صفحات الثقافة

عن الابتزاز والنضال.. تاريخٌ بديل ترويه مراسلات أميركية


سحر مندور

رسائل تبادلها مشاهير، أو مغمورون مع مشاهير، في مجالات تتنوع من الحرب إلى الحب، ومن النقد إلى الرجاء، بلغات تتنوع من الوجداني إلى السخرية، ومن العزّة إلى المحافظة.

وفي خضم هذه الرسائل، المكتوبة بالحبر الأسود على ورقٍ بات لونه أصفر، تطل واحدة برأسها، كأنها تغمز بعينٍ وتروي بالأخرى قصةً هامشية جداً، في سياق خطيرٍ جداً، لتخطّ سطراً في قصة الاستهلاك العالمي، لكنه سطرٌ شديد الإمتاع.

ففي الحرب العالمية الأولى، بعث أربعة آلاف جندي أميركي مرابض في «معسكر ماك آرثر» في تكساس، برسالةٍ إلى شركة «كوكا كولا»، بعدما انقطعوا من مخزون منتوجها في ظل ارتفاع حاد في درجات الحرارة، يطالبونها بتأمين حاجة مخيمهم، لكي لا يهزمهم «العدو قيظ وعطش».

الرسالة محفوظة في «الأرشيف الوطني»، وقد نشرها الموقع المتخصص بالمراسلات الأميركية، أكانت مكتوبة أو تلغرافية أو مبعوثة عبر الفاكس، أو عبر أي وسيلة تواصل خطيّ أخرى.

الموقع اسمه «lettersofnote». وكل صفحة من صفحاته تقترح على الإنسان قصة، تنقله من حاضره إلى حاضر آخر، حلّ ماضياً أو ماضياً جداً، بأسماء شهيرة أو مغمورة. وخلف كل رسالة، قصة. وخلف كل قراءة، معرفة. ومع كل قصة، تحضر صورة للرسالة كما هي، كما كانت، بخط اليدّ، إلى جانب تفريغها بنصٍ يُقرأ بسهولة على الشاشة.

«العدو: قيظ وعطش»

يقول نص الرسالة التي وجهّها مسؤول التبادل في القاعدة الأميركية في تكساس، في 19 نيسان 1918: «أيها السادة، نرغب في لفت انتباهكم إلى نقص في الكولا على امتداد هذا المخيم العسكري، وخاصة في فوج المقصف. الهدف من هذا التواصل هو تذكيركم بأن الطقس الحار قد حلّ، وأن الكولا هي أفضل الأسلحة في محاربة الطقس الحار، ونحن الجنود نبغض الاعتراف بالهزيمة، ولكي نحقق النصر في كفاحنا، يجب أن تتوفر لنا الأدوات اللازمة لمقارعة عدونا، وإن لم نحصل على الكولا، فسيتوجب علينا أن نعترف بالهزيمة على أيدي العدو قيظ وعطش.

الجيش مروّض على حب الكولا والرغبة بها، لأن كولا هي المشروب الناجح في محاربة العطش. وهذا التبادل الذي يتمثل فيه أربعة آلاف شارب للكولا، يرجوكم أن تضاعفوا الإمداد بعشرة أضعاف أو أكثر إذا أمكن (…).

وتؤكد خبرة إدارة التبادل أن مستخدمي بضاعة معينة يمكن تلقينهم حب البديل، فإن لم تتمكنوا من تلبية طلبنا، سيتوجب علينا تقديم البديل هنا، وسيكون البديل منافساً صاعداً وقوياً لكوكا كولا. لا نريد أن نبادر في هذا الاتجاه، نريد المزيد من الكوكا كولا، والمزيد منها سيعود علينا بمستهلكين أكثر رضى، كما ستكون صحتهم بمنأى من الخطر.

نثق بأنكم ستتعاملون مع تلك المسألة الهامة بالجدية المطلوبة، وستجدون لها الحل السريع، وستسمعوننا أنكم ستساعدوننا على إلحاق الهزيمة بالعدو عطش، وقهر أيام التدريب الطويلة الحارّة هذه.

بكامل الاحترام، (التوقيع بالاسم الشخصي)، ضابط الاتصال».

الرسالة ملأى بالدلالات، من اللغة العسكرية في مخاطبة حاجة حيوية كالعطش، إلى العقيدة العسكرية في تلقين الحب، حتى لمشروب، وصولاً إلى سلطة المستهلك التي يلجأ إليها جنود يحملون الأسلحة. سلطة الجيش العسكرية لا تجدي وحدها النفع، عند الحاجة إلى الاستهلاك، فتحلّ مكانها سلطة مقاطعة أربعة آلاف مشتر للبضاعة المعروضة في السوق. ومن تلك الملاحظات، تظهر أسباب الخشية من الحكم العسكري لمجتمع مدني سيتم تلقينه الرغبة إن بمشروب أو بأسلوب حياة، وتعميمها، كما تظهر قوة المقاطعة في تأمين الرضوخ لرغبات الاستهلاك، والفكرة. وتذهب اللغة إلى حدود الكاريكاتورية في علاقتها بالحرّ ومشروبه الغازي. كاريكاتورية لا يتوقف عندها كاتب الرسالة، ومتلقيها.

