولود في مصر أكثر عرضة للموت في السنة الأولى من حياته من الطفل في الهند أو في معظم بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وبحلول عام 2005 كان مرجحاً أن يموت الرضيع في مصر بنسبة أقل من النصف. وعلاوة على ذلك، بحلول عام 2009 كان امام التونسي البالغ من العمر 15 عاماً فرصة أفضل من المواطن الأميركي لبلوغ عيد ميلاده الستين.
إن العرب المولودين في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين هم جيل ذهبي، انهم أكثر صحة وأفضل تعليماً مما حصل من قبل، وتبدو أرقام طفرة الولادات بعد الربيع العربي شبيهة تماماً بما جرى في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فلم يتم تمكين الشباب العربي من خلال إدماجه في المؤسسات السياسية لبلدانه، وانعكس توقع الرخاء مع ارتفاع نسب التعليم وزيادة معدلات الالتحاق بالجامعات، وانفجار استخدام الإنترنت، ما رفع مستويات عالية من التفاؤل بشأن المستقبل.
بالطبع لم يتحقق مستقبل مشرق. وبحلول عام 2010، كان الجيل الذهبي من الشباب العربي غارقاً في ما يمكن وصفه بأنه فشل عابر للحدود الوطنية من خلال ارتفاع بطالة الشباب وتزايد خيبة الأمل السياسية. ولعل ما هو أكثر تدميراً هو التأخر في الزواج في ظل مجتمعات محافظة تبقى الأسرة فيها نواة المجتمع الرئيسية. فبحلول عام 2007، على سبيل المثال، كان متوسط سن الزواج الأول في ليبيا 34 عاماً للرجل و31 عاماً للمرأة. كما كان العمر عند الزواج مرتفعاً بالمقدار ذاته في تونس وازداد بسرعة في مصر، حتى في القرى. بل إن عدداً متزايداً من الشباب لم يتمكن من الزواج على الإطلاق، وهو مصير مدمر في المجتمعات التي لا يزال فيها الزواج هو المسار الشرعي الوحيد للإنجاب، والنشاط الجنسي، والأمن الاقتصادي للمرأة.
كانت الأجيال العربية السابقة قد واجهت حرماناً اقتصادياً أسوأ بكثير، ولكنها اقتنعت إلى حد ما بالوظائف المتوسطة الدخل. ولكن الجيل الجديد عقد الأمل على مستقبل أكثر إشراقاً، فقد أظهر هذا الجيل قدرة فائقة على رفض فكرة الحكومات الفاسدة التي حكمت على مدى عقود طويلة حتى في الجمهوريات العربية التي بدأت تحضر لفكرة توريث السلطة للأبناء كما جرى في سورية، وبدا السيناريو مشابهاً في كل من مصر واليمن وليبيا، وسبقت الربيع العربي موجة من الاحتجاجات الشعبية، تعكس تحالفات واسعة بين الحركات العمالية والليبراليين والإسلاميين وغيرهم. وفي حين أن الاحتجاجات كثيراً ما تعالج الظروف الاقتصادية الصعبة، فقد تحول التركيز من قضايا الخبز والحياة الاقتصادية البسيطة إلى مسائل العدالة الاقتصادية وحقوق العمال. وكانت المشاركة في الاحتجاجات في الواقع أكثر احتمالاً بين أولئك الذين كانوا متعلمين وموظفين، أو بعبارة أخرى ما تمكن تسميته تجاوزاً الطبقةَ الوسطى في العالم العربي، هذه الطبقة التي قادت الثورات العربية بشكل أو بآخر والتي كان شعارها دوماً التظاهر ليس من أجل الخبز فقط، ولكن لرؤية بديلة للمستقبل.
إن فئة «الشباب» تشمل دائماً شرائح مختلفة من السكان أيديولوجياً وطبقياً واجتماعياً، ولكن الوعي الاجتماعي الخاص بهذه الفئة يمكنه في فترة من الفترات تجاوز الخلافات الاجتماعية والطبقية والأيديولوجية من أجل التوحد بهدف التغيير.
لم تخلق فئة الشباب في التاريخ العربي الحديث منظمات خاصة بها، ولذلك فإن الشباب العرب الذين ولدوا بين عامي 1980 و2000، يشكلون مرحلة عمرية في غاية الأهمية وبعد عقدين أو ثلاثة عقود من الآن، سيتوجه شباب ميدان التحرير أو القصبة في تونس أو ساحة الشهداء في طرابلس إلى صلب الصراع السياسي، فقد حقق هؤلاء الشباب عدداً من الإنجازات خلال فترة الربيع العربي بالرغم من اتساع الاضطرابات والاحتجاجات وحتى الصراعات المسلحة كما في ليبيا وسورية واليمن، وأهم هذه الإنجازات تحطيم طريقة انتقال الحكم في الجمهوريات العربية أو ما يمكن أن يطلق عليه الرؤساء مدى الحياة.
* كاتب سوري وباحث في المركز العربي – واشنطن
الحياة