الشعوب بين الإصلاح والثورات
خالد الحروب
تواجه المجتمعات والشعوب خيارات صعبة وقاسية في تواريخها الاجتماعية والسياسية، وتواجه مفترقات طرق تفرض عليها خيارات عسيرة وأحياناً مريرة. وفي المجمل العام حركة الشعوب وئيدة وبطيئة وحذرة إزاء التغيير الجذري والحاد، كالثورات، وتفضل عليه التغيير التدريجي الذي تعرف مسبقاً إلى أين يقودها. والثورات هي الخيار الأخير الذي تصل إليه الشعوب بحسها الجمعي الدقيق بعد أن تكون كل منافذ الإصلاح قد سُدت. تقدم الشعوب تضحيات جسيمة عندما تصل بها الأمور إلى نقطة اللاعودة وبالتالي الثورة. ذلك أنها عمليّاً تغامر وتقامر بأن تندرج في عملية مجهولة النتائج للتخلص من الاستبداد الرابض فوقها والمحطم لطاقاتها. ولا تختلف صورة وسيرورة الثورات العربية التي اندلعت هذا العام عن ذلك التوصيف.
ثورتا تونس ومصر نجحتا في زمن قياسي وعبر الوسائل السلمية ومن دون عنف واسع النطاق. وبمعنى من المعاني، مقارنة بما تلاهما من ثورات خاصة في ليبيا واليمن وسوريا، بدت هاتان الثورتان وكأنهما نموذجيتان. فالعنف الشديد والبطش الدموي الذي واجهت به الأنظمة في الحالات الثلاث الأخيرة أربك الوجدان الشعبي والتأييد العارم الذي تمتعت به ثورتا تونس ومصر. وزادت من ذلك الارتباك وفاقمت من التحفظ في التأييد أوضاع ما بعد الثورة التي، بالتعريف، يكون محددها الأساسي الفوضى المؤقتة وعدم الاستقرار، وهما ألد أعداء المجتمعات والشعوب التي ترنو إلى الاستقرار والأمن. وإلى ذلك الارتباك أضيف عنصر آخر هو التدخل الخارجي خاصة في حالة الثورة الليبية. كل ذلك أثر في صلابة الأرضية التي وقفت عليها الثورات أول ما انطلقت وفقدت التأييد شبه المطلق الذي حظيت به في أوائل شهورها. ويحتاج هذا الأمر إلى وقفة تأمل أعمق.
ويمكن القول إن استجابات الشعوب العربية للثورات والموقف منها قد تحولت وانتقلت من مرحلة إلى أخرى بحسب تطورات الأحداث على الأرض. في المرحلة الأولى كان التأييد الجارف والاندفاع العاطفي المتولد عن الإحساس بأن لحظة التغيير والانعتاق أخيراً قد حلت. نعرف جميعاً أن الانسداد السياسي والاجتماعي مضافاً إليه التردي الاقتصادي والبطالة قد أوصل الأمور في كثير من البلدان العربية إلى حالة من التكلس المدمر. وقد تراكمت وتفاقمت المشكلات بشكل مستعصٍ وغابت كل الحلول وبدا أن كل الحديث عن الإصلاح لم يكن له أي معنى، بل هو عملية مكشوفة لكسب الوقت وإبقاء الأمور على ما هي عليه، والحفاظ على ديكتاتورية الأنظمة ونهب النظم الحاكمة لثروات بلدانها. وعلى تلك الخلفية السوداوية المُغلقة لم يكن التأييد الجارف لتلك الثورات مفاجأة لأحد.
وقد ترافق مع ذلك التأييد بطبيعة الحال مع التطلع للتغيير والانطلاق إلى مرحلة جديدة تكون ملامحها على العكس تماماً من المرحلة المُنقضية. فإن كانت الديكتاتورية وغياب الحرية وإذلال المواطن وعدم المساواة والتردي الاقتصادي والفقر هي مكونات المرحلة السلطوية، فإن آمال وتطلعات الشعوب رفعت من سقف التوقعات بشكل كبير (ومُحبط لاحقاً)، حيث أملت أن ترى في الفجر التالي ليوم انتصار الثورة كل الأهداف وقد تحققت دفعة واحدة: الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والازدهار الاقتصادي، والغنى. ومن ناحية موضوعية وعملية لا يمكن إنجاز كل تلك الغايات الكبرى في زمن قصير مهما كانت النيات حسنة والطاقات مُفعلة بأقصى مستوياتها. وكما دائماً وأبداً فإن التوقعات ذات السقف المتوقع والخيالي تجلب الأحباط وفقدان الإيمان بالمشروع المعني. كما أن التغيير السياسي والاجتماعي وتحقيق النمو الاقتصادي يحتاج إلى فترات زمنية طويلة تصل بالمجتمعات إلى نقطة التوازن. وهذا الاحتياج إلى الوقت يتضاعف عندما يُراد للمجتمعات النهوض من ركام الدمار الذي خلفه الاستبداد وسياساته العشوائية. وفي الوقت نفسه فإن الفرد العادي المطحون لعقود طويلة من تلك السياسات لا يُلام على إلحاحه على سرعة الإنجاز وتلمس الفرق بين المرحلة الماضية ومرحلة ما بعد الثورة.
انتقلت إذن شرائح عدة من التأييد الجارف والتطلع نحو التغيير السريع، إلى الإحباط والتهكم من النتائج التي جلبتها الثورات، وهذا كله ناتج عن عدم وعي بعمق التردي الذي آلت إليه المجتمعات العربية، وصعوبة مهمة البناء وطول فترتها. وبناء مجتمعات متوازنة وصحية وديمقراطية حرة وقائمة على الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية هو المهمة التاريخية الأصعب في عمر الشعوب، من زاوية تاريخية عريضة. ومع الشعور بالإحباط جاءت مشاعر التخوف من سيناريوهات مظلمة خاصة بعد شهور العنف الدموي الذي رافق ثورات ليبيا وسوريا واليمن. ففي هذه الدول أصرت الأنظمة الديكتاتورية على الدفاع المستميت عن مكاسب النخب الحاكمة فيها ولو أدى ذلك الدفاع إلى حرق البلد بأكمله وتدمير بنيته التحتية، وتحويله إلى حطام. وليس هذا فحسب بل أطلقت هذه الأنظمة كل أنواع المخاوف المُبالغ فيها أو الحقيقية حول مستقبل البلد بعد سقوط النظام. فأججت مخاوف الانقسام الجغرافي، والحرب الطائفية، والصراعات القبلية والجهوية. وكانت الرسالة الواحدة تقريباً التي تكررها الأنظمة الثلاثة هي أن البلد سوف يتحول إلى دمار وإلى انقسامات دموية إذا سقط النظام، ولهذا فإن الأفضل لكم أيها الشعوب أن تتمسكوا بما هو قائم خوفاً مما هو قادم.
صحيح أن المبالغة والتخويف كانا جوهر تلك الرسالة، ولكن لا أحد يمكنه تجاهل الكثير من المخاوف والمعضلات الحقيقية التي ظلت نائمة تحت سطح الاستقرار المُزيف الذي كان الاستبداد يتباهى به. والدول الفاشلة المُستبدة هي التي تنفق عقوداً من عمر شعوبها وهي نائمة على المعضلات الكبيرة، مثل الانقسامات الجغرافية، أو الصراعات القبلية الكامنة، أو التوترات الطائفية، من دون أن تعالجها وتصهرها بالسياسات الناجعة في بوتقة وطنية موحدة أساسها دولة القانون والمساواة بين الأفراد على قاعدة المواطَنة. وما فعله الاستبداد في بلداننا العربية لم يكن سوى دفع تلك المشكلات تحت السطح وعدم الحديث عنها أو مواجهتها، ثم إقامة صرح الديكتاتوريات فوقها، والزعم بأن كل شيء على ما يرام.
لقد أضعنا عقوداً طويلة كان بإمكان مجتمعاتنا فيها أن تندرج في مسيرة إصلاح وتصويب وئيدة وتدريجية وناجعة، بدل أن نكتشف أننا وبعد عقود طويلة من قيام دولة الاستقلال الوطني ما زلنا قبليات متناحرة وطوائف متنازعة وأقاليم جغرافية متنافسة.