صفحات الثقافة

الشعراء السوريون يقرعون الأجراس/ عقل العويط

 

 

دعوني أقول هذا الرأي بالفم الملآن: لا أستطيع أن أمنع نفسي من الالتفات يومياً إلى ظاهرة انتشار كمٍّ هائل من الشعر السوري الجديد. ينابيع من الحبر المشرقط والوجدان المشلّع تتفجّر كلّ يوم، في كلّ أرضٍ سورية، في لبنان، وفي المنافي القريبة، وأماكن اللجوء والتيه والشتات. شاعرات وشعراء شبّان، وغير شبّان، عرب وأكراد، بأسماءٍ أكثرها مجهول، هامشي، ومن غير ذوي الشهرة الإعلامية، ينبتون مثل سهول القمح وشجر الملاحم وغيوم العدم، ويأخذوننا إلى مطارح في الشعر لم تكن معهودة فيه؛ مطارح غريبة، بسيطة، متواضعة، غامضة، نازفة، سائلة، موصولة بشرايين وأوردة وهواجس وأوجاع. لا أكفّ عن قراءة نصوص هؤلاء، بل أتابعها وأتواصل معها، ويساهم “الملحق”، كما بعض المنابر الأدبية الأخرى، في نشر الكثير منها. وكم أشعر بجملةٍ من الأحاسيس والانفعالات، بعضها مغموسٌ بما لا طاقة لي على احتماله بسبب الوجع الوجودي الشرس، وبعضها الآخر ملطّفٌ بالزهو والافتخار، لأنني أقرأ ما ينبثق تحت هذه الوطأة الخطرة، وما قد يكون مضيئاً على المستوى النوعي، مختلفاً ومتغيّراً، ويشبه هلوسات الأحشاء الممزقة، وأشلاء الأرواح الهائمة في وجدان اللغة وطبقاتها الدفينة.

لا أستطيع أن أكون حيادياً، وأنا أقرأ هذا الشعر. تغمرني هشاشةٌ تشبه هذه الغيوم التي لا تكفّ عن التسيّب. اللغة، وأشكال التعبير عنها، تأخذ بالقارئ أخذاً جذّاباً. ليست هي السهولة، بل بساطة الجوهر، ومشقّته. ليست هي المتعة المترفة، بل لذة قراءة النصوص التي تستولي على التلابيب، وهي تستدرج تساقط الحياة تساقطاً مريعاً في أشداق الحرب، والقتل، والظلم، والموت، والغياب، والألم، والفقر، والتشرد، والتيه، واليأس، والمرارة، والغضب، والتشظي، والتبدد، معبَّراً عنها بأشكال متنوعة من النصوص المغلقة ومن تلك المفتوحة، من الكتابات المتوهجة المكثفة حيناً، ومن تلك الكتابات السردية في أحيان.

كنا شهدنا بين الثمانينات والتسعينات تحوّلات جمة في المشهد الشعري السوري، فبرز شاعرات وشعراء جعلونا نسعد بالشعر المتحرر من عباءتي الماغوط وأدونيس. المشهد الراهن، وإن لم يرسُ على حالٍ في الكتابة، ينبئ بالوعود والاحتمالات الحبلى، التي ستخرج بالتأكيد على كل مرجعية، أو معيارية كتابية سابقة. وها نحن نشهد منذ مطلع هذا القرن تحوّلات جذرية غير مسبوقة في الشعر السوري، قد تكون علامة مضيئة في حركية الشعر العربي الجديد.

ثمة بالطبع، الكثير مما لا يُستحسَن نشره، بل يجب إغفاله. هذا هو دورنا المبدئي، الإعلامي، والنقدي، حيال الكثير من نصوص الأحاسيس والانفعالات الجارفة، والبراكين المتشلّقة، والأوردة المنفجرة. ففي جوف البحر سمكٌ كثيرٌ ونفايات كثيرة. وحدهم الصيّادون الذين يذهبون إلى البحر ويلقون شباكهم في اليمّ العميق، يعرفون هذه “الحقيقة” المزدوجة، ربحاً وخسارةً. في الأخير الأخير، قد لا يبقى من هذا الشعر المتدفق، سوى المتوهج النادر الذي يشبه في أحيان قليلة ضربات النرد المفاجئة والمذهلة، ويشبه في غالب الأحيان عملية الاختمار الدؤوبة التي تتطلب الابتعاد عن الحدث المباشر، والركون إلى الوقت البطيء، وصولاً إلى إنجاز الكتابة الشائقة والصعبة.

لكن هذا وغيره، طبيعيٌّ في التعبير عن كلّ اختبارٍ وجودي، وعن كلّ مأساة، أو عن كلّ شعورٍ هائل. وهو، في الأحوال كافةً، لا يعفي النقّاد والمنابر من مسؤولية المرافقة. فهل يستطيع باحثٌ عارفٌ ومتمكّن، ممّن يتابعون الشعر السوري الراهن، وما يُنشَر منه، في الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي المتخصصة، وما يصدر في دواوين، أن يلقي الضوء على ما آل إليه هذا الشعر، في الأعوام الأخيرة، تحت سطوة الفجيعة السورية المتواصلة؟ هل “يحقّ” لهذا الباحث القارئ أن يخرج باستنتاجات وخلاصات، يمكن التأسيس عليها، لقراءة هذا الشعر قراءة تأريخية ونقدية، والقول بوجود تحوّلات وعلامات مغايرة فيه؟

سؤالان “كبيران” جداً، قد يكون من الصعب جداً الإحاطة بمكوّناتهما الشكلية والدلالية في اللحظة الراهنة، أو الإجابة الموضوعية عنهما. لكنّ إرساء نوعٍ من المحاولات النقدية، في هذا المجال، لا بدّ أن يكون جديراً بالاهتمام، بل ضرورة مطلقة للشعراء والقرّاء على السواء.

الشعراء السوريون يقرعون الأجراس، منذ سنوات أربع. رنينها المفجع يتردد صداه في أعماق اللغة والعيون والنفوس. قصائدهم مأهولة بنعاسٍ، من ذلك المفضي إلى النوم تحت الأهداب المجروحة بذاتها.

في هذا العدد، قراءة مهمة للدكتور الباحث والشاعر السوري مازن أكثم سليمان (ص 18-91-02-12)، للنتاج الشعري السوري الراهن في مرحلة الثورة، على أمل ان تكون فاتحة لقراءات نقدية متواصلة.

* * *

ما أقوله عن الشعراء السوريين الجدد، أقوله عن زملائهم العراقيين. لقد سبق لـ”الملحق” أن تابع انبثاق ظواهر مماثلة، في الشعر العراقي، منذ 2003، بداية المحنة الوجودية، التراجيدية، المتواصلة فصولاً. وهو ساهم، ولا يزال، كما غيره بالتأكيد، في نشر الكثير من هذا الشعر. ليس كمثل العراقيين، مَن تهدر أجيال شعرهم باعتمالات الجحيم، وأشكال العيش في غرف الموت، وبحيرات الدموع، وفضاءات التيه، والمقابر الجماعية، والمنافي. حتى لصرتُ أخاطب نفسي أحياناً، متجنّباً مغبة الاقتناع بأن العراقيين “خُلِقوا” لكتابة هذا النوع من الشعر الفجائعي، الكارثي، المأسوي، الملحمي، الطالع من أحشاء العطب، والحياة المسروقة والمعدمة.

يا للعراقيين! ويا للشعر العراقي! ثمة شعبٌ من الشعراء في العراق، فمَن يؤرّخ لهذا الشعب؟! في كلّ يوم، أطرح السؤال على ثلّة من النقّاد العراقيين الحصيفين، والمتمكّنين، داعياً إياهم إلى ركوب هذه المسؤولية الكبرى؛ أولاً من أجل التأريخ البحثي والأكاديمي، لحركية الشعر العراقي الجديد، ثانياً لبلورة خصوصياته ومكوّناته المتحولة، لكنْ أولاً وثانياً وثالثاً من أجل تسديد خطى الشعراء والقرّاء على السواء، وفتح الباب أمام الآفاق والاحتمالات الكثيفة.

العراق منجمٌ شعري بامتياز. جيلاً بعد جيل، أشهد لنِعَم هذه “المنّة” القَدَرية، الموصولة بالتراثات والحضارات والثقافات والمخزونات الفكرية، تؤويها مواهب فردية فذّة، أنحني لها شخصياً، وأتابعها بإعجاب.

النقّاد والأساتذة الباحثون العراقيون، هم ولا أكثر، وذوو كعوب راسخة. أعرف من بينهم مَن كسرته الحياة المتوحشة كسراً مفجعاً، وشرّدته، وجعلته تائهاً تحت سماء غير صديقة. إلى هؤلاء وسواهم من الذين لا يزالون يواصلون المكافحة البحثية والحياتية، ندائي الحارّ بالحاجة إلى قراءاتهم النقدية التي تشتاق إليها المكتبتان العراقية والعربية.

العراق أحد ملاجئنا في الشعر والنقد، ونريد أن نظلّ نلجأ إليه.

* * *

أخشى أن يكون الجيل اللبناني الجديد من الأدباء، غير ميّال إلى الشعر. قد أكون مخطئاً، أو متسرعاً، لكن هذا الزعم ليس حكماً مطلقاً ومعمّماً. بل هو محض انطباع. قليلة هي الدواوين الشبابية الجديدة التي تصدر، على قيمةٍ لافتة. قليلةٌ هي أيضاً القصائد المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي أو في الصحف والمجلات والملاحق، قياساً بالمنشور والمطبوع من النصوص النثرية، سرداً، أو قصة، أو رواية.

“لبنان الشاعر”، هل هو ينصرف يا ترى رويداً رويداً عن الشعر إلى اهتمامات أدبية وفنية أخرى؟ زملاء عديدون يلفتونني إلى هذا الانحسار التدريجي في كتابة الشعر، مقارنةً بالعقود السابقة، ومقارنةً في الآن نفسه، بأجيال الشعراء الجدد في سوريا والعراق، وسواهما من البلدان العربية. هذه الظاهرة، إذا صدقت، قد تكون تستحق الدراسة هي الأخرى.

أكادني أستدرج القول، ولكن من دون تعميم، إلى الزعم أن ليس عندنا في الكليات والمعاهد التي تعنى بالعلوم الإنسانية، مَن يتولى مهمة درس الشعر اللبناني الحديث، على غرار ما يفعله بعض الباحثين الجامعيين في مجال التوثيق النقدي للرواية اللبنانية الحديثة.

ماذا تفعل الجامعات الإنسانية، إذا لم تتبلور مهمتها المطلقة، باعتبارها طليعية إبداعية ونقدية؟! على هذا المستوى، لن أتردد في تسميتها… مقابر، على غرار المقابر التي ندفن فيها أوطاننا وأحلامنا.

* * *

الشعر هواء العالم. لا تنسوا أننا نختنق بسبب انعدام الهواء. أيها الشعراء، اقرعوا الأجراس، لأن العالم يختنق!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى