الطغاة العرب بين ”عدالة الشعب” وعدالة المحاكم
بعد أن حكم الدكتاتوريون العرب بلدانهم بقبضة من حديد ومارسوا الاستبداد والاستعباد على شعوبهم لسنوات عديدة، جاء وقت إسقاطهم الواحد تلو الآخر كأوراق الخريف. إلا أن نهاية كل رئيس عربي تهاوى حتى الآن اختلفت عن مثيلاتها، رغم أن الأنظمة التي وقف هؤلاء الرؤساء على قمتها تشابهت في كونها أنظمة استبدادية.
فالرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي كان أول الرؤساء الذين أصابتهم رياح التغيير العربي، إذ أنه لم يستطع مقاومة الضغط المتزايد للشعب الغاضب، وسرعان ما هرب في مطلع يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، طالباً اللجوء في المملكة العربية السعودية. أما الرئيس المصري السابق حسني مبارك، فقرر البقاء في مصر رغم معرفته أن أيامه كرئيس للدولة قد انتهت. وهو الآن يحاكم داخل مصر.
لكن القدافي أوفى بعهده، أي القتال حتى النهاية، وظروف قتله لا تزال غامضة، لاسيما وأنه قتل بعد سقوطه في أيدي الثوار بوقت قصير، ما فتح الباب للعديد من السيناريوهات غير المؤكدة. وأما الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، فقد كانت نهايته “أقل ضرراً”، إذ كان ثمن تنحيه عن السلطة حصوله على حصانة تمنع مثوله أمام المحكمة. ولهذا فمن المتوقع أن ينجو صالح من محاكمة عادلة.
بالقانون الدولي أم المحلي؟
كيفية تعامل الشعوب من الأنظمة المخلوعة يختلف باختلاف تركيباتها الاجتماعية وتاريخها والمؤسسات السياسية المتواجدة بها. هذه العوامل لا تزال موضع نقاش بين المراقبين السياسيين، الذين يفسرون الظاهرة حسب وجهات نظرهم. لكن الشيء الوحيد الذي يتفقون عليه، سواء في العالم العربي أو خارجه، هو أن هذه الأنظمة اقترفت جرائم كبيرة وانتهاكات لحقوق الإنسان يجب أن تحاسب عليها. ويبقى السؤال المطروح هو: أين يقدم هؤلاء الطغاة للمحاكمة – إن بقوا أحياء؟ أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي؟ أم أن التبعات القانونية لما اقترفه هؤلاء الحكام شأن داخلي تتولاه الدول المعنية بنفسها؟
بالنسبة لراينهارد ميركل، أستاذ القانون الجنائي والفلسفة القانونية في جامعة هامبورغ الألمانية، فالواضح الجليّ هو “في حالة حدوث جرائم وخيمة، لا بد من تطبيق القانون الجنائي”. لكن مسألة تطبيق القانون الدولي أو المحلي يجب تقريرها حسب كل حالة على حدة. وفي هذا الصدد يضيف ميركل لدويتشه فيله أنه “في حال عدم توفر قوانين محلية قادرة على ضمان محاكمة عادلة ومنصفة، فيبقى من الأفضل إحالة الملف إلى المحكمة الدولية”.
إلا أن محاكمة الطغاة داخل أوطانهم وتحت أعين الشعب تحمل طابعاً رمزياً مهماً لا يجب الاستهانة بها. فهدف هذه المحاكمات يبقى في الأساس إعلاء صوت الحق والقانون والعدالة، وهذا شيء مهم بالنسبة للديمقراطيات العربية الناشئة، التي تسعى لإظهار وجه مغاير من خلال المحاكمة والاستقلال القانوني. هذا الرأي يشاطره الخبير القانوني الألماني ميركل، ويقول في هذا الصدد إن “القانون الجنائي يعتبر من أهم القