الشعب الواحد والمتعدد
ماجد كيالي
السوريون شعب، هذا أمر لا جدال فيه لكن ذلك لا يلغي أنهم متعدّدون ومختلفون ومتنوّعون، من ناحية الخلفيات والاتجاهات الدينية والمذهبية والإثنية والطبقية والثقافية والسياسية. فعلى الدوام ظلّت سورية تتألف من عرب وكرد وأشوريين وسريان، ثم بات معهم، في مراحل معينة، شركس وتركمان وألبان وأرمن، وهؤلاء كلهم يتوزعون من الناحية الدينية على الاسلام والمسيحية واليهودية، كما يتوزعون من الناحية الفكرية والسياسية على تيارات كثيرة. وبديهي أن يكون بين المسلمين سنّة وشيعة ودروز وعلويون وإسماعيليون، وبين المسيحيين أرثوذكس وكاثوليك، وغير ذلك. هذا هو موزاييك الشعب السوري، على الأرض، وعبر التاريخ.
ما ينبغي لفت الانتباه إليه هو أن حال التعدّد والاختلاف والتنوّع هذه ليست، في أي من وجوهها، حالة سورية خاصّة، أو حالة غير طبيعية، بل إن العكس من ذلك هو ما يمكن اعتباره شاذاً، أو مصطنعاً، إذ يكاد ألا يكون ثمة شعب في العالم لا توجد لديه اختلافات، فهذا يتناقض مع الطبيعة البشرية أصلاً، ناهيك عن أن الموقع الجغرافي، أي قدر سورية، هو الذي جعل منها مهداً لعديد الحضارات والأديان والثقافات والسرديات، التي تطبّع شعب سورية بها.
إذاً، لا مناص من وعي هذه الحقيقة، وقبولها، والتعامل على أساسها، لأن ذلك وحده هو ما يصيّر السوريين شعباً بمعنى الكلمة، ويجعلهم مجتمع مواطنين حقاً، ويقطع مع واقع الاستبداد فعلاً.
لكن سورية هذه التي كانت تعاني، طوال العقود الأربعة الماضية، كانت مغيّبة، إذ تم حجبها بسورية اخرى، شعارها: «سورية الأسد إلى الأبد»، مع كل ما في هذه العبارة البليدة من استلابٍ لإرادة السوريين وحرياتهم وكراماتهم، كما لهوياتهم ومخيّلاتهم.
هكذا أضحى السوريون، في تلك الفترة، بمثابة حشود صماء، ومجرّد صورة بلا قلب ولا روح، يقبع في خلفيتها رجل واحد هو الأسد (الأب وبعده الإبن)، فهو سماء سورية وأرضها، وماضيها وحاضرها ومستقبلها، وقائدها ورمزها، وهو المعلم الأول والمهندس الأول والطبيب الأول، وكل شيء في سورية سمّي باسمه، وفي كل مكان تمثال او صورة له، حتى عندما مات الأب، سُمِّيَ في الإعلام القائد الخالد!
لم يكن في سورية الأسـد متّسع لغير سردية واحدة هي سردية الأسد، لذلك اشتغل النظام الشمولي بدأب على محو سرديات السوريين، أو إخفائها، لمصلحة سردية واحدة، دأب على ترويجها وترسيخها من خلال تحكمه بالمدارس والجامعات ومؤسـسات الـدولة، ومن خلال سيطرته على أجهزة الإعلام والثقافة والجيش وأجهزة الأمن، وعبر الخطابات السياسية والدينية والأغاني الوطنية والشعارات السياسية، لترسيخ سلطته وهيمنته على المجالين العام والخاص.
في هذا الإطار بالضبط تحول «مجلس الشعب» إلى مجرد مجلس للتصفيق، وباتت الحكومة نوعاً من ديكور لا أكثر، في حين احتل الحزب «القائد»، وتابعه «الجبهة الوطنية التقدمية» وأحزابها، مكانة الفولكلور السياسي، وحتى الشعارات الأثيرة (الوحدة والحرية والاشتراكية) تبيّنت عن مجرّد ادعاءات للتلاعب والتوظيف، كما للاستهلاك والمزايدة والابتزاز.
وفي العموم، سورية لم تكن تحكم، طوال الفترة الماضية، كدولة، إذ لم تكن ثمة مؤسسات شرعية تدير وتقرر، ولا قوانين تحكم الجميع، وإنما كانت ثمة سلطة «أكلت» الدولة، وصادرت القوانين، وهيمنت على الشعب، ونهبت الموارد، واستباحت البلاد والعباد بطريقة مهينة؛ ولعل هذا ما يفسر غضبة السوريين وتصميمهم المدهش على الانتهاء من هذه الحقبة، ولو بثمن باهظ وغير مسبوق.
القصد من كل ذلك توضيح أن الثورة السـورية كسرت الصورة النمطية الواحدة، عن شعب سورية، وأظهرت السـوريين على حـقيقتـهم، كما هـم، باخـتلافـاتـهم ومشتركاتهم، وهي صورة لم يعكّر براءتها سوى ما زرعه هذا النظام من أعراض مرضية خبيثة هي نتاج طبيعي وعادي لأربعين سنة من القهر والكبت والاستبداد، والإفساد والعنف والخوف.
لذلك كله لا يضير الثورة أنها واجهت السوريين ببعضهم بعضاً وعرّفتهم باختلافاتهم، ولا يضيرهم انهم باتوا يظهرون كسوريين كثر، متعددين ومتنوعين، لأن التعرف والانفتاح هذين يمكن استثمارهما في تحويل الاختلافات الهوياتية الجامدة والمغلقة الى اختلافات عادية يمكن حلها او التعامل معها في الحقل السياسي.
والمعنى أن المشكلة في سورية لا تكمن في وجود طوائف وأديان ومذاهب وإثنيات، وإنما تنبع من وجود نظام سياسي استبدادي، يصادر الدولة ويغيّب الشعب، ويحرم المواطن من حقه في الحرية والكرامة. لذا، فاعتبار أن الشعب السوري واحد وأن سورية وطن لجميع السوريين يستلزم وضع ذلك في إطار دستوري، يتأسس على المواطنة، في دولة مواطنين أحرار متساوين امام القانون، من دون تمييز بينهم بسبب الدين او الطائفة أو العِرق أو الجنس أو الوضع الاجتماعي.
سورية وطناً لجميع السوريين كانت شيئاً متعذّراً في بلد احتلت سلطته الاستبدادية المجالين العام والخاص، وقوّضت الدولة. والسوريون شعباً كان أمراً مستحيلاً في بلد غابت فيه علاقات المواطنة، لذلك فالثورة المجيدة، على نواقصها وثغراتها، هي الحل الوحيد المتاح، بمقدار ما هي الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يفتح الافق على معنى الشعب واحتمال المواطنة أمام السوريين؛ وهذا هو معنى شعار «الشعب السوري واحد واحد».
الحياة