الضحك/ أحمد بيضون
ما كان من الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون إلا أن استقبل بزوغَ القرن العشرين بكتابٍ صغير بديع جعل عنوانَه «الضحك» وجعل له عنواناً ثانياً «رسالةٌ في دلالة الهزل». وذاك أنه لم يكن يريد أن يتناول أيّ ضحكٍ كان بل أراد «الهزل» موضوعاً له وجعل غايته أن يتوصّل إلى حصرٍ لكيفيّات «صناعة الهزلي». والهزل ههنا هو، على سبيل المثال لا الحصر، ذاك الذي نجعله صفةً للمسرح الهزلي، بأنواعه الكثيرة، أو – على الأعمّ – للأدب الهزلي. صدر الكتاب إذن سنة 1900 وكان مؤلّفاً من مقالاتٍ ثلاث نُشِرَت، قُبَيل جمعها، في مجلّة كانت تدعى «مجلّة باريس».
يوغل برغسون في تحليل هذه الكتلة من الأعمال وما تعرضه أو تستوحيه من أفعالٍ وأقوال إيغال المغامر غير المتهيب تشعّبَ السبل وبُعدَ المَطالب وشَبَهَ رحلته الكثيرة المحطّات بالسَفَر في متاهة. وهو يجعل الهزل، بادئ بدء، في أصنافٍ كبرى تَبَعاً لمادّة الهزل أو مستنده. فيفرّق أوّلاً ما بين الهزل في الصور والهزل في الحركات ثم يفرّق، في فصلٍ تالٍ، ما بين الموقف الهزليّ والكلام الهزلي. ثم نعلم أنه إنما ابتغى الوصول إلى غايةٍ أبعد منالاً هي حصر مقوّمات الهزل الذي يقترن ببعض من طبائع البشر: البخل، مثلاً، أو الغرور…
وتتمثّل خطّة الفيلسوف في حصر نوع من الداعي العامّ للضحك يعرض له أوّلاً في حالات الهزل البسيطة أي، على الخصوص، في حركات أو عبارات يقع عليها في نصوص مسرحية أو يستذكرها من مشاهد من الحياة اليومية. هذا أوّلاً. ثم إن المؤلّف يقع، في المستوى الأعلى من الهزل، أي في ذاك الملازم للطبائع، على هذا الداعي نفسه وقد تحوّل تحوّلاً عميقاً بمقتضى سياقه الجديد ولكن بقي فيه شيء جوهري من أصله: شيء يبيح الخلوص إلى نظريةٍ عامّة للضحك.
وما يراه برغسون مشتركاً بين ما يتناوله من مضحكات، على اختلاف مصادرها، إنما هو دخول الآلي في الحيّ واستبداده به. فيبدو لنا مضحكاً، مثلاً، مواصلة شخص من الأشخاص كلاماً أوعملاً انقضت مناسبته أو فقد مسوّغه وذاك بسبب غفلة الشخص عن تغيير طرأ فأدّى إلى هذا الفقدان أو إلى ذاك الانقضاء. يواصل الشخص المشار إليه إذن أداء حركات تصبح مضحكة أو يمضي في حديث يغدو مضحكاً مدفوعاً بقوّةٍ آلية، بالعادة مثلاً، بعد أن انسحب من محيطه ما كان يجعل الحركات ذات غاية أو من كان يتيح للعبارات من يسمع ويفهم.
لم تكن السينما قد انتشرت واستقرّت مرجعاً لبرغسون عند صدور كتابه. كان مصدر أمثلته المسرح والحياة اليومية والرواية أحيانًا وعلى الأخص دون كيخوتي بطبيعة الحال. ولكن السينما ستأتي بعد سنوات من الكتاب بمشاهد لا يطمح المسرح إلى كمالها تزكّي نظرية «الضحك» البرغسونية. سنرى شارلي شابلن في «الأزمنة الحديثة»، مثلاً، يُضحك مشاهديه لأنه يواصل في خارج المصنع حركاتٍ آليةً استولت عليه في المصنع فيعامل أزراراً يقع عليها بصره على صدر امرأة على أنها مَحازق ينبغي شدّها بالمفتاح المناسب! ذاك مثالٌ لاستبداد الآليّ بالحيّ بما هو باعث (يراه برغسون عامّاً) للضحك ومفتاح (عامّ ايضاً) لصناعة الهزل.
هذا وتبدو «الغفلة» مصطلحاً ذا أهمّية في مبنى هذا التعليل البرغسوني للضحك. فالحركات المضحكة هي تلك التي تغفل عن تغيير في المحيط أفقدها مسوّغَها وغايتَها المألوفَين. والكلام الهزلي هو ذاك الذي تجترحه اللغة في غفلة منها عن نفسها: عن وظائفها المتمثلة بالتواصل والتعبير أي بإنشاء صلة بالغير وبالخارج تستجيب لترسيمةٍ متعارفٍ عليها… فإذ تمضي اللغة في إنتاج الكلام نفسه بعد تغييرٍ قَطَع الصلةَ أو أخلّ بالترسيمة يصبح الكلامُ هزلاً والضحكُ محتمَلاً. مرّةً أخرى، يتجاوز إدراكُ هذه الآلية مجرّدَ التعرّض للضحك أو للإضحاك إذ هو يستوي وسيلة يمكن اعتمادها إلى ما يسمّيه برغسون «صناعة الهزل». غير أن العلم بالقاعدة لا يغني من شاء اعتمادها عن جودة القريحة ولا عن الدُرْبة. وهاتان تقعان على «حالاتٍ» يتمثّل فيها الهزلُ ويُستدرَج الضحكُ لا تعدّ ولا تحصى. وهذا على الرغم من وحدة المصدر العامّ أو القاعدة. وأما اللجوء إلى التكرار: تكرارِ ما جاء به الغير أو ما جاء به المُعيدُ نفسه من قبلُ دونما تجديد فيه أو في سياقه فإنما هو الطريق المستقيم إلى الرداءة.
عند الوصول إلى ما يسمّيه برغسون «الهزل في الطبائع»، يحضُر المجتمع ليحتلّ ساحة البحث كلّها بعد أن كان حضوره خَفِراً في تناول الفيلسوف صيغَ الهزل «البسيطة» أو «الأوّلية». يحضر المجتمع، ولم يكن قد غاب، لأن الطبع مشتمِلٌ على ما يبدو من صور الهزل في الصور والحركات وفي الكلام والمواقف اشتمالَ المجتمع على أصحاب الطبائع وما يبدر منهم من هذا كلّه. نحن، مع الهزل في الطبائع، على الصعيد الأرفع ومع الحبكة الأغنى. نبقى محتاجين ههنا، ولا ريب، إلى استذكار الآلي متسرّباً إلى الحيّ ومستبدّاً به. فالطبعُ المفْرِطُ يصبح هو نفسه آلةً لإنتاج ما هو آليٌ من الكلام ومن التصرّفات ولنَشْر هذا كلّه في ساحة الحياة الاجتماعية أي في وسطٍ يستهجنه. والاستهجانُ حيوي هنا ولكن لا ينبغي له أن يكون مفرطاً فيَجْنَحَ بأصحابه إلى الغضب لا إلى الضحك. شرط الضحك أن يكون الاستهجان خفيفاً أو معتدلاً أي أن يتبدّى الشطط البالغ في الطبع من غير أن يحدث ضرراً أو من غير أن يكون الضرر المترتّب عليه جسيماً. فإذا تحصّل الضحك من تجلّيات الطبع الناشز مقيّدةً بهذا الشرط أمكن اعتبار الضحك، في ما يرى برغسون، عقوبةً رهيفةً يُنْزِلها المجتمع بنوع بعينه من أنواع الخروج على معاييره…
لا يسوغ لقارئٍ من بلادنا يقرأ هذا الكتاب الآسر – على شيء من الصعوبة – أن يجتنب السؤال الذي يناسبه: ما الذي يحدو بفيلسوف فرنسي أن يستقبل القرن العشرين بتأمّلٍ شاقّ في الضحك؟ ما الذي يحمله على الغوص الدقيق، مثلاً، إلى التمييز المُحْكَم بين «الفُكاهة» و»السخرية»؟ الكتاب نفسه لا يُضحك والأمثلة التي يوردها لا يتجاوز ما تستدعيه الابتسام المكتوم. وقد نحّى برغسون لينشغل بالضحك أحوالَ بلادٍ وقارّةٍ كانت أبعدَ ما تكون عن الخمول أو عن الاستقرار. نحّى فرنسا قضية دريفوس ونحّى أوروبا الإمبراطوريات المتحاسدة والتسلّح المتقابل ونُذُر الثورات المقبلة. وكان فرويد قد نشر، بدوره، قبل عامٍ واحد من ظهور العمل البرغسوني كتابه العظيم في الأحلام… ليس لهذا النوع من الكتب أدنى مقابل في الثقافة العربية المعاصرة. وهذا جديرٌ جدّاً بأن يوقَف عنده.
الذي يحمل على تكريس الجهود الشديدة أو المديدة للتأمّل في موضوعاتٍ من قبيل الضحك أو الحلم أو الرغبة… هو الموقف الإنسانوي بمعناه الأعمّ. وكان قد مضى على تكوّنه في الفكر الأوروبي أربعةُ قرونٍ في مطلع القرن العشرين وكانت له إرهاصاتٌ هناك سبقت هذه المدّة. هو ذاك الموقف الذي لا يحدّ الكلام في الوجود البشري بقُطْبَي الخير والشرّ ناهيك بقُطْبَي الحلال والحرام. هو يجد لهذا الكلام أقطاباً ومداراتٍ كثيرةً أخرى. ومصدر هذه الكثرة التسليمُ بجدارة الإنسان بأن يعرف. ومصدرها الحاجة أيضاً إلى معرفة الإنسان لأجل سياسة الإنسان وتدبيره. في ديارنا هذه انقطع من قرون كثيرة ما كان من تراث مثّلَه الأدب (بمعناه العبّاسي) ومثّلَته الفلسفة وكانت هذه المشاغل بعض مشاغله.
في عصرنا هذا، بقيت الأقطاب التي هي، في الأصل، لوازم الدين وكانت كافيةً لإخضاع البشر. لم يكن الإنسان هو القيمة ليُعْرَف بتجلّيات وجوده كافّة. والسياسة نفسها لم تصبح رهيفةً بحيث ترسو على معرفة ضافية ورهيفة للبشر. بقيت السياسة، في معظم أحوالها وحالاتها، إخضاعاً فجّاً لا يحتاج إلا إلى القوّة وإلى معارفَ فجّةٍ على غراره وإلى مِراسٍ ينْتِجُ قواعده في مواقع مظلمة.
لذا لم تظهرالحاجة إلى ما يشبه معرفة الضحك أو ما جرى مجراه ممّا يمنح كينونة البشر ما لها من عمقٍ وسعة.
كاتب لبناني
القدس العربي