الضعفاء لا يحتاجون من يتآمر عليهم/ ماجد كيالي
لا شك أن عالم العلاقات والصراعات السياسية، الوطنية والإقليمية والدولية، لا يخلو من التآمر، بمعنى وجود خطط لدى طرف، أو عدة أطراف، لتحقيق أهداف معينة، ضد طرف آخر، بيد أن ما ينبغي الانتباه إليه أن هذه الخطط لا يقدّر لها الخروج من المكاتب إلا إذا توفّرت لأصحابها القوة اللازمة لفرضها، وتحويلها إلى واقع، أو تحيّن الفرص المناسبة لذلك، ما يعني أن الطرف الآخر قد يسهّل، أو يمكّن، المؤامرة منه، ما يفيد بأن المؤامرة ليست قدراً لا يمكن تجنبه، أو التقليل من آثاره، بخاصة في الحالة الثانية.
المشكلة هنا لا تتعلق بالمؤامرة وإنما في التفكير بالواقع حصراً بواسطة عقلية المؤامرة، وهي عقلية عمومية تتأسس على التخيّل وتقسيم العالم، بطريقة مبسطة ومنمطة، إلى أخيار وأشرار. وإذ توحي هذه العقلية بوجود عالم سري وقوى غامضة ومؤامرات خفيّة فإنها توحي، أيضاً، بنقيض ذلك، بادعائها معرفة كل شيء، وأن ما يصدر عنها هو بمثابة حقيقة مطلقة لا تتزعزع. وللإنصاف، فإن هذه العقلية لا تصدر من فراغ لكنها بدل تحليل الواقع بإشكالياته وتناقضاته وتعقيداته تذهب نحو تشجيع التخيّل، وعوض تحديد المشكلات الذاتية، وتعيين أسبابها الداخلية، تروّج لإحالتها إلى المؤامرة الخارجية. والغالب أن هذا كله يأتي في سياق تغطية أصحاب هذه العقلية مداهنتهم للسلطات المهيمنة، بدعوى التركيز في مواجهة العدو الخارجي.
تكمن مشكلة أصحاب عقلية المؤامرة في تفصيل بسيط مفاده أنه لا توجد مؤامرات خفية حقاً، لا سيما في أوضاعنا العربية، فكل شيء معروف، أي طبيعة القوى التي تتصارع على العالم العربي، والتحديات والمخاطر التي تواجه المجتمعات العربية، ومكامن النقص والعطب فيها، حتى أن ثمة مؤتمرات وندوات نظمت لعرضها ومناقشتها، فضلاً عن نشرها في كتب ووسائل الإعلام. هذا يشمل اتفاقية «سايكس بيكو»، ووعد بلفور، وخطط إقامة إسرائيل، منذ عقد المؤتمر الصهيوني الأول (1898)، وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق (2003)، وما بعده.
هكذا يمكن التذكير بكثير من هذه المؤامرات، أو الخطط، فمثلاً ثمة ما يسمى «اللجنة الثلاثية»، التي أدارها زبينغيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي (بعد كيسنجر) في عهد الرئيس كارتر (1977 – 1981)، والتي شكّلت بدفع من ديفيد روكفلر (مطلع السبعينيات)، وضمّت ساسة وقادة رأي من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وقيل إنها تهدف إلى تعزيز السيطرة على العالم وضمنه العالم العربي، كأن هذا أمر سري أو مستغرب، أو كأن هكذا لجنة تزيد أو تنقص من ذلك. وقد يفيد هنا التنويه إلى تفصيل آخر، وهو أن بريجنسكي كان نشر كتاباً عنوانه: «بين عصرين – أميركا والعصر التكنتروني» (1970)، تحدث فيه صراحة عن قرب انهيار الاتحاد السوفياتي (قبل حصول ذلك بعقدين)، بحكم إخفاقه في ثلاث مسائل: توق الناس للحرية، والمسألة القومية، والتقدم التقني، وعدم قدرته على مواجهة تحدي النموذج الذي تمثله الولايات المتحدة، في هذه المسائل، وهو ما حصل بطريقة مفاجئة وسلمية.
وفي ذات السياق يمكن الحديث عن كتاب ريتشارد نيكسون: «الفرصة السانحة»، الذي اعتبر فيه (أوائل التسعينات) أن الظروف باتت سانحة للولايات المتحدة لتعزيز سيطرتها كقطب أوحد على العالم، ولا سيما على الشرق الأوسط، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ولعل أبرز هذه المخططات هي تلك التي نشرها وقدمها «المحافظون الجدد»، بخاصة تلك المتعلقة بالمنطقة العربية، مستغلين حدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والتي تتضمن ضرورة استخدام الولايات المتحدة القوة لفرض الترتيبات التي تتلاءم مع مصالحها (ومصالح إسرائيل)، إلى حد الدعوة صراحة إلى إعادة السيطرة على منابع النفط، باعتبار أن العرب لا يملكون أي فضل في اكتشافه أو استخراجه أو تكريره، وفق رأي أحدهم. ففي هذا السياق جاءت دعوة لوران مورافيتش (2002)، وهو من خبراء معهد «راند» للأبحاث الاستراتيجية (مرتبط بوزارة الدفاع الأميركية)، لاعتبار المملكة العربية السعودية بمثابة «عدو» للولايات المتحدة، والتعامل معها على هذا الأساس. وهي دعوة قدمت في وثيقة طرحها «مجلس سياسة الدفاع»، في البنتاغون (أواخر 2002)، اعتبرت أن «غزو العراق سيكون الهدف التكتيكي للحملة، وستكون السعودية الهدف الاستراتيجي، أما مصر فستكون الجائزة الكبرى»!
ومعلوم أن تيار «المحافظين الجدد» عبر عن هذه السياسات علناً وبجلافة، فيما سمي «مشروع القرن الأميركي»، الذي اشتغلوا عليه عبر تحكمهم بالإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش (2001-2009)، وبنفوذهم في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع، ومراكز الدراسات الاستراتيجية. وكان أبرز هؤلاء ريتشارد بيرل رئيس «مجلس سياسة الدفاع» في البنتاغون (مجلس استشاري) وبول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع في عهد بوش الابن، ودوغلاس فايث (وزارة الدفاع) وروبرت كاغان، وزلمان خليل زاده (البيت الأبيض)، ووليام كريستول، وإليوت أبرامز (مجلس الأمن القومي)، وجون بولتون (وزارة الخارجية). وكانت دعاوى هؤلاء تتركز على أهمية استغلال أميركا جبروتها العسكري لفرض ما تريد في العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط، ومنع صعود أي قوة مناهضة لها، واستخدام الحرب الوقائية، والتدخلات العسكرية، وذلك بدعوى محاربة الإرهاب ونشر الديموقراطية.
أيضاً، وفي هذه المناخات، كان الرئيس بوش الابن طرح خطته المتعلقة بـ «نشر الديموقراطية» في العالم العربي (2002)، لفرض الإصلاح السياسي فيه، ثم خطته لإقامة «الشرق الأوسط الكبير» (2003)، وهذه غير خطة «الشرق الأوسط الجديد»، التي طرحت إبان إدارة كلينتون في التسعينيات، وكلها خطط علنية ومنشورة، بل ونوقشت مع الحكومات العربية مباشرة، وطرحت في مؤتمرات القمم العربية، ونظمت لها ورش عمل وندوات.
أما في ما يخص إسرائيل، فيمكن ذكر خطط كثيرة، وبالأخص خطتين رئيستين ولافتتين، أولاهما: «استراتيجية إسرائيل في الثمانينات» (1982)، وثانيتهما: «استراتيجية جديدة لنتانياهو» (1996)، وقد نشرت كل منهما في حينها. والاثنتان تتحدثان عن أهمية إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة، بالاستفادة من ضعف الدولة والمجتمع العربيين، والتقسيمات الطائفية والمذهبية وانتشار الفقر وغياب الديموقراطية، باعتبار أن إسرائيل المتفوقة والمتميزة يمكنها أن تفرض السلام الذي تريده. (تفصيل هاتين الخطتين المهمتين يحتاج إلى حديث آخر).
يستنتج من هذا العرض أنه لا توجد مؤامرات أو خطط سرية، فكل شيء علني تقريباً، فالضعفاء لا يحتاج أحد للتآمر عليهم. ثم إن اعتبار وجهات النظر أو الدراسات، الصادرة عن مسؤولين أو صناع رأي أو مراكز أبحاث في الدول الغربية، بمثابة خطط للتنفيذ، ينم عن جهل بهذه الدول، وآليات عملها، فهي تعج بمراكز الدراسات والجامعات، التي تنتج عشرات الخطط والخيارات لتضعها أمام صناع القرار، من دون أن يعني ذلك الأخذ بها، او إمكان تحقيقها، ناهيك بأن ثمة وجهات نظر أخرى متباينة ومتناقضة في هذه الدول. فوق هذا وذاك فإن أصحاب التفكير بعقلية المؤامرة يفوتهم أن الغرب لا ينشغل فقط بالمؤامرات وبالهيمنة، وإنما هو ينشغل أيضاً بالعلوم والتكنولوجيا والثقافة، وبتطوير مجتمعاته واقتصادياته.
القصد أن المشكلة تكمن عندنا، أولاً، لأن النظم التسلطية هي التي تتحمل المسؤولية عن تردي أحوالنا، وتهميش مجتمعاتنا، بإعاقتها قيام دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، التي يمكن أن تؤسس لمجتمعات حية وفاعلة. وهي بسياساتها المتعلقة بمصادرة الحريات والحقوق وتغول الأجهزة الأمنية وشيوع الفساد، وتردي مستوى التعليم والخدمات والبنى التحتية، وضعف العلاقات البينية العربية أسهمت في إضعاف العالم العربي إزاء الخارج. وثانياً، لأن المعنيين عندنا يعرفون عن الخطط المذكورة، ولا يفعلون شيئاً لصدها، أو للتقليل من مخاطرها. بل أنهم يبدون تجاوباً مع الضغوط الخارجية للإصلاح، والتي كانت تحدثت عنها «تقارير التنمية الإنسانية العربية»، في حين يصدون المطالبات الداخلية. وقد حصل أن مؤتمرات القمة في العقد الماضي استجابت لمطالب الإدارة الأميركية بالإصلاح السياسي، لكن تم التراجع عن ذلك بعد انتهاء ولاية الرئيس بوش، وبقيت التوصيات حبراً على ورق، ومعها وعود التمكين من الحرية والتنمية والتعليم وإصلاح نظم الحكم. وكان النظام العربي توحد في مواجهة مشروعي «الشرق الأوسط الجديد»، و»الشرق الأوسط الكبير»، إبان ولايتي كلينتون وبوش، وأفشلهما، فقط لأنهما يتهددان طبيعة الأنظمة، لكنه لم يفعل المثل إزاء التحديات والمخاطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتهدد العالم العربي، والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه.
في الغضون لا ننسى أن لدينا، كما في الغرب، من يفكر بالخلافة وبالإمبراطورية الإسلامية، أو العربية، وحتى بالعودة إلى الأندلس وقبرص ومالطة، لكن من دون صلة بالواقع ولا بأية أمور أخرى.
* كاتب فلسطيني
الحياة