صفحات العالم

الصراع وتحولاته في سورية


الملخص التنفيذي

عن بعد، يمكن للصراع في سورية أن يُشبَّه بمسارٍ بطيء وشاق ومؤلم، تعتريه تسارعات متقطعة ونقاط تحول ظاهرية، تحت تأثير النشاط الدولي.  لكن إذا نظر المرء بقدر أكبر من التدقيق فإنه سيتحقق من خطأ هذا الانطباع.  لم تتمخض المناورات السياسية عن أكثر من حالة من الكسل واللامبالاة التي ترتدي قناع الحركة.  استعمل الغرب هذه المناورات للتظاهر بأنه يفعل أكثر مما يفعله حقيقة؛ واستغلها الروس للتظاهر بأن دعمهم للنظام السوري أقل مما هو عليه فعلاً.  وفي هذه الأثناء، وفي سورية، لا يرى المرء لا طرق مسدودة ولا تحولات مفاجئة.  في الواقع فإن كل شيء يتغير لكن بإيقاع ثابت: شكل الصراع؛ وديناميكيات المجتمع المدني؛ والعلاقات الطائفية؛ وحتى طبيعة النظام الذي تسعى المعارضة للإطاحة به.

لا تسير كل الأمور في الاتجاه الخطأ؛ فقد كانت بعض التطورات تبعث على الأمل وبشكل مفاجئ.  لكن هناك أكثر مما يكفي من النزعات المنذرة بالشؤم، وما من نزعات أكثر إثارة للقلق من النزعات التالية: نظامٌ يتحول على ما يبدو إلى ميليشيا هائلة القوة تنخرط في قتال يائس من أجل البقاء؛ وطائفة علوية  تشعر بحصار متزايد ومقتنعة بأن مصيرها مرتبط بشكل لا فكاك منه بمصير النظام؛ ومعارضة، مهددة بأشكال من التطرف، رغم الجهود البطولية في بعض الأحيان لاحتواء هذه الأشكال.  كل هذه العناصر معاً يمكن أن تكون نذيراً لحرب أهلية طويلة ومدمرة وحتى أكثر استقطاباً.

من شبه المؤكد أن النظام لن يغير أساليبه، وبالتالي فإن العبء يقع على عاتق المعارضة لتقوم بفعل لا بد أن يبدو غير معقول – بالنظر إلى جسامة معاناتها – يتمثل في معالجة ظواهر العنف الانتقامي، وأعمال القتل الطائفية والأصولية التي تزحف في صفوفها؛ وإعادة النظر بالهدف الذي وضعته لنفسها والمتمثل في استئصال كامل للنظام، والتركيز بدلاً من ذلك على إعادة تأهيل المؤسسات القائمة؛ وإعادة تقييم العلاقات مع الطائفة العلوية بشكل معمق؛ والخروج بمقترحات متطلعة إلى المستقبل حول العدالة الانتقالية، والمساءلة والعفو.

بداية بالأهم، فقد أصبحت سورية بالفعل مسرحاً للتدخل الخارجي، إلا أن التدخل كان أكثر فعالية في إدامة القتال وليس في إنهائه.  المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية، كوفي أنان، سعى للتوسط، إلا أن السوريين وغير السوريين على حدٍ سواء دعموه لأسباب متعارضة وبطريقة تخدم مصالحهم الخاصة.  ولأن نجاح المهمة كان يعتمد على إيجاد أرضية وسطية عندما كانت معظم الأطراف تتحرق رغبة بتوجيه ضربة قاضية، فإن قلة هم الذين رغبوا فعلاً بنجاح مهمته، لكن لا أحد يرغب بأن يظهر بمظهر الطرف الذي يدفنها.

إلا أن المواقف الدولية قد تتغير: حدوث مجزرة  هائلة على نحو ملفت، أو الأمر الأكثر ترجيحاً والمتمثل في استعمال النظام للأسلحة الكيميائية أو فقدان سيطرته عليها، وهو أمر يمكن يتسبب في عمل عسكري غربي؛ يمكن لتركيا أو الأردن، اللتان ترعبهما معدلات تدفق اللاجئين، أن يقيما ملاذاً آمناً على الأراضي السورية؛ وفي حالة التدخل الغربي، يمكن لإيران أو حزب الله أن يردا نيابة عن النظام.  حتى الآن، تبقى مثل هذه السيناريوهات افتراضية بشكل كامل.  الحد الأدنى في هذه المرحلة هو أن الصراع سيستمر وسيخضع لتأثير أطراف خارجية لكن هذه الأطراف لن تحدد نهاية الصراع؛ فهذا الدور الذي لا يمكن أن يُحسد أحد عليه سيلعبه السوريون أنفسهم.

ولهذا السبب فإن الديناميكيات الأكثر أهمية هي تلك التي تتجلى على الأرض.  من المغري أن يقول المرء إن أداء النظام تميز ببرودة الدم وعدم التمييز من البداية، إلا أن الحال ليس كذلك.  لقد مر الصراع بعدة مراحل: من التنازلات السياسية التي قدمها النظام، سواء التي منحها وهو متردد (والتي أطلقت العنان لمطالب شعبية أكبر) أو تلك التي كانت مصحوبة بعمليات قمع وحشية (والتي قوضت مصداقية تلك التنازلات)؛ وصولاً إلى ما يسمى بالحل الأمني (والذي، في سعيه لإجبار مجموعات كاملة من السكان على الاستسلام، أثار حيوية المعارضة ودفعها نحو المقاومة  المسلحة) ؛ وأخيراً، إلى ما يسمى بالحل العسكري (سياسة الأرض المحروقة والتدمير الشامل والنهب الذي حوّل ما كان يعتبر جيشاً وطنياً إلى قوة احتلال تواجه الاستياء والإدانة على نطاق واسع).

مع كل مرحلة، كان النظام يحرق جسراً آخر، بشكل لا يترك له مجالاً للعودة إلى الوراء ولا يوفر له مخرجاً.  وكما أن الحل السياسي قوض مصداقية السياسيين والحل الأمني أضعف قدرة الأجهزة الأمنية على العمل، فإن الحل العسكري قوض مصداقية الجيش.

لقد تطورت الديناميكيات الاجتماعية أيضاً إلى وضع تجلى فيه الجيد، والسيء والبشع على حد سواء.  اثبت الجانب الجيد بأنه أفضل مما كان متوقعاً؛ حيث عبأ المجتمع المدني النشط والشجاع والمقاوم شبكات للمساعدة وأبقى تحت السيطرة بعض أسوأ أشكال العنف التي يمكن أن تلجأ إليها أي معارضة مسلحة تعمل في بيئة موبوءة.  أخفقت الأعمال الوحشية للنظام في قمع الاحتجاجات الشعبية، وفي واقع الحال جاء رد النظام بمثابة اللقاح لها.  لقد فوجئت المعارضة السورية نفسها أكثر من أي طرف آخر بإعادة اكتشافها لإحساس واسع بالتضامن، والكرامة والافتخار على الصعيدين المحلي والوطني.

أما الجانب السيء الذي يشمل خصائص مثل الطائفية، والأصولية، والمقاتلين الجهاديين أو الأجانب؛ وهو ما كان محتوماً على أي معركة طويلة أن تجتذبه وتُظهره، وقد جاء أداء النظام ليفاقمه.  لقد تبنت عدة مجموعات معارضة خطاباً وسلوكاً أصولياً على نحو متزايد، وهو مسار يعكس التحول المهلك والأكثر طائفية للصراع؛ وفقدان الثقة الشعبية بالغرب، إضافة إلى التعهدات المتزايدة بتقديم الدعم من دول الخليج العربية مثل السعودية وقطر.  كل هذا يمكن أن يكون أسوأ، وكان يُتوقع أن يكون أسوأ.  في التجاذب الحاصل بين شياطين المجتمع وقدرته على مقاومة هذه الشياطين، فإن الوجه الذي يبعث على التفاؤل أكثر من غيره كان وعي السوريين المثير للإعجاب في بعض الأحيان، واستيعابهم للمخاطر التي تنتظرهم ومحاولاتهم لتصحيح المسار.  إلا أن كل هذا لا يبرر الرضا عن الوضع القائم.

السبب هو أن البشع مرعب حقاً.  منذ بداية الأزمة، اتسعت الفجوة بين المؤيدين للنظام والمؤيدين للمعارضة بشكل شاسع.  كما لو كان هؤلاء يعيشون في عالمين متوازيين، فإن كل طرف يُقصي الآخر ويقاطعه ويقابله فقط في المعركة.  بين المتمردين المسلحين، والنشطاء والمحتجين، تعود التحاملات العميقة والقديمة ضد العلويين (وضد الشيعة) إلى الظهور بشكل أكثر حدة بمرور الوقت؛ حيث تُعتَبر أساليب الطائفة العلوية أساليب غريبة، وعاداتها بدائية ووجودها غير طبيعي.  وعلى نحو مماثل، فعند استحضار مصير أعدائهم، فإن حتى العلويين العاديين يمكن أن يلجأوا إلى استعمال لغة تبعث القشعريرة في الجسد.

إن مفهوم كل طرف للماضي، والحاضر والمستقبل يقع على النقيض تماماً من مفهوم الطرف الآخر.  تنزع دوائر المعارضة إلى التركيز على المظالم التي ارتكبها نظام سيطرت عليه أقلية علوية؛ ويعتبرون أن مضطهديهم الحاليين هم غالباً قوات الأمن العلويين؛ ويحتفون بثقافة أعادوا اكتشافها من التضامن والتلاحم الاجتماعي؛ ويتطلعون إلى اليوم الذي تنهار فيه الهيكلية الحالية للسلطة.

العلويون بشكل عام يسترجعون قروناً من التمييز والاضطهاد على أيدي حكام ونخب مدينية بعيدين عنهم، والذين يتحدرون غالباً من الأغلبية السنية.  لا يستطيعون أن يروا شيئاً من الشعور المستعاد من الرفاقية التي أقصوا عنها رغم خسائرهم الفادحة وآلامهم الهائلة.  وسواء شاركوا في الأعمال الوحشية للنظام أو لا فإنهم يتوقعون أن يدفعوا ثمناً باهظاً إذا تمت الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، حيث سيتم القضاء بشكل كامل على الأجهزة الأمنية القائمة؛ ومن المحتمل أن يتم حظر حزب البعث؛ ومن المحتمل أن تجري عمليات تطهير في الوظائف الإدارية. على النقيض من الفهم السائد، فإن النظام السوري ليس نظاماً علوياً، وتلك الطائفة لا تعيش حياة رغيدة.  لكنه نظام يعود له الفضل في تمكين العلويين من تجاوز مكانتهم كمواطنين من الدرجة الثانية ونجاتهم من تاريخ حافل بالمضايقات والمذابح.  قد يفكر عناصر المعارضة بالنجاح والانتصار.  أما العلويون فهم قلقون من أنهم سيتعرضون لعملية استئصال جماعي.

من بين جميع التغيرات الجارية، قد يكون أكثرها أهمية والأقل فهماً هو الحالة التي أصبح عليها النظام.  من شبه المؤكد أن النظام الذي كان موجوداً في بداية الصراع  ما كان ليتحمل عملية قتل مسؤوليه الكبار في قلب معقله التقليدي؛ ومعارك الشوارع في دمشق، وحلب وسلسلة من البلدات الأخرى؛ وخسارة معابر حدودية هامة مع تركيا والعراق؛ وحدوث كل ذلك وسط حالة من الدمار الاقتصادي شبه الكامل والمقاطعة الدبلوماسية.  إن قدرة النظام، بعد عام ونصف، ليس على تحمل تلك الضربات فحسب بل على الرد بقوة وحيوية يبعث برسالة جديرة بالتفكير.

مع تفكك العمود الفقري السياسي للنظام، فإنه تقلّص إلى الجهاز القمعي الموجود داخله، في حين يتحول هذا الجهاز تدريجياً إلى كيان أشبه بالميليشيا منه بالجيش من حيث التركيب والروح القتالية.  لقد تقلص النظام بشكل أساسي إلى فصيل مركزي متلاحم بشكل عام يقاتل في صراعٍ يتزايد مرارة وشراسة للمحافظة على البقاء الجماعي.  إنه يتحول بطريقة تجعله يقاوم الإخفاقات السياسية والعسكرية، وغير مبالٍ بالضغوط وغير قادر على التفاوض.  إن مكاسب المعارضة ترعب العلويين، الذين يقفون بشكل أكثر ثباتاً إلى جانب النظام.  الانشقاقات تعزز مواقع أولئك الذين ظلوا موالين.  يمكن تجاهل خسارة النظام لبعض المناطق مقابل التركيز على المناطق الجغرافية “المفيدة”.  أدت العقوبات إلى نشوء اقتصاد عنف حيث عمليات السلب والنهب والتهريب تضمن الاكتفاء الذاتي ولا تخضع لتأثير العقوبات.  ما من شك في أن النظام قد ضعف.  لكنه ضعف بطريقة تعزز من قدرته على البقاء.  لهذه التحولات المتعددة تداعيات عملية.  أولاً، ومن وجهة نظر عسكرية، فقد يصبح أكثر وضوحاً مع مرور كل يوم أن حصيلة الصراع ستكون أكثر فوضوية مما توقعه أيٌ من الطرفين.  لن ينجح النظام في قمع الجماعات المسلحة؛ بل على العكس فإن ممارساته الشرسة  ضمنت انتساب مقاتلين جدد مستعدين للقتال إلى جانب المعارضة بأي ثمن.  وبالمقابل، يبدو أن النظام، عمداً، وخصومه، من خلال إهمالهم، ضمنا أن تشعر شريحة واسعة من الطائفة العلوية بأن لا خيار لديها سوى أن تَقتل أو تُقتل.

ثانياً، لا يمكن التوقع شيء أكثر من النظام – نظام لم يكن بطبيعته دولة مؤسساتية، ولم يعد كياناً سياسياً حقيقياً – في حين لم يعد في موقع يمكنه المساومة، أو الاستجابة للضغوط أو الإغراءات أو تقديم حل قابل للحياة.  وهذا يعني أن مجموعة الإجراءات الدولية التقليدية، من الانتقادات العلنية إلى الإدانة، ومن التهديدات إلى العقوبات، لن تنجح.  وفي حين ما يزال بإمكان المرء أن يأمل بحصول تغيير جذري، تلك اللحظة التي ينهار فيها النظام أو يستسلم، فإن هذا الأمل ليس كبيراً أو جذاباً بأي حال.

ثالثاً، على المعارضة أن تعيد النظر بالتعامل مع أنصار النظام بشكل عام والعلويين بشكل خاص، من حيث الطريقة التي تتصرف وتتحدث وتخطط بها.  لم تسجل حتى الآن أية مذبحة غير تمييزية ضد العلويين. ولكن بالنظر إلى الديناميكيات الحالية، فإن من شبه المؤكد أن مذبحة كتلك ستحدث.  لقد دأبت المعارضة على التقليل من أهمية الخصائص المنفّرة فيها: إنها تحمّل مسؤولية تصاعد النزعة الطائفية لتكتيكات النظام المسببة للانقسامات؛ وتتجاهل اللهجة الدينية، إن لم تكن الأصولية في صفوفها، بوصفها آثاراً جانبية للأزمة يمكن تصحيحها؛ وتعزو الجرائم المزعومة للجماعات المسلحة لمجرد انعدام الانضباط، وتتجاهل الوجود الواضح بشكل متزايد للجهاديين والمقاتلين الأجانب ولو بشكل محدود.  هناك أسباب منطقية لظهور هذه النزعات؛ لكن ما من تبرير للتقليل من شأنها.  إن الإخفاق في إيجاد معالجة جادة الآن يمكن أن يستحوذ على مستقبل جميع السوريين لاحقاً.  إن مخاطر الأعمال الانتقامية الطائفية واسعة النطاق، وأعمال القتل غير التمييزي والنزوح على نطاق واسع حقيقية مرعبة.

كما أن الخطاب المستعمل مهم، وكذلك الخطط الانتقالية.  عندما تقول المعارضة بأنها ستطيح بالنظام، فإن ما يسمعه العلويون هو أن مصدر دخلهم ووظائفهم وحمايتهم الجسدية ستتم إزالته.  عندما تستحضر المعارضة إزالة النظام وجميع مؤسساته، فإن العلويين يسمعون في ذلك إعادتهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية.  عندما تتحدث المعارضة عن العدالة والمساءلة يسمع العلويون تهديداً بالانتقام الجماعي.  وفي جميع هذه القضايا، على المعارضة أن تنخرط في محاولات مكثفة لتوضيح معانيها، وتطمين الأقليات وإعادة تقييم نطاق التغييرات التي تعتزم إحداثها وسرعتها.

بالنسبة لأولئك السوريين الذين تحملوا سبعة عشر شهراً من القمع على أيدي نظام شرس، والذين يصعب عليهم مقاومة غزيرة الانتقام بشكل يمكن تفهمه، فإن هذه الأسئلة قد تبدو لا مبالية وغير ذات صلة ومؤذية لمشاعرهم ربما.  إلا أن طرح هذه الأسئلة ضروري إذا أُريد للمرحلة الانتقالية التي يكافحون من أجلها أن تستحق التضحيات التي بذولها للوصول إليها.

دمشق/بروكسل، 1 آب/أغسطس 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى