الشعر السوري في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين/ د. مازن أكثم سليمان
غصَّتْ أدبيات الشعر السوري بمجموعة مقولاتٍ في العقود الأخيرة، وتزاحمت إلى حدٍّ بدتْ فيه أقرب إلى الضجيج الخاوي منها إلى الفعل المُؤسِّس، لتبلغ ذروتها في العقد الأول من القرن الحالي، إذ لا تكاد تخلو قراءة نقدية أو مقدمة ديوان أو حوار مع شاعر من عبارات شائعة عن الحداثة والمُعاصَرة والشعر الجديد، أو من مصطلحات معروفة كالتجاوز وتفجير اللغة واكتناه المجهول، ويبدو أن هذه (الكليشهات الجاهزة) قد تحولت إلى عدة آلية شكلية في معظم الأحيان، مُشكِّلةً غشاوة تحجب النظرة العميقة المُتفحِّصة للمُنجَز الشعري الغزير الذي حفلت به المساحة الشعرية السورية في تلك المرحلة.
إنَّ قراءة عامة للمشهد الشعري تُظهِرُ أنَّ نسبة لا بأس بها من تجارب العقد الأول من القرن الحالي قد تراكبتْ وفق أسس مرجعية أقل ما يُمكِن أن توصَفَ به أنَّها أصبحت أسُساً تقليدية؛ إذ تقوم في الأغلب على مُحاكاة أو تقليد تجارب شعرية لشعراء بعينهم لهم حضورهم المُهيمِن السابق، أو الالتحاق بمدارس شعرية أو تيارات بعينها. وهذا ما يُظهره الارتباط الفني بين النصوص المُنجَزة، وتيارات شعرية مُتعدِّدة كانت سائدة منذ ستينات القرن المُنصرم.
احتفظَ تيار الشعر اليومي بمكانةٍ مُفضَّلة عند عدد كبير من الشعراء السوريين في هذه الحقبة، مُستمرِّين على خطى جيل سبعينات القرن الماضي في اقتراح قصيدة يكون الحضور المحوري فيها للمستوى اليوميّ، وتحتفي بالتقاط حركيّة الحياة الاعتياديّة، وكشف تفاصيلها الإنسانيّة البسيطة، وصيرورتها المُتحوِّلة العابرة، في محاولة للتخفُّف من عبء المحمول الرؤيوي الكُلِّي الذي تذخر به قصائد الرؤيا التي ظهرت منذ ستينات القرن العشرين، وظلَّ تيار غير قليل من شعراء هذا العقد الأول وفياً لها؛ إذ لم تتخلَّ نصوصٌ كثيرة عن الاحتفاء بتلكَ الرُّؤى الساعية إلى تغيير نظام الأشياء وعلاقاتها، مُحاوِلةً باستمرار _ نظرياً على الأقل _ أن تُفتِّت منطق العالم الوقائعي وروابطه الجزئية المستقرة، ثُمَّ أن تُعيدَ تركيبَهُ في عالم شعري جديد مفتوح على رؤىً كُلية مُستقبلية تكْتنِهُ دلالات المجهول، وقد تنامى إلى جانب هذين التيارين حضور التيارات الشعرية ما بعد الحداثية التي كانت استمراراً لما ظهر في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم، وهي تيارات تسعى إلى الانتقال من تجربة تشظي النّص الحداثي، إلى تجربة النّص المُتشظّي ما بعدَ الحداثي، وذلك بوصف هذا الانتقال يقومُ على رغبة حثيثة بتفكيك وَحدة العالم الشعري، ونسف أنظمته المُتماسكة، وتحرير مفرداته من دلالاتها المُهترئة القديمة.
وفي النّظر إلى مُستوىً آخَر، نلاحظ وجود تنوُّعٍ في الأشكال الكتابية التي ظهرت في تلك المرحلة؛ إذ توزَّعتْ التجارب بين الومضة الشعرية، والنصّ/ المقطع الواحد، والنصّ مُتعدِّد المقاطع، والشكل التقليدي الطولي لقصيدتي التفعيلة والنثر، والكتلة الطباعية الأفقية الواحدة. واستدعى كُلّ شكل جملةً من الأدوات الفنّية والآليات التقنية التي تختلفُ خصوصياتُها أيضاً على نحوٍ نسبيّ من شاعر إلى آخَر، ومن نصّ إلى آخَر، وهوَ الأمر الذي يتطلَّبُ تتبُّعاً نقدياً على نحوٍ تفصيليّ.