عن ذلك كله، وعن أكثر منه، تخبر رسالة وجهها قائد عسكري لشركة تجارية، في أواخر الحرب العالمية الأولى. وهي قصة لا تُروى عن تلك الحرب، مع أنها مهّدت لعصرٍ تحكمه الشركات العالمية، بقرار سياسي ينفذ عسكرياً. وكاد القرار يضحي سيفاً ذا حدين، يؤمن الحاجة ويجعلها وسيلة للتفاوض، قبل أن يشمل «الاتفاق» الشركات المنافسة، بحيث تلبى الحاجة على جبهتين موحّدتين فعلياً. فالاتفاق مع المنتج كما مع المنافس، وحصر المنافسة بهما، يحصر دائرة المنفعة في نظام حاكم واحد. ولن يُسمح بالمنافسة خارج الدائرة الحاكمة للشركات التجارية العالمية، العابرة للقارات.

سلطة واحدة، في كوكب واحد.

لكن الرسائل الباقية من زمن ماضٍ لا تخبر عن ذلك، فحسب. وإنما هي تخبر أيضاً عن سبل مقاومة أي «نظام حاكم»، ولو بالأمل.

الثائر براندو

في حزيران العام 1964، وصل تلغراف للنجم العالمي مارلون براندو، مرسل من قائد حركة الحقوق المدنية في أميركا د. مارتن لوثر كينغ، يدعوه فيه للمشاركة بتحرّك مطلبي مقبل للحركة. وقد نشر موقع المراسلات ردّ براندو على تلك الرسالة، معلناً فيه امتناعه عن المشاركة في التظاهرة المذكورة. لكن، لماذا طالبه كينغ بالمشاركة أساساً؟ يبدد الموقع تلك الغرابة بتقديمٍ يشرح أن براندو كان ناشطاً في هذا السياق، حتى أنه كان يقف على بعد خطوات من مارتن لوثر كينغ، في أثناء إلقائه الخطاب التاريخي: «لديّ حلم». وعند اغتيال القائد التحرري في العام 1968، انسحب براندو من عالم التمثيل لفترة من الزمن، كرّس نفسه خلالها خدمةً لنشاط مارتن لوثر كينغ.

يقول ردّ براندو: «العزيز د. كينغ، شكراً جزيلاً لك على الدعوة. أنا عدّت للتو من المستشفى إثر نزف حاد، سببه القرحة. كما أني هدف لصراع شخصي حاد، سيقودني إلى قاعة المحكمة يوم الخميس المقبل. يشرّفني طلبك مساعدتي بما يمكن لي أن أقدمه. لا يمكنني الآن أن أكون على مستوى الطلب. يحزنني عجزي عن المشاركة. أشعر بأن أولئك الذين سينشطون في التظاهرات المطالبة بالمساواة والحرية هم أبطال زماننا، ويستحقون تكريماً وطنياً، وأنا أنظر إلى التظاهر كواجب مشرّف يتوجب على المرء المشاركة فيه. آمل أن أكون خارج البلاد في يوم الجمعة، لكني سأعود قبل مطلع آب، وحينها، أنا متأكد من أني سأكون قادراً على المشاركة بنشاطات التحرّر. بعظيم الاحترام والأسف، أنا بكاملي لكم. مارلون براندو».

في مقابل الابتزاز الضمني الذي أبرزته رسالة الجنود لشركة المشروبات الغازية ضمن ظروف الحرب العالمية، تلمع رسالة براندو، التي تقترح المواجهة المطلبية والقيم السامية. فيجد المرء نفسه، وهو يتلصص على رسالة شخصية ليست تصريحاً عاماً يبتغي ربحاً ما، أمام تعبير صادق عن لحظة يشارك فيها المرء بصناعة التغيير الذي يشتهيه لبلاده، التغيير الذي يصنع العدالة فالمواطنة.

وتلك لحظات ســجّلها التاريخ في مسيرته، وبتنا اليوم ننظر إليــها كـــماضٍ بلا وجوه، وبكثير من القراءات التآمرية حيــناً والوجدانية حيناً.

وهي أيضاً لحظات سجّلها التاريخ في مسيرته، تجد استمراريتها في وجوه راهنة كثيرة، تناضل لما يدان بـ«مثاليته»، أو تبتز بما يُسمّى «سياسة».

ففي الرسالة، تظهر الوجوه، لا الجموع التي صنعت حدثاً وملأت الصورة بمشهد عام، خالٍ من خصوصيات التفاصيل. الرسالة هي قصصٌ قصيرة، تروي اللحظة وما سبقها وسياقها وروحها، ومنــها يطل اليــوم والغد والأمل البعيد. كما أنها أرشيــف يــروي التاريخ، كما لم يروه كتاب.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى