الصراع في سورية سياسي/ علي العبدالله
اعتبر الأستاذ غازي دحمان، في مقالته “إعادة صياغة الوطنية السورية” (العربي الجديد: 2015/5/2)، الصراع الدائر في سورية قبلياً، وأكد، بشكل جازم، “أن صراع السوريين “الراهن ، في بدايته، “كان صراعاً قبلياً محضاً، اختلفت فيه نظرة قبائل الريف مع عائلات المدينة”، وقال من دون تردد “الواقع أن البنى الاجتماعية الوحيدة التي تعي نفسها في سورية، وتملك شرعية الإعلان عن نفسها بوضوح، هي القبائل، وحتى السوريون كأفراد عرفوا عن أنفسهم، طوال عقود، بصفتهم أبناء قبائل، كان ذلك قبل حكم البعث الذي توجه له التهمة بتعزيز الانقسامات الطائفية في سورية، وكانت القبيلة الإطار الوحيد الذي أخذ شكلاً منتظماً، تتضح فيه آليات الحكم الحديث “شيخ ـ كبار رجال القبيلة – المحاربون – المنتجون وهم فلاحون أو رعاة”. وذهب إلى أن سورية وطن قبائل، وليست بلاد طوائف، لم يتكرس البعد الطائفي، ولم يتبلور وعياً، على الرغم من وجود بعض توجهات من هذا القبيل في مراحل تاريخية، لكنها لم تنجح، وشكلت لحظات عابرة، انتهت في وقتها. وأضاف “أما الجزئية الطائفية، فالواضح أنه جرى استعارتها، عندما ضعفت القبائل. ولأن تجارب المنطقة كانت سابقة، في هذا المجال، فقد جرى تصدير نموذجها الطائفي إلى سورية التي لا تزال مرتبكة، في أغلب فئاتها، وخجولة من البعد الطائفي، وترفض الاعتراف به”.
واقع الحال أن كلام دحمان لا يستند إلى حقائق راسخة، وهو أقرب إلى الموقف الانطباعي منه، إلى موقف موضوعي، يعتمد منهجية علمية في قراءة المشهد، فعدم التمييز بين حقيقة الوجود الموضوعي للقبيلة ودورها السياسي في الصراع الراهن قاده إلى تصور خاطئ اعتبر فيه وجود القبيلة الكثيف دليلاً على دورها الرئيسي في الصراع. القبيلة حلقة مركزية في التطور الاجتماعي، الذي شهدته وتشهده المجتمعات البشرية، في انتقالها من رابطة الدم إلى الرابطة الاجتماعية، فالتطور الاجتماعي من الفرد إلى الشعب، مرورا بالعشيرة والقبيلة والقوم، قائم على قاعدة التطور بالإضافة، وليس بالإلغاء. لذا، لم ينه قيام الأسرة وجود الفرد، ولا أنهى وجود العشيرة وجود الأسر، وكذلك لم ينه نشوء القبيلة، نقلة تاريخية من رابطة الدم إلى رابطة المجتمع، وجود العشيرة المرتكزة على رابطة الدم/السلالة، وبالتالي، فإن وجود القبيلة في كل المجتمعات، المتطورة والنامية، منطقي وموضوعي، لكن دورها مرتبط بطبيعة المجتمع الذي تعيش فيه، ومدى تطور بناه الاجتماعية والثقافية والعلمية والقانونية، وبطبيعة النظام السياسي السائد. وعليه، يمكن البحث في طبيعة الصراع الراهن في سورية بالبحث عن خلفياته وقواه،
والمصالح التي يسعى المتصارعون إلى تحقيقها. وهذا سيقودنا، حتماً، إلى استنتاج أن الصراع الدائر في سورية سياسي بامتياز، دافعه الشعور بالغبن والتمييز والاستلاب والاستئثار بالخيرات والإذلال والقهر والتسلط الذي مارسه النظام على المجتمع عقوداً، وقد عبّر وصف الثورة بـ “ثورة الحرية والكرامة” عن طبيعتها وأهدافها. هذا ما يقوله المنطق، وهذا لا يختلف عما يقوله الواقع الميداني، فقد كانت الهبّة الأولى، التي انطلقت في درعا، شاملة لقوى اجتماعية وسياسية مدينية فوق قبلية، وتعاطف حمص وحماة ودير الزور مع درعا جاء لاعتبارات تتعلق بوحدة الحال، وليس بوحدة قبلية، ناهيك عن أن الاصطفافات التي برزت في أثناء تطور الصراع وحصول انقسامات داخل المناطق والقبائل بين مع وضد النظام والثورة، كما جرى في درعا والرقة ودير الزور، وحالة الترقب والتريث التي عرفتها حلب، تؤكد، من دون لبس، أن الصراع فوق قبلي، وطني، سياسي مس الشعب بمختلف بناه الاجتماعية والدينية والمذهبية، بغض النظر عن مدى انخراط هذه البنى في الصراع، على خلفية المصالح والتطلعات السياسية والاقتصادية.
أما قول الأستاذ دحمان إن القبائل “هي البنى الاجتماعية الوحيدة التي تعي نفسها في سورية”، فيمكن تفهمه ووضعه في سياقه، ذلك أن عدم نجاح النظام السياسي، إبّان مرحلة الاستقلال، في إحداث نقلة عميقة في الوضع الاجتماعي، عبر إطار دستوري قانوني، يؤسس لعقد اجتماعي، يستجيب لطبيعة البنية الاجتماعية والقومية، وينهي الاحتكاك حول الهوية الوطنية ترك الاندماج الوطني معلقاً، قبل أن يأتي نظام البعث، بمراحله المتعاقبة والمتباينة، ويزيد تعميق الهوة بتبنيه سياسة إضعاف المجتمع والسيطرة عليه، عبر إشاعة الانقسامات وتشجيع الاصطفافات، على خلفيات دينية ومذهبية وإثنية، وضربها ببعضها بعضا، وقد ترتب على هذه السياسة انعدام المساواة والأمن والحاجة إلى إطار بديل عن الدولة الجامعة الموحدة المشرفة على إدارة الشأن العام، وحل المشكلات بين أفراد المجتمع، وترتيب العلاقات بين قواه ومصالحه لتحقيق ذلك، فكانت العودة إلى الأطر ما قبل وطنية (الأسرة والعشيرة والقبيلة) واللجوء إلى حماها، بحسب طبيعة المصلحة والخصم، ما جعل القبيلة قبلة أفرادها لتوفير الحماية والأمن، وكرسها إطاراً رئيسياً في المجتمع السوري والعربي، لكن ذلك لا يغير في أن الصراع الراهن سياسي، لأن
القبيلة لا تستطيع حل مشكلات أفرادها وحمايتهم من كل الخصوم، بقواها الذاتية من جهة، ولأنها لا تستطيع الانعزال عن الفضاء الوطني، عن إطار أوسع وأقوى، دولة تحميها في ظل شبكة العلاقات الإقليمية والدولية، وما تنطوي عليه من مخاطر.
والطريف أن الكاتب دحض فرضيته، في نهاية المقالة، عندما قال: “قد أثبتت الثورة السورية، في بدايتها، نزوعات واضحة صوب هذه الاتجاهات، مثّلها أبناء العشوائيات (سكان ضواحي دمشق وحلب وحمص) الذين تفكك عندهم الانتماء القبلي، بفضل انخراطهم في المدينة، ونمط حياتها ومنظومتها القيمية، ولم تحتوهم، في الوقت نفسه، العوائل المدنية. وكانت هذه الفئة “أبناء العشوائيات” الطرف الأكبر، والأكثر فاعلية، في الثورة السورية، والأكثر تمثيلاً للمكونات السورية، وكانت رؤيتهم الوطنية أكثر وضوحاً، فهم أصحاب شعار “واحد واحد الشعب السوري واحد”.
يذهب دحمان إلى تبني فرضية “أن سورية وطن قبائل وليست بلاد طوائف”، ويعتبر العنصر الطائفي طارئاً ووافداً من دول الجوار، ويبني رؤيته حول سورية ومستقبلها في ضوئها من دون تمحيص وتدقيق، وكأن وجود القبائل ينفي وجود الطوائف، أو يتعارض معه والعكس، مع أنهما من طبيعتين مختلفتين، ومتعايشتين في مجتمعات كثيرة، إذ كان يكفيه أن يسترجع الوضع السوري، خلال سنوات الانتداب والمواقف، لا يقلل من دلالتها وجود تباين في المواقف داخل كل طائفة، في الساحل والسويداء والجزيرة السورية (الحسكة)، ليكشف ويلمس جذرها الطائفي، ناهيك عما ظهر في انقلاب البعث عام 1963 والتركيبة التي شكلت النظام السياسي، للالتفاف على وزن الأغلبية السنية، والتي اختصرها المحللون بكلمة عدس (الأحرف الأولى لعلويين ودروز وإسماعيليين)، والتصفيات التي حصلت بينها تالياً من أجل النفوذ والسيطرة، وانتهائها بانفراد العلويين بالسيطرة على السلطة. وهذا يقودنا إلى مطالبة الكاتب بالتدقيق في توصيفه تركيبة الحكم، في مرحلة سيطرة أبناء الريف على السلطة في العصر الحديث، فقوله: “عندما وصل أبناء القبائل إلى السلطة، فذلك لأن أبناء عوائل المدينة صاروا يأنفون القيام بمهام العسس والحراسة، مما أوجد اتفاق جنتلمان بين القادمين من الريف وأهل المدينة، بأن عليكم الحماية والحراسة، مهناً تعتاشون منها، وعلينا دفع الضريبة المناسبة من فائض تجارتنا وصناعتنا”. فالواقع أكثر قسوة وقتامة، لأنه لم يكن اتفاق جنتلمان، ولم يستشر أبناء العوائل المدينية، بالقسمة الضيزى التي فرضتها القوى المسيطرة، والتي استولت على حصة كبيرة من المردود الاقتصادي والمالي، يتناسب مع حجم نفوذها وسيطرتها على السلطة وأجهزتها القمعية، من دون أن تبذل جهداً، أو تساهم في تكلفة، بل اعتمدت على القسر والإرغام والقوة العارية مغلفة بالحماية، الحماية منها هي، أو من صنوها، وتسهيل الحركة وتوفير الربح المجزي.
أراد الأستاذ دحمان من فرضيته جعل التشكل الوطني السوري ممكناً وسهلاً، لأنه يرى “أن إدراج القبائل ضمن صيغة وطنية أسهل بكثير من إدراج الطوائف، ذلك أن المكوّن الديني يتفوق على البعدين، الوطني والقومي، وينافسه، في حين أن الانتماء القبلي لا يملك حساسية من الاندراج ضمن المكون الوطني، وذلك لسهولة دمج القبائل في العملية السياسية، كما أن البعد الطائفي يبدو مكتفيا بذاته، وقاطعاً كل المشتركات الوطنية لأبناء الحيز الواحد، في حين أن البعد القبلي يبقى ناقصاً ومشدوداً لتحالفات وطنية أكبر”. وهو قول صحيح، إلى حد كبير، لكن ليس للاعتبارات التي قدمها الكاتب فلا تفوق المكون الديني على البعد الوطني والقومي، ولا اكتفاؤه بذاته، وقطعه كل المشتركات الوطنية لأبناء الحيز الواحد هو السبب في “أن إدراج القبائل ضمن صيغة وطنية أسهل بكثير من إدراج الطوائف”، فالسبب الحقيقي كامن في طبيعة المكونين، فالقبائل مكون اجتماعي مبني على وحدة مصلحية، تستدعي التشارك وتبادل المنافع، في حين تشكل الطوائف بنى عقائدية مغلقة، يمكن أن تكون عابرة للقبلية والوطنية، مما يزيدها تعقيدا وتكلسا، تنحو إلى المفاصلة والقطيعة على خلفية امتلاك الحقيقة والصواب.
العربي الجديد