الشيطان في الشتات/ محمد صابر عبيد
مضى على شتاته الآن ما يقرب من ثلاثة أشهر تتداخلُ أيّامُ أحدها بالآخر على نحو حميمٍ وقاسٍ في آنٍ واحد، لا يدري كيف انسلّت بهذه البسالة الكافرة من أنف الزمن وحكمة المكان وصلابة الرؤية. ترك بيته هناك فضاءً مشبعاً بغيم الخيال الودود، مملوءاً بأفق متوهج من الورود والرياحين، ما إنْ تدلف من بابه الخارجيّ حتى تزهر عيناكَ بمرآها ويتسلّل عبقها برفق ومتعة نحو رغوة مزاجك. تركه مملوءاً بالكتب واللوحات والحبّ والنور، مملوءاً بالرغبات والأماني والمشاريع والقصائد والنداءات الخفيّة الآسرة، مملوءاً بحلاوة الحياة على الرغم من كلّ مظاهر الموت المنتشرة على الأرصفة والحيطان والنفوس كالغبار الأسود الكثيف. مضى كلّ هذا الوقت الكثير الكثير وهو لا يدري أنّ الورود والرياحين ربّما تكون قد ذبلت الآن وانكفأت على رائحتها الذاوية، والكتبَ واللوحات اكتأبت وتغضّنت وجناتُها وفقدت حسّها الخلّاب باستقطاب عرائس الرؤيا حولها، وخفتَ النورُ الملوّن في صالة الاستقبال إنْ لم يكن قد اضمحلّ وذاب في غياهب الحنين والفراغ والبرود والنسيان، وغفت الرغبات والأماني والمشاريع والقصائد على عتبة مستقبل مجهول بلا رجاء، وتهدّج القلب الممتدّ من هناك إلى هنا ببكاء مرّ صامت وقاهر لا يراهُ أحدٌ، لحسن الحظّ وربّما لسوئه، مع أنّه طالما غذّى كلّ أشيائه تلك بحسّ المقاومة والصبر والصمود والكبرياء والعنفوان.
طالما سمع بالشيطان منذ نعومة أظفاره، وطالما كان هذا الشيطان مصدر رعب دائم له، يخافه على غير معرفة سابقة، أو خبرة ماضية. لا بدّ طبعاً من أن يخافه ولا سيّما بعدما علم في ما بعد أنه سبب نزول أبيه آدم وأمه حواء من أعالي الجنة إلى أسافل الأرض التي امتلأت بمَن يُفسد فيها ويسفك الدماء. تُرى، كيف عرف هذا الشيطان قبل أن يهبط آدم وحواء إلى الأرض، أنها ستحتشد بالفاسدين وسفّاكي الدماء؟
المهمّ، أنّه جعل من الشيطان عدوّاً له تحت مشيئة ثقافة تقليدية زاخرة بالمحاذير والممنوعات والمحرّمات والمخاوف. شعاران ضاريان يسدّان عليه هواء المتعة والانطلاق والحياة هما العيب والحرام، لا ينفكّان يجلدانه بشبكة واخزة من المعلومات المروّعة تضع على عاتق الشيطان مسؤولية كلّ كارثة تدنّس براءة الأرض، في حين عاهدَ الشيطانُ ربّه تحدياً ومروقاً واستهتاراً على إغوائهم أجمعين.
هو، كما يعرف نفسه، أحدُ أضعف هؤلاء الأجمعين، وأكثرهم سهولةً للإغواء وانسياقاً وراء عتمة الشهوات وغموضها العسليّ المسكر، فقد وقع ضحيته باستسلام لذيذ آلاف المرات، لا بل كم كان يتمنى لو أنّ الشيطان أقرب إليه من ذلك وأكثر اهتماماً كي ينعم بمظاهر الإغواء ولذائذها المشتهاة بلا حساب، والله في النهاية غفورٌ رحيم.
على مرمى ألم عسير من بيته هناك، يتساءل هذا الفتى الخمسينيّ الغرّ وقد شحّتْ رغباته، ولم يعد سهلَ الإغواء والانقياد والتوريط لفرط ما تعرّض له من خسائر ونكبات وهزائم، وبدأ يقتصد في الكلام والكتابة والأكل والنوم والحلم والعاطفة والفرح والأمل والتواصل، تُرى ما مصير شيطانه بعدما أنجز مهمته في تحقيق الخراب على نحو مثاليّ ربما لم يكن يتوقعه، هل يستقيل؟ هل يموت؟ هل يتنكّب مهمةً أخرى في بلد آخر ليوقع به ويشتّت أبناءه؟ ألم يتعب من هذا الحقد؟ ألم يرتو من نبيذ الانتقام؟ ألم يشبع من طراوة لحم الأطفال الذين تمزّقت أشلاؤهم في جنون البراميل المتفجّرة وإيقاع الأحزمة الناسفة وتفاهة البيانات الصاخبة؟ ألم ييأس من صمود المجانين وهم يقارعون طواحين الهواء بأرواح من حديد وحجارة؟
لقد فتكتَ بالبشر المسالمين أيّها الشيطانُ الرجيمُ فتكاً عظيماً، أما آنَ لك أن تترجّل من صهوة قسوتك وتستريح قليلاً؟
في لحظة طائشة من لحظات الصمت الثقيل والتأمل الطويل الذي لا سبيل إلى بلوغه طمأنينةً ما في القريب العاجل، سمع صوتاً ناعماً متردداً يغذّ السيرَ نحو مرآته غير المستعملة منذ أكثر من ثلاثة أشهر كبيسة من الشتات الأليم، فأيّ مرآة في وسعها أن تعكس صورة الوجه وتضاعفه بعد مسلسل العذاب وهو يوغل في البعيد في اتجاه ضياع الملامح، وتلاشي البريق، وغياب البهجة، وخفوت النضارة، وشحّ الأمل. كان الصوت يقترب إلى حدّ الوضوح التامّ المقلق، وبعد حفل استقبال غير لائق تبيّن أنه الشيطان بظلّه الشفّاف ورمزيته الأدبية الإشكالية وعلامته السيميائية الفارقة. ربما فرح قليلاً حين تعرّف أخيراً إلى شيطانه ووجدهُ أنثى، فتبّاً لأبي النجم العجليّ إذاً، وهو يتفاخر بأنّ شيطانه الشعريَّ ذكرٌ مقابل أنثوية كلّ شاعر من البشر. ليهنأ هذا الراجزُ الأحمق بشيطانه الذكر.
خاف قليلاً للوهلة الأولى، لكنه ما لبث أن استأنس بالرائحة الأنثويّة وقد أشاعها شيطانُهُ الأنثى في مجال لا يسمح بمزيد من الخسائر، إذ لم يعد لديه ما يخسره. غير أنه فوجئ بأنّ الشيطانَ مطرودٌ مثله أيضاً، وهذه المرّة من سفح الأرض، بعد طرده البلاغيّ الكبير من أعلى قمّة في الجنة. يا له من مغضوب طريد، إذ هو أوّل النازحين من جنّة الله، وآخرهم.
صافحَهُ برغبة عارمة في حبّ الاستطلاع والمعرفة، وحيث يجيد كلاهما لغة الإشارة والهمس، جرى بينهما الحوار الآتي، وأقوم أنا الناقلُ (الراوي) بترجمته إلى كتابة مرئية من دون أيّ تلاعب (متوقّع أو محتمل أو مناسب) بالترجمة، والله على ما أقولُ شهيد، وناقلُ الكفر أو راويه أو مترجمه ليس كافراً كما يقولون:
هو: ماذا تفعل في هذه البلاد الغريبة؟
الشيطان: وماذا تراني أفعل في بلادي وهي لا تعطيني فرصةً للعمل؟
هو: كيف، وعملكَ متوافرٌ، وفرصتكَ لا ينافسكَ عليها أحد؟
الشيطان: مَن قال لك ذلك؟ أنا منذ زمن بعيد بلا عمل هناك وقد لحقتني الفاقةُ وطاردني العوز، وكنتُ أنتظر قراركَ الرحيل كي أرافقكَ حتى ولو على سبيل خلاص ما مقترن بخلاصك.
هو: لكنّ بلاد الرافدين الآن هي البلاد الصالحة لكَ كي تطيح الجميع كما تشاء!
الشيطان: كيف ذلك، وأبناؤه يقتلون بعضَهم قبل أنْ يصل سهمي إليهم. العربيّ يفتك بالكرديّ، والكرديّ بالعربيّ، والشيعيّ ينحر السنيّ، والسنيّ يقطع رأسَ الشيعيّ، والمسلم يشرّد المسيحيّ والصابئيّ والإيزيديّ، والنخلةُ تشتم شجرة الجوز، والنفط يلوّث الماء، والطلقات تخترق صدور الجميع، والقنابل تسقط على رؤوس الجميع، وأنا أتفرج مثل أبله وأنسى حقدي عليهم كلّه وأسعى إلى التدخّل فيلفظني البشر جميعهم ويزيحونني جانباً كي يتفرّغوا للفساد وسفك الدماء؟
هو: لكنكَ دائماً أنت سبب البلاء وبيت الداء، هادم اللذّات ومفرّق الجماعات.
الشيطان: (يضحك) يا لكَ من شاعر رعويّ مسكين، يبدو أنّ قصيدتَكَ الفتية قد شاخت قبل أوانها. أنا في زمنك هذا، المهمّشُ الوحيدُ والمهملُ الوحيدُ والفقيرُ الوحيدُ، كلّما فكّرتُ في حيلة لأحصل فيها على قوت يومي أجدُ أنّ أخوتكَ من البشر قد عرفوها وتفننوا فيها، لا بل غادروها بعد أن استنفدوها، فمن أين آتي بالبلاء وقد احتكرته أرض الرافدين، ومن أين أجلب الداء وهذه البلادُ حصرتْ لُبّ الداء بين رافديها، وكيف في وسعي أن أهدم اللذات في بلد افتقد طعم اللذّة منذ عهود، وأن أفرّق الجماعات وهي مفرّقةٌ أصلاً على أسوأ وأحطّ ما يكون؟
أنهى شيطانُهُ الأنثى حواره وغادره من غير استئذان ومن دون أن يتملّى مفاتنه كعادته في تلقي الأنوثة واحترام رقّتها وجمالها، وتركه حائراً لا يلوي على شيء، يضرب أخماساً بأسداس وأسداساً بأسباع، هو الذي كان يتوقع أنّ كلّ بلاء الأمم الفانية والسائرة بإرادة لا تلين نحو الفناء من الشيطان، ها هو يبرّئ ساحته أمامه ويقنعه بحجاج لا سبيل إلى تفنيده من أنه لا حول له ولا قوّة بإزاء بشر تفوّقوا عليه وبزّوه وأزاحوه جانباً مثل خرقة بالية، وها هو الآن يلوذ بصاحبه النازح كي يعيشَ، يلوذ بمَن لا ملاذَ له، فكم هو معتقل الإرادة ومكبّل الفعل، وكم ظلمَهُ القوم وهم يعلّقون على شمّاعته خطاياهم، يقترفون أبشع الجرائم في حقّ الإنسانية ويلقون تبعات ذلك عليه، ينتهكون الأعراضَ ويسبون الحرائر ولا يؤخذ بجريرة ذلك سواه.
كنسَ المكانَ الذي اعتقد أنّ الشيطان كان يقف فيه حين أجرى معه الحوار السابق، وشطفه بالماء البارد مع رشّة من بذور الحبّة السوداء للحيلولة دون بقاء أيّ أثر له، تمهيداً لحجب ذكراه والتفرّغ لمواصلة صمته وتأمله الطويل، غير أنّه لمح ورقةً صغيرةً يتلاعب بها هواءُ الغرفة الفاسد، تشبه الوصفة التي يكتبها الأطباء على عجل لمرضاهم الطارئين. تلقّفها على الفور، فوجدها يوميةً من يوميات الشيطان سقطتْ منه، أو أسقطها متعمداً (وهو الأرجح)، وسأتدخّل أنا الراوي مرّة أخرى لأنقل لكم بحياد تعوّدتموه مني ما تحويه هذه اليومية الشيطانية من كلام مدوّن بلغة ضالّة تعلّمتُها في زيارتي الأخيرة للصين، ونصّها:
“الوقتُ هو العصر، أو على نحو أدقّ بين العصر والمغرب، كنتُ أتجوّل خفيةً كعادتي في مكان شبه مهجور، فرأيتُ واحداً من بني البشر يهمّ بارتكاب فاحشة قذرة، فطاب لي أن أراقبه عن كثب رغبةً في معرفة أسرار هذا الكائن الفادح العجيب، وحين أتمّ فعلته البشعة التي يأنف خجلي وتربأ أخلاقي من تسجيلها على الورق، التفتَ يمنةً ويسرةً، وحين لم يجد أحداً والعرقُ يتصبّب من جبينه المسودّ، جلس يؤنّب نفسه ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. لم أتمالك نفسي فخرجتُ إليه من عزلتي وخفائي وعنّفته بقسوة وامتهان وقلتُ له: صدّقني أنا الشيطان لو أنني بقيتُ أفكر عاماً كاملاً كي أعثر على هذه الطريقة المبتكرة في تنفيذ ما أتيت به من منكر لما استطعت، فسحقاً لك أيّها الإنسانُ الرجيم”.
ابتسم ابتسامةً كلّها دموعٌ، وحار في أمر هذه الورقة، هل ينشرها على الـ”فايسبوك” ويدوّن قصتها كما جرت؟ أم يمزّقها لأنّ أحداً لن يصدّقَ ما سيرويه؟
أعلنُ لكم أنا الراوي المحايد، أنه صادقٌ مئة في المئة، وأنّ ما قد يرويه لكم إذا لم يقرّر تمزيق الورقة هو صحيحٌ لا ريب فيه، جرى تحت أنظاري بوضوح كامل وأنا بكامل قواي العقلية، اللهم قد بلّغت، اللهم فاشهد.
النهار