صفحات الرأي

تحول جسم المهندسين من الاستقلال حتى نهاية القرن العشرين/ رهيف فياض

النشأةُ، في رحَمِ مشاريع التنمية.

(1) ظهرَ المهندِسُونَ في البلدانِ العربيَّةِ كفئةٍ اجتماعيةٍ – مهنيَّةٍ، بعد مدَّةٍ طويلةٍ من ظهورِ الأطباء والمحامين.

وتبدو مصرُ متميِّزةً، إذ عَرِفَتْ مع محمَّد علي في القرنِ التاسع عشر تجربةً تطويريَّةً، أنشَأَ فيها محمَّد علي أوَّلَ مدرسةٍ للهندسةِ في القاهرة.

أما البلدانُ العربيَّةُ الأخرى، فسوفَ تنتظرُ الاحتلالَ الكولونياليَّ الذي تَبِعَ سايس ـ بيكو،، لتشاهِد تكوُّنَ جسمٍ خجولٍ للمهندسين، ينتمون إلى الشرائحِ الاجتماعيَّةِ العليا، تكوَّنوا في الجامعاتِ الغربيَّةِ، وعجزوا عن إحداثَ تغيُّرٍ يُذَكرُ في البُنى الاجتماعيَّةِ لهذه البلدانِ، وفي ثقافَتِها. ولم تتكوَّن هذه الفِئةُ الاجتماعيَّةُ – المهنية (المهندسون)، إلا بعد حصولِ هذه البلدانِ على استقلالها. فنشَأتْ حينها هذه الفئةُ وِفقَ الشروطِ المؤسَّساتيَّةِ الخاصَّة بكلِّ بلد. إذ سادت آنذاكَ، في البلدان العربية الرئيسة، والمُستعمرةِ سابقاً (مصر، وسوريا، والعراق، والجزائر…إلخ)، ما أتُفِقَ على تسميتِه «روحُ باندونغ». وسارَت السلطاتُ الاستقلاليَّةُ فيها، في طريقٍ تنمويٍّ ملتزمٍ. فبَدت هذه الفئةُُ الاجتماعيةُ-المهنيةُ (المهندسون)، وكأنَّها محرِّكُ التنميةِ وقاطرةُ التطوُّرِ الوطنيِّ العام.

(2) لقد أقامتِ السلطاتُ الاستقلاليَّةُ في البلدانِ هذه، أكرِّر، أنظمةً تعليميَّةً اهتمَّت بتعليمِ العلومِ والتقنيات. فتعدَّدت كليَّاتُ الهندسةِ في الزراعةِ، والصناعةِ، والأشغال الكبرى. من دون أن ننسى الهندسةَ العسكريَّة. إنها حالةُ مصر خاصَّةً، مع الضبَّاطِ الأحرار والرئيس جمال عبد الناصر، وحالةُ الجزائر مع جبهة التحرير الوطني (FLN) والرئيس الهوَّاري بومدين، وحالةُ سوريا والعراق، مع حزبِ البعثِ وكلٍّ من الرئيسين، حافظِ الأسد وصدَّام حسين.

لقد تنوَّعتْ السلطاتُ السياسيَّةُ في البلدانِ العربيَّةِ بعد الاستقلال، وتعدَّدت فيها النظُمُ الاقتصاديَّة. من نظامٍ مركزيٍّ يقودُ فيه حزبٌ واحدٌ الدولةَ والمجتمعَ والاقتصادَ (مصر، سوريا، الجزائر، العراق)، إلى نظامٍ ليبراليٍّ تابعٍ للمركز الغربي (لبنان، تونس، المغرب)، إلى نظُمٍ ملكيَّةٍ أو إماراتية، تقومُ على ريعِ طاقةٍ أحفوريَّةٍ هائلة (دول الخليج النفطية).

وفي هذهِ النظُمِ الاقتصاديَّةِ المتنوِّعةَ إلى درجةِ التناقض، تكوَّنَ جسمُ المهندسين كفئةٍ مهنيةٍ – اجتماعية، في رَحَمِ مشاريعِ التنمية، غالباً. فرَسَمتْ العلاقةُ مع ما هو سياسيُّ، صورةَ المهندسين كفِئةٍ، وحدَّدَتْ هُويَّتهم.

عوامِلُ تاريخيةٌ وثقافيةٌ، فيها الجيوسياسيُّ، والاقتصاديُّ، والتقنيُّ، أثَّرتْ في صنعِ هذه الهُويَّة، أكثرُ من العوامِل الخاصَّة. ومن الضروريِّ التوقُّفَ المنهجي عندَ فئة المهندسين في مواقِعِهِم، إذ أن ما يُهمُّنا هو فهمٌ أفضلُ لمواقعِ المهندسين ولمسؤولياتِهم، في المجتمعات العربيَّة، وللآفاقِ المفتوحةِ أمَامَهُم .

II

تنوُّعُ الأنظمة الاقتصادية، وتباين مواقعِ المهندسين.

(1) لقد تكوَّنت هذه الفئةُ بارتباطِها بالدولةِ المستقلَّة. ارتباطٌ عضويٌّ كليٌّ في الدولةِ «الاشتراكيةِ»، وِفْقَ النموذجِ المصريِّ، والجزائريِّ، والسوريِّ، والعراقيِّ. وارتباطٌ جزئيٌّ هامِشِيٌّ، في الدولةِ الليبراليةِ التابعةِ للمركزِ الغربيِّ، كلبنان، والمغرب، وتونس، والأردن.

وقد تم تكوينُ معظمِهِم في نموذجِ الدولِ «الاشتراكية»، في دولِ المعسكرِ الاشتراكي، وفي مدارسَ أو كلياتٍ للهندسة، أنشأتْها هذه الدولُ. وطُبِعَتْ بذلك وظيفةَُ المهندسِ بارتباطِها بالدولة. وتمَّ تعزيزُ هذا الطابَعِ لاحقاً، عَبْرَ التعاونِ الوثيق مع الاتحاد السوفياتيِّ والبلدانِ الاشتراكيَّةِ الأُخرى، مما أَعطَى المهنةَ طابَعَ الالتزامِ الأيديولوجي.

أما سوقُ العمل فكانَ بالأساس، مُرتبطاً بالقطاعِ العام. إذ إن البورجوازيَّاتُ المحلية كانت ضعيفةً، ولا تستطيعُ استخدامَ المهندسين. وفي البلدان المسمَّاة «ليبرالية» (المغرب وتونس والاردن)، كانت المؤسَّساتُ العامَّة كالجيشِ والمشاريعِ الكبرى، هي المؤسَّساتُ الأُولى التي استخدِمت المتخرجين الجُدُدَ من المهندسين.

والمهندِسون المستخدَمون في نموذج الدولةِ «الاشتراكية» الناشئة، هم في بعض الحالات مُناضِلون في سبيلِ الاشتراكية. إنها علامةٌ تُميِّزُ الأجيالَ الأولى من المهندسينَ في البلدانِ العربيَّةِ الرئيسة التي ذكرتها (مصر، وسوريا، والعراق، والجزائر … إلخ). فالمهندسون هم الكادراتُ الوطنية. ومهنةُ المهندسِ، إنما تَرتَبط بموقِع القيادة، حيث يأخذُ المهندسونَ من هذا الموقعِ مكاسبَ أكيدةً، ماديَّةً ورمزيَّةً. إنَّهم إلى جانبِ مناضِلي الأحزابِ الحاكمة، الفئةُ المدلَّلة في الدولِ الجديدة. فالدراسةُ مجانيَّة ، والمِنحُ للدراسةِ في الخارج تُعطَى للتكوين التقني والعلمي. والاستخدامُ مؤمَّنٌ. والأجورُ مرتفعةٌ. فالمهندسون هنا، هم حملةُ شعارِ التنميةِ الذي يتقدَّمُ كلَّ الشعاراتِ، ويُزيح كل الطُموحات.

(2) إنه نوعٌ من التقسيمِ في العملِ وفي المَسؤولياتِ، يقبلُهُ المهندسون بسهولة. وهذا الشكلُ السوسيولوجيُّ لمهنةِ المهندسِ، هو موجودٌ في كلِّ الأنظمةِ التي تُسيطر فيها الدولةُ، مع فروقاتٍ يُنتجُها وجودُ ريعٍ أحفوريٍّ وافرٍ كما في (الجزائر، والعراق، وليبيا)، أو غيابُه النسبي كما في (سوريا، ومصر).

فالقدراتُ الماليَّةُ في الحالةِ الأولى (الجزائر، والعراق، وليبيا)، تَسمحُ بتكوينِ الطلاَّب في المراكزِ العلميَّةِ المشهورةِ في أوروبا، وفي أميركا، وفي البلدان الاشتراكية. كما تَسمحُ بخلقِ مؤسساتٍ محليةٍ لتكوين الطلاب بكفاءَةٍ عالية. ومواقِعُ القيادةِ التي يوجَّه إليها المهندِسونَ، تدمُجُهم في هياكلِ السُّلطة. وهذا يفترضُ منهم التزاماً سياسياً. فيبقون، غير مكترثين بإيجاد تنظيماتٍ مستقلةٍ، خاصَّةٍ بهم.

أما في الحالة الثانية، (مصر وسوريا)، فالقدراتُ الماليَّةُ للدولةِ محدودةٌ، ولا تَستَطيعُ أن تُنفِقَ على إعدادِ المهندسين. ومن ثمَّ ضَمانَ التزامِهِم، معَ طلبٍ على الاستخدامِ محدود. نستثني في هذه الحالة مصر مع الرئيس جمال عبد الناصر، التي عقَدت مع الاتحاد السوفياتيِّ اتفاقاً إستراتيجياً، استطَاعتْ بموجبِه أن تُعِدَّ جماهيراً من المهندِسين بكفاءَات عالية.

وخلافاً لزمَلائِهم في الحالةِ الأولى، (العراق والجزائر وليبيا)، سوف يكونُ المهندسونَ في هذه الحالةِ، وفي مصر خاصَّةً، بعيدين عن القيادةِ، وأكثرَ اقتراباً من العمَّال الأُجراء. فالمهندِسون في مصر وسوريا، هم في غالبيَّتِهِم من أصولٍ اجتماعية شعبية، ويستمرُّون في انتمائهم إلى أصولِهم، رغم صعودِهم النسبيِّ في التَراتبيَّةِ الاجتماعية. فتتعدَّد القناعاتُ السياسيَّةُ لديهم، مع صعوبةٍ واضحةٍ في انصهارهم في هياكلَ تعاضُديَّة تشارُكيَّة.

حالةٌ ثالثةٌ نتوقَّف عندها، هي حالةُ الأنظمةِ السياسيَّة التابعةِ للمركز الغربي والمسمَّاة ليبرالية، مثل (المغرب، وتونس)، والتي لا تَتمتَّعُ بريوعٍ أحفوريَّةٍ وافرة. خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، لم تذهبِ الدولةُ في هذه الحالةِ إلى حدودِ الالتزامِ بإعدادِ المهندسين. والذين، في حالِ إعدادِهم، لن يَجدوا عملاً. فلم تُفتَحْ أبوابُ المهنِ الهندسيَّةِ أمامَ الطبقاتِ الشعبية الاَّ مواربةً. ينجُم عن ذلك صورةٌ سوسيولوجية للمهندسين، تختلِفُ كلياً عن صورةِ زملائهم في الحالتين، الأولى (الجزائر، والعراق، وليبيا)، والثانية (سوريا، ومصر). فالمهندسونَ «نُخبويُّون» بانتمائهم. والمنشأَ الطبقيَّ لهذه الفئة، يدفعُها إلى الاندِمَاجِ في تجمعاتِ المهنِ الليبراليةِ ذات الطابعِ العلميِّ والمهنيِّ، البعيدِ عن كلِّ ما هو سياسيٍّ ونقابي.

ونتوقَّف أخيراً عند الحالةِ الرابعة، حالةُ البلدانِ ذاتِ الريعِ الأُحفوريِّ الوافرِ، والسلطاتِ المَلكيَّة أو الإماراتية، عنيتُ بلدانَ الخليجِ العربي. تتميزُ بلدانُ الخليجِ النفطيَّة، بعددِ سكانٍ منخفضٍ، وبنظامٍ معقَّد لإعادةِ توزيعِ الريع. وتَستَخدِمُ السلطاتُ اليدَ العاملةَ العربيَّة والأجنبيَّة لاستثمارِ آبارِ النفط. فأكثريةُ المهندسين هم فلسطينيُّون، ولبنانيُّون، ومصريُّون. يؤطِّرهم تقنياً الغربيُّون الشُركَاءَ في الاستثمارِ، وتؤطِّرهم إدارياً الإدارةُ المحليَّة. ومن نتائجِ حرب الخليج (1992)، بالإضافةِ إلى طردِ المهندسينَ والتقنيينَ الفلسطينيين، تقويةُ سلطةِ الإداريِّين المحليِّين. لقد طبعَ نموذجُ بلدانِ الخليج النفطيَّةِ بالعمقِ مُعظَمَ المهندسين المهاجِرينَ، وأظهرَ لهم، شراسَةَ الاحتكاراتِ الغربية، التي تستثمرُ المواردَ العربيَّة، كما أظهر لهم قسَاوة القوانينِ المحليَّةِ، التي تُعامِلُهم كمرتَزَقَة.

III

تبدل الصورة، أواخر القرن الماضي.

تبدَّلتِ الصورةُ في ثمانينياتِ القرنِ الماضي، ودخَلَت اقتصادياتُ أكثريةِ البلدانِ العربيَّةِ في حلقةٍ جديدةٍ، تَرافَقَتْ مع الأزمةِ الاقتصاديَّةِ في الغربِ الصناعي.

ففي مصر، مع الرئيس أنور السادات، ابتدأتْ في نهايةِ السبعينياتِ من القرنِ الماضي ما سُمِّي سياسةُ (الانفتاح الاقتصادي). فتمَّ تفكيكٌ متدرِّجٌ للقطاعِ العامِ المُسيطِر، وسرَّحت المؤسَّساتُ المُخصْخَصَةُ آلاف العمَّال. وضربتِ البطالةُ المهندسين. فهاجر كثرٌ إلى العراقِ أو إلى بلدانِ الخليج، وأختار آخرون ليبيا. فلم تظهرْ تأثيراتُ الأزمةِ، في الجسمِ الهندسيِّ المصريِّ، في البِدَايَات.

وكانت التأثيراتُ أقل خطورةً في المغربِ وفي تونس. فالاقتصادُ مُخَصْخَصٌ في البلدين منذ زمنٍ بعيد، وهياكلُ التكوينِ تأقْلَمَتْ بسهولةٍ مع المُعطى الجديد.

أما في الجزائر، فقد أدَّت الأزمةُ الاقتصادية إلى انهيارِ هياكِل القِطاع العام. وحملةُ الديبلوماتِ من الجامعاتِ والمعاهد التكنولوجية لا يَجدون عملاً. فاتَّجهَ المهندِسون إلى فرنسا، وأعطَتْ سفارتا الولاياتِ المتحدة وكندا، تأشيراتِ الهجرة الأولى إلى مهندسين جزائريين. وبعدَ حربِ الخليج (1992)، دَخَلتْ معظَمُ البلدانِ العربيَّةِ في أزمةٍ مُزمِنَة. حُوصِر كلُّ من العراقِ وليبيا، وتخلَّت بلدانُ الخليجِ عن جزءٍ من برامِجِها الاقتصادية المُقرَّة، واقتصادُ سوريا هو اقتصادُ حربٍ، مع 40% من ميزانيَّتِها للدفاع. وأصبحت الجزائر دولة مديونة. لقد أصبحت معظمُ البلدان العربيةِ تعيشُ مرحلةً دراماتيكيَّةً من التفكُّك.