وقد سعَتْ مُحاوَلات شعرية كثيرة في هذا السياق إلى تحرير النصوص من وطأة القيود التّجنيسية التقليدية بفتحِ هذه النّصوص فتحاً طَموحاً على المستويات السردية والدرامية والملحمية الذاتية إذا صحَّ التعبير، وذلك في ظلِّ ميلٍ جارف إلى التّقشُّف البلاغي، وتمكَّنتْ بعض المحاولات _وليسَ جميعُها_ من تحقيق بعض التوازن الجَماليّ الذي احتفظَ قدر المُستطاع بشعرية تلك النصوص عبر مُزاوجة التقنيات السابقة بآليات شعرية مُتفاوتة في قدرتها على بثّ طاقات مجازية ورمزية، وعلى توليد فجوات انزياحية نسبية ترنو عبر توتُّرها الإيحائي إلى إزاحة الدلالة من العالم الوقائعي السابق إلى العالم الشعري الجديد. ولم يكُنْ التجريب بعيداً عن عدد كبير من المُحاوَلات الشعرية تبعاً لخصوصية كُلّ مُحاوَلة، وذلكَ في ضوء صلته العميقة بالتجربة الوجودية الشخصية والعامة التي يعيشها كُلّ شاعر.
ولا يمكن أن نحلِّل هيمنة بعض العناصر الفنية أو الفكرية على قصائد تلك المرحلة من دون ربطها بالواقع السياسي_الاجتماعي؛ وظهور نصوص كاملة تحتفي بما يُمكن تسميته بِالإنسان المسحوق، وأحلامه البسيطة المُنتهَكة والمهدورة، ولا سيما في ظلّ تأثير جانبين، أحدهما كونيّ يتعلَّق بعصر العولمة، والنتائج الحياتية التي ترتَّبتْ عليه، والآخَر محلِّي يرتبط بالتحولات الاقتصادية التي شهدتها سوريا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والمُتعلِّقة بما دُعيَ الانتقال إلى اقتصاد السوق الاجتماعيّ، وما نجمَ عنه من أوضاع اقتصادية جديدة وصعبة انعكستْ بقوة على ما تبقّى من الطبقة الوسطى.
وفي كُلّ الأحوال، يمكن أن نلاحظ تبعاً لنظرة عامة إلى شعر تلك الحقبة غيابَ الموضوعات الإنسانية الكبرى بأسئلتها الوجودية الكونية لصالح حضور أسئلة الفرد المُباشَرة، إذ لا نلمس ظهور تجارب شعرية تأخذ على عاتقها الانهمام بقضايا البشرية الكبرى كما كنا نجد في تجارب القرن العشرين، ولهذا ارتباط عميق بالتأكيد بسقوط الإيديولوجيات التي كانت سائدة، وبغياب المدارس الفلسفية الشمولية، وبالحالتين المحلّية والعالمية اللتين أشرتُ إليهما في الفقرة السابقة، وهو ما تجلّى من زاوية أُخرى بغياب شبه تام للمشاريع الشعرية المُتكاملة التي يُمكن وصفها بأنها تحتفي بتشابك خلّاق بين الجوانب النصّية و الجوانب النظرية؛ بمعنى أنه يصعب أن نتحدث عن تجارب شعرية يقف خلفها جهاز مفاهيمي نظري ومعرفي جديد ومغاير، فضلاً عن صعوبة القول قولاً حاسِماً بظهور مشاريع شعرية حقَّقت بحدّ ذاتها (أي من الناحية النصّية البحتة) خرقاً بيِّناً للسائد أو للسابق، أو أنجزتْ قطيعة فنية مُحكَمة.
وتبدو لي المسألة في جانب منها أيضاً مرتبطة بالاستسهال الذي طغى طغياناً بالغاً في تلك المرحلة، وهو ما يتعلَّق أصلاً بغياب المواكبة النقدية الأصيلة، وبقلّة المنابر ذات المصداقية الفنية والفكرية الكبيرة كما كنا نجد في أواسط القرن الماضي مع وجود مجلتي شعر والآداب مثلاً، وبانفتاح فوضوي غير مسبوق سهَّل سيولة ظهور وانتقال النصوص وتداولها العشوائي _ بغضّ النظر عن قيمتها الإبداعية _ في وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت (من دون أن نغفل إيجابيات هذا الانفتاح بكُلّ الأحوال)، فضلاً عن ضعف الذخيرة المعرفية اللازمة لشاعر يعيش في هذا العصر، ولا سيما تلك المعارف المُتّصلة بمفهوم الشعر ونظرياته وأسئلته الفنية والجمالية، وهو الأمر الذي يظهر بجلاء في عجز نسبة لا بأس بها من القصائد عن تحقيق الانتقال المُجدي من التجربة الذاتية الخاصة إلى التجربة الإنسانية العامة، والتي يتجاوزُ فيها النصّ حدودَ مُحاكاة السطح الخارجيّ للعالم، وينفتحُ ليبسطَ عالمه المُختلِف بوصفه فائضَ وجودٍ يُفترَضُ أن يخترق الغياب، وذلك بالتضافر الوجودي بين التجربة والتجريب عبر مكابدة عميقة بؤرتها جدلية الذات والموضوع ائتلافاً أو تنافراً، وهدفها بلوغ الخصوصية الجمالية نصياً، إذ ينبغي نظرياً وفعلياً أن يتولَّدَ الحيزُ الفنّي وأن ينموَ داخل النص، لا أن يكون سجيناً تحت وطأة المُسَبَّقات البالية أو التقليد المُهترئ.
إن الإشكاليات السابقة لا تعني أنني أغلق الباب تماماً على الحديث عن وجود تجارب لها خصوصيتها وجهدها اللافت، ولا تعني أن أتناسى ظهور بعض الأصوات التي يصعب تصنيفُها بسهولة، وتبدو وكأنّها قد تمكَّنتْ بعض الشيء من خلخلة سلطة الآباء الشعريين، كما أنَّ كلامي عن مرجعية التيارات الشعرية السائدة لا ينطوي على حكم قيمة بالكامل، ولا ينفي أصالة بعض المحاوَلات، بقدر ما يسعى إلى وصف حالة شعرية قائمة، لكن يبدو أنَّ تاريخ الفن والأدب يمكر في كثير من الأحيان مثله مثل التاريخ العام، فالشعراء أيضاً محكومون في مراحل كثيرة بعصورهم وتحولاتها إلى حد بعيد، وهذا يدفعني هُنا إلى وصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأنه مرحلة (برزخيّة) إذا صحَّ التعبير بينَ عصر كانَ في طريقه إلى الأفول وعصر كان في طريقه إلى الانبثاق، وهو الأمر الذي بدأنا نتلمَّسه الآن شيئاً فشيئاً بعد قيام ثورات الربيع العربي بوجهٍ عام، والثورة السورية على وجه التحديد؛ إذ يمكن أن نلاحظ بحذر العين المُدقِّقة بدء ولادة حساسيات شعرية جديدة نوعاً ما، و يبدو أنَّ نسبة كبيرة من هذه التجارب هي لشعراء كان لهم حضورهم في السنوات التي سبقتِ الثورات، لذلك أجد أنه من الضروري الإشارة أخيراً، إلى حاجةٍ ماسّة إلى تجذير الفعل النقدي الواسع والمُعمَّق في المساحة الثقافية السورية، إن بما يخصّ ما يُكتَبُ في هذه الحقبة المُتشظية سياسياً واجتماعياً، أو بما يخصُّ ما كُتِبَ في العقد الأول من هذا القرن، مع الربط المُتأنِّي والمُقارَنة النصّية الرّصينة بين المرحلتين.
شاعر وناقد سوري