الطائفية والمواطنة/ حسين العودات
نشأت الطائفية وفرقها (التي يتجاوز عددها اثنتين وسبعين فرقة) نتيجة اختلافات سياسية صرفة وربما خلافات فقط، ولم تكن في نشأتها الأولى سوى تحزب لهذا القائد السياسي أو ذاك، ثم قامت حروب بين التيارات السياسية المتصارعة للأسباب نفسها (أي أسباب التحزب)، وكان بديهياً أن هذه الصراعات لا معنى لها ولا سبب جديا ومقنعا في إشعالها، سوى هذا التحزب المحلي لشخص أو لقائد مجموعة أو تيار، ولذلك أخذت كل طائفة تبحث عن مبرر لها غير هذا المبرر المتهافت، فاهتدت إلى اللبوس الفقهي الديني المختلف عن الآخر والمصطنع في كثير من الحالات، وحاولت بذل جهود كبيرة وكثيفة لتشكيل كيان ديني يعطيها شرعية وخاصية ليست لسواها. كما صار كل تيار سياسي يشكل طائفة، أو يتبنى طائفة. ولأن بناء هذه الطوائف كان هشاً ينطلق من اجتهادات البشر ومصالحهم، فقد انقسمت الطوائف بدورها إلى طوائف أصغر. وأدى الانشقاق إلى انشقاقات حتى بلغت العدد المشار إليه، وأخذت كل واحدة من هذه الطوائف تسعى لتقيم دولة تحت رعايتها أو بقيادتها، فتكرست الطائفية السياسية، وقامت دولها أو دويلاتها في كل مكان وخلال مراحل التاريخ المتعددة، وتعززت في الوقت نفسه المرجعيات الثانوية ما قبل الوطنية كالإقليمية والمذهبية والعشائرية وغيرها. وشهد التاريخ العربي والإسلامي قيام الدويلات العديدة المتزامنة أو المتتابعة كالدويلات البويهية والفاطمية والأيوبية والسلجوقية والصفوية وقبلها وبما يشبهها من دول المماليك المتعددة، وتداخلت الطوائف بالدول ككيانات سياسية، واحتلت المرجعية الطائفية مقعدها كأم المرجعيات في بعض البلدان على حساب مرجعية المواطنة.
استغل بعض رجال السياسة وقادة القوى الاجتماعية وأصحاب المصالح والطامحون للحكم والسلطة الطائفية وعمقوا انتماء أتباعها لها، وكان هؤلاء المستغلون سعداء بتلقفها من قبل الاتباع واللعب بها، وقطف الامتيازات نتيجة ذلك. واستمرأوا اللعبة الطائفية حتى أنهم تخلوا عن «الألعاب» والأساليب الأخرى، واكتفوا بهذه «اللعبة» لأنها أكثر فائدة وسهولة وربما أكثر تبريراً لأخطائهم وتسلطهم وفسادهم، وولغوا بالتحريض الطائفي محاولين تحويل الطائفية إلى أيديولوجيا، وجعلوها وسيلة للربح والتسلط والسلطة والقمع وغيرها.
تنبغي الإشارة إلى عدد من المعايير عند الحديث عن الطائفية باعتبارها الأسباب التي جعلت منها عاملا ًمؤثراً في التاريخ العربي، وتلقي ضوءاً على الصراعات العربية الداخلية منذ فجر الإسلام حتى أيامنا، وعلى دورها الفعال في إقامة الدويلات وتعدد التيارات السياسية المعارضة والموالية بما يشبه الأحزاب في عصرنا. ذلك أن قادة الطوائف كانوا وما زالوا يستغلون الإيمان الشعبي «العجائزي» لدى العامة ليوظفوا جماهير المؤمنين بالطائفة في حروبهم، سعياً للوصول إلى السلطة أو الجاه أو المال. وقد وجد هؤلاء الذين يتلاعبون بالطائفية ويتكسبون من ورائها ويسترزقون منها مناخاً ملائماً في ذلك الوقت، حيث كانت الدولة ومرجعياتها رخوة ومختلفة عما هي عليه الآن، ولم تكن مرجعية المواطنة رئيسة حتى ولا معروفة، بل كانت المرجعيات بدائية تقسم المجتمع إلى مجتمعات والشعب إلى شعوب. وفي الحالات كلها كان المستفيد من تغوّل الطائفية ليس الفئات الفقيرة وجموع المؤمنين، إنما الطبقة العليا من الطائفة والمتنفذين فيها، أما «العامة» وجماهير الفقراء، فهم وقود يدفئ المتنفذين والمسيطرين، وتسحقهم آلية الحراك الطائفي كما تسحق غيرهم من الطوائف الأخرى، ويتحولون منفذين لسياسة المستغلين والأغنياء والمستفيدين من زعماء الطائفة وقادتها.
ولكي تخدم الطائفة الطبقة العليا من أبنائها يعمل هؤلاء على تعميق الغرائز الطائفية، وتحويل المجتمع إلى مجتمع طوائف متصارعة، حتى ان غير المتدينين من أبناء الطوائف يتحدثون بشؤون طوائفهم وبما يسمونه «مصالح الطائفة» ويتحمسون لها مع أنهم قد يكونون غير مؤمنين أساساً لا بالدين ولا بالطائفة ولا بأي فلسفة اجتماعية أو ثقافية أو دينية باستثناء ما يؤمن مصالحهم ونفوذهم. ويعرفون أنه إذا لم تُعتمد الطائفية كمرجعية رئيسة وتستقطب أبناءها على حساب المرجعيات الأخرى، فقد ينفض عنهم أبناء طائفتهم، ولذلك يجهدون ويعملون بدأب كي لا تصبح مرجعية المواطنة هي الأساس، وكي لا يسود القانون والنظام، أو يُحترم العقد الاجتماعي، أو تتحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
هذا غالبا هو حال المتنفذين السياسيين من قادة الطوائف. تضاف إليهم بعض الفئات الأخرى التي لها مصالح كبيرة وكثيرة بتحويل الخلافات الطائفية إلى اختلافات وصراعات، وفرضها على وعي المواطنين وسلوكهم، وتبني الاختلافات المذهبية بما يكاد يحوّل الطوائف إلى أديان مستقلة. ولأن «ظلم ذوي القربى أشد مرارة»، تتحول هذه الاختلافات إلى حروب والدين إلى أديان. وعند ذلك لا يمكن الإبقاء على الطائفية السياسية بأشكالها التقليدية، إذ تخوض بالضرورة صراعات مذهبية واجتهادات وجدلاً عقيماً، وينعدم احترام الرأي الآخر، ويُفسح المجال للمفسرين والمجتهدين والمتنفذين وأصحاب المصالح ليضعوا فكر الطائفة وفكر أتباعها في خدمتهم.
لا ينبغي الزعم أن مرجعية المواطنة هي الآن الأولى للمواطنين في معظم المجتمعات العربية ولدى معظم الناس كما هو الحال في الدول الحديثة. ومن غير الواقعي الاعتقاد أن زعماء الطوائف يتحمسون لها بسبب مضمونها الاجتهادي أو الأخلاقي أو الديني، وليس بسبب فوائدها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخدمتها لمصالحهم. وأي مطلع على التاريخ، وعلى الخصوص تاريخ الأديان وفلسفاتها، يعرف أن الطوائف كانت تحزباً سياسياً فقط ثم طورت مواقفها لتشمل مختلف مجالات الثقافة والفلسفة والاجتماع وغيرها، وصارت كل محاولة تطوير تؤدي إلى مزيد من الخصوصية ومزيد من الشروخ واتساع الهوة بين الطوائف حتى كادت هذه الطوائف تصبح أدياناً متصارعة.
خلاصة القول، بدأت الطائفية دفاعاً عن وجهة نظر سياسية، ثم ما لبثت أن أصبحت طائفية سياسية، ثم وجد المستفيدون منها أن مصلحتهم تقتضي زجها طرفاً في صراع مذهبي مع الطوائف الأخرى. ولجأ الناس إليها بسبب فقدان الأمن وضعف الدولة أو تسلطها وظلمها، فأربكت الطائفية السياق التاريخي للتطور، ونحّت مرجعية المواطنة جانباً، وصارت محركاً لصراعات عديدة بين أبناء الشعب الواحد والدين الواحد، وعمّدتها تيارات مجتمعية كمرجعية أولى مثيرة للفتن والحروب، والتلاعب بالعقول بدلاً من أن تكون إغناءً لإيمان المسلمين وثقافتهم وتنويعاً لتعليمات الدين. والمستغرب أن الصراعات الطائفية هذه تستدعي الآن أحداثاً عمرها أربعة عشر قرناً. وبدلاً من التسامح تجاه هذه الأحداث، تزداد الصراعات حولها شدة وعنفاً. لنتصور ماذا نقول عن الأوروبيين مثلاً لو انفجر الصراع بينهم بسبب موقفهم من شارلمان! ولهذا يصدق علينا قول المثل الشعبي: «ألقى مجنون حجراً في البئر لم يستطع مئة عاقل إخراجه»!
إن العرب والمسلمين أمام تحد كبير، فإما أن يعودوا الى مرجعية المواطنة واستطراداً إلى بناء الدولة الحديثة، أو يُبقوا على الطائفية وتبقى مجتمعاتهم تعيش في مرحلة ما قبل الدولة.
السفير