IV

التحوُّل، والتطورات التي رافقته.

ثلاثةُ تطوُّراتٍ رافقتْ عملية التحوُّلِ هذه، مُنتِجَةً نماذجَ ثلاثة:

÷ النموذج الأول، يمثِّله العراقُ حيث تجلَّتْ حالة، ربما استطعنا تعريفها، بالوطنيَّةِ – الاجتماعية.

÷ والنوذجُ الثاني، تمثِّله كلٌّ من مصرَ والجزائر، حيث ظَهَرتْ أكبرُ عمليةٍ لتحوُّل المهندسين إلى بروليتاريا.

÷ والنموذجُ الثالثُ، تمثِّله كلٌّ من المغرب وتونس وربما سوريا أيضاً، حيث بَرَزَتْ عمليَّةُ التَمايُزِ الكبيرِ بين المهندِسِين، وفقاً لمواقِعِهم الجديدة، في التراتبية الاجتماعية.

(1) نموذج العراق، والوطنية الاجتماعية .

حُوصِرَ العراقُ بعدَ حربِ الخليج (1992)، التي دمرَّت بشكلٍ كاملٍ البنى التحتيَّة والمؤسّساتِ الصناعية في البلاد. لقد خُنِقَ الاقتصادُ، وكان من المنتَظَر أن تنْهارَ السلطةُ السياسيَّة. إلا أنَّ الوقائع كذَّبت هذه التوقُّعات. نَهضَ الاقتصادُ رغم ذلك، وأُعيد بناءُ البنى التحتيَّة الرئيسة (الجسور، محطات توليد الكهرباء، شبكات المياه … إلخ) في مدةٍ زمنيةٍ قياسيةٍ، وبجودةٍ عالية. لقد أظهَرتْ إعادةُ البناءِ هذه، أن الحربَ لم تَستطعْ تدميرَ القدراتِ العلميَّةِ والتكنولوجيَّةِ الموجودةِ في البلاد، كما دلَّت على المنسوبِ العالي للحشدِ الذي سمَحَ للعمَّال وسائر المنتجين وللمهندسينَ خاصةً، بأن يُنجِزوا عمليَّةَ إعادةِ البناءِ هذه. إلا أنَّ العاملَ الرئيسَ يعودُ إلى الانتماءِ الوطنيِّ الذي حرَّك المُنظَّماتِ الجماعيَّة، وجَعَلها تُدرِك ظُلم الحربِ، وأهميةَ وحدةِ العراقيين بمواجهةِ الحصارِ الظالم. فصارتْ إعادةُ البنيانِ تحدياً وطنياً، وأصبحَ المهندسون العراقيُّون في هذا التحدِّي الوطنيِّ، محرِّكاً رئيساً، وطليعةً، احتلت موقعاً متقدِّماً في المجتمع.

(2) نموذجُ كلٍّ من مصر والجزائر، وتحوُّل المهندسين إلى بروليتاريا.

حركةُ تحوُّل المهندسين إلى بروليتاريا، ظَهَرت بوضوحٍ في مصر ابتداءً من العام 1980، وفي الجزائرِ ابتداءً من العام 1990. إنها نتيجةٌ حتميةٌ لسياسات الانفتاح، وللتخلِّي عن ما يمكن أن نسمِّيه «اقتصادُ الدولة». فهي سياسَاتُ إفقارٍ عامٍّ للمجتمع، أنتَجَتْها توجُّهاتٌ اقتصاديةٌ جديدةٌ، في مقدِّمتها التجارةُ والخدمات. شرائحُ واسعةٌ من المهندسين طالَها هذا التغييرُ، وعمَّت البطالةُ المهندسين الجدد. ولقد ساعَدتْ في مصر، الهجرةُ إلى العراق وليبيا ودولِ الخليج في البداياتِ، في تخفيفِ حدَّةِ الأزمة.

وامتصَّت في الجزائرِ، السوقُ الفرنسيةُ جزءاً من مهندسي الأعمال الكبيرة. إلا أن توسُّع الأزمة، أظهرَ محدوديَّة هذهِ الحلول. وأصبحَ التحوُّل إلى بروليتاريا حتمياً. فأخذ المهندسون ينظِّمون أنفسَهم، (مصر والجزائر)، بتخطي المنظمَّات المهنية القائمة، وبإِنشاءِ منظمَّاتٍ للدفاعِ عن القطاعِ العام.

انقسمت فئةُ المهندسين بشكلٍ حادٍّ في البلدين. وكان الانقسامُ أكثر بروزاً في الجزائر. الحداثيُّون بمواجهةِ السلفييِّن، والديموقراطيُّون بمواجهةِ التيوقراطِّيين. نجدُ في أساسِ هذا الانقسامِ، التناقضَ القديمَ بين الأجيال. إلا أننا نجدُ السببَ الرئيسَ في الانقسامِ الاجتماعيِّ الكلاسيكيِّ، بين كادراتِ الدولةِ السابقين، وبين جماهيرِ المهندسين العاطلين عن العمل. لقد تحوَّل الانقسامُ المهنيُّ في الجزائرِ، إلى مواجهاتٍ عنيفة.

أما في مصر، فالانقسامُ كان أقلَّ حدَّة. فنجِدُ أحياناً الشيوعيَّ إلى جانبِ العضوِ في جماعةِ الإخوان المسلمين، في مقاومةِ الخصْخَصَةِ وفسادِ السلطة.

(3) نموذج كلٍّ من تونس والمغرب …

والتمايز الحاد بين المهندسين.

خلافاً للأردن، فإن عددَ المهندسين في كلٍّ من المغربِ وتونس، لا يجعلُ منهم فئةً إجتماعية-مهنيَّة هامَّةً، وأنظِمةُ تكوينِ المهندسين في هذين البلدين، بقيتْ انتقائيةً نسبياً. وشاهدْنا في هذا السياقِ عمليَّةَ تمايزٍ بين المهندسين، وزَّعتهم وِفقَ أُصولِهم الاجتماعية. كان المهندسونَ من أصولٍ عائليةٍ غنيَّة يدرسُون في الخارج، أو في أفضلِ المؤسَّسات التعليمية المحليَّة. وكانوا، وهُم على مقاعِد الدراسة، مُتأكدِّين من حُصُولِهم على عملٍ لائقٍ في إحدى المؤسَّسات العامة، أو في مؤسَّسةٍ خاصة. وخلافاً لهذه الفئةِ من المهندسين فإن زملاءَهم من الطبقاتِ الوُسْطى والشعبية، كان عليهِم أن يكتفوا بالعملِ في القطاع العام، أو في مواقِع متدنية. إن هذا التمايزَ الاجتماعيَّ الطبقيَّ، يلتصقُ بحراكِ الليبراليَّةِ، التي تعيدُ هيكَلةَ الاقتصادِ من دون أن تُغيِّره. إنه تَمايُزٌ يأخذُ شرعيَّته من الأنماطِ الاقتصاديَّةِ العالميَّةِ الجديدة. فالخصْخَصَةُ لمكوِّناتِ القطاعِ العامِّ، والتوجُّه باتجاه الإدارةِ والبزنس، إن كلَّ ذلكَ، يخلُق اختلالاتٍ في التعليمِ وفي سوقِ العمل، يتمُّ إمتصاصُها باعتمادٍ استراتيجيات جديدة. ومهندسو المجموعةِ الأولى (ذوو الأصول العائلية الغنيَّة)، الرابحون دائماً، يَسْجُنونَ أنفُسَهُم في جمعياتٍ علميَّةٍ، يُريدونها بعيدةً عن أيِّ حراكٍ نقابيٍّ وسياسي. أما مُهَندسُو المجموعةِ الثانية من (الطبقات الوسطى والشعبية)، فهم يقتربون من النمطِ التعاضُديِّ (لبنان مثال آخر)، والذي ربما أَرادوه أيضاً، بعيداً عن أي تصوُّرٍ سياسي.

V

في الخاتمة، النموذج السوري.

سوريا كنموذج، شبيهةٌ بالنموذج المصري. نُخِّصصََ لها فقرةً، تكونُ خاتمةَ هذا البحث.

(1) لقد استمرَّ الاحتلالُ الكولونياليُّ لسوريا حتى العام 1946. وحصَلتْ مع استقلالِها تطوراتٌ هامة. فأُقصِيَت الطبقاتُ القديمةُ الحاكمة، وقامتْ دولةٌ جديدةٌ، اعتمدَتْ سياسةً تطويرية فوقيَّة، تضمنَّت توسيعاً للتكوين المعرفيِّ العالي، فتكوَّنت بذلك فئاتٌ وُسطَى جديدة، ولم تُلغَ الفئاتُ الحاكمةُ القديمة، كلياً. وفي حين رأينا العسكريين في مصر، يُمسِكُونَ بسلطةِ الدولةِ ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين، ويضعونَ التنظيماتِ المهنيَّةِ في خدمةِ مشروع النهوضِ الوطني والتنمية، فإنَّ ما شاهَدناه في سوريا هو عكسُ ذلك. فالعسكريُّون لا يُقبَلُون في التنظيماتِ المهنيَّة. والبنيانُ الوطنيُّ في سوريا في عقدَيْ ما بعدِ الاستقلال، وخاصةً بعد وصولِ حزبِ البعثِ الى السلطة في العام 1963، يتميَّز بطابَعٍ إراديٍّ عَبْر قلبِ نظامِ الأولويات. وهو يُنتِجُ نوعاً من الانفكاكِ بين تطويرِ وظائفِ الدولةِ وتكوينِ الكفاءَات من جهة، وبينَ مفهومٍ يقاربُ المفهومَ السحريَّ لنتائجِ زيادةِ المعلوماتِ في البلاد، من جهةٍ أخرى. ففي السبعينياتِ والثمانينياتِ من القرنِ الماضي، ازدادَ وزنُ المهندسين في مكوِّناتِ السُلطة، وترسَّخت الفكرةُ حول الدور الحاسمِ للمهندسين في تنميةِ البلاد. وكانت أولُ كليةٍ للهندسةِ قد أُنشِئَت في حلب في العام 1946. تَبعتْها كليةٌ ثانيةٌ في دمشق في العام 1958، ثم ثالثةٌ ورابعةٌ في حمص واللاذقية، في الستينيات من القرن الماضي.

(2) وفي العام 1974 سُنَّ قانونٌ يُلزِم المهندسين أن يَعملوا لمدَّةِ خمس سنواتٍ على الأقل في مؤسَّساتِ الدولة.

وبعد العام 1970، أُزيح الإيديولوجيُّون الماركسيُّون، واحتل أمكِنَتهم تكنوقراطيون ضباطٌ ومهندِسون، وأصبح رئيس الوزراء من دون انقطاع مهندسٌ، معمارٌ، أو مهندسٌ زراعي. ففي إطار مشروعِها التَنْمَوِيِّ، أقامتْ الدولةُ علاقاتٍ مميَّزةً مع حاملي المعارِفِ التقنيَّةِ والعلميةِ، وأعطتْ الشرعيَّة لخِطابهم حولَ المُجتمع، وسهَّلت احتلالَهم لمواقعَ مركزيَّةٍ في المجالِ العام. نجدُ هذا التقديرَ في كلمةِ هشام الساطي في افتتاح مؤتمرِ المهندسين العرب المنعقد في دمشق في العام 1978 حين قال:

«إن التكنولوجيا الحديثة هي اليوم أداةُ التنميةِ المتسارعةِ في كلِّ حقولِ الحياة. المهندسونَ هم الفئةُ المؤهَّلةُ لفهمِ أسرارِ التكنولوجيا، ولديهِم القدرةُ على إيصال الأمَّةِ العربيَّةِ من مرحلةِ الاستعارةِ، إلى مرحلةِ التجديد والابتكار».

كما قال المعمار رؤوف الكسم عندما كان رئيساً للوزراء في العام 1984 في افتتاح مؤتمرِ المهندسين السوريين:

«لقد حقَّقت بلادُنا تنميةً اقتصادية ملحوظةً في السنواتِ الأخيرة. جهودٌ كبيرةٌ بذِلَتْ…. خاصَّةً في تطويرِ تعليمِ الهندسة. وهذا ما يدلُّ على الأهمية التي يُعطيها كلٌ من الدولةِ والشعب لعلومِ المهندس، وعلى الأملِ الذي يضَعُونَه في المهندسين من أجل بناء الوطن».

(3) وفي انعطافةِ نهايةِ السبعينيات من القرنِ الماضي ما يُفاجِئ. فمَع ازديادِ عدد المهندسين، وحضورِهم في السلطة، فإن وضعَ المهندسين العاملين في الدولةِ يتراجعُ، ونفوذُ الاعتراضِ الإسلاميِّ تزداد. فحُلَّت في العام 1980 النقاباتُ المهنيةُ الثلاث للمهندسينَ والأطباءَ والمحامين. وصدرَ قانونٌ يُعيدُ تنظيمِ هذه النقاباتِ، مؤكِّداً سيطرةَ حزب البعثِ عليها. وبما أنَّ الدولةَ هي مروِّجُ المشاريعِ الكُبرى، وهي المستخدمُ الأوَّل للمهندسينَ ولغيرِهم من المهنيينَ المختصِّينَ، فلا يمكنُ لكلِّ هولاء، أن يفكِّروا بدورِهم، إلا في إطارِ مشروعٍ يمرُّ عَبْر الدولة. ومَعَ تحجِيمِ دورِ الدولةِ، وانتهاجِ سياساتٍ ليبرالية تُغيِّر كلياً موقِعَ حَملةِ المعارف العلمية والتقنيَّةِ، يُنتَجُ مع كلِّ ذلكَ، خطابٌ يرفَعُ قيمةَ المبادرةِ الخاصَّة، ويَدعو إلى تطويرِ كفاءَاتٍ تتطابقُ مع الحاجاتِ الجديدةِ للسوق.

VI

في الخلاصة، بلدان أميركا اللاتينية مثالٌ.

إنه نمطٌ جديدٌ، لمؤسَّساتٍ معولمةٍ، تُساعِدُ في صعودِ الإداريين، والتُّجار، والخُبراء الماليِّين، والمحاسِبين، والمُعِلنين، والسماسرة. فيطفو عَبْر كلِّ ذلك، تصوُّر جديدٌ للكفاءةِ، وللمهنيَّةِ، وللإاحتراف. نماذجُ جديدةٌ من المِهَن يُريدُها أصحابُها أن تكون كونية. ولكن…، تجري الرياحُ بما لا تَشتَهي السفنُ… فهي تهبُّ باتجاهٍ آخر. فلنتوقَّف، على سَبيلِ المثالِ لا الحَصرِ، عند توجُّهات بلدان أميركا اللاتينية راهناً.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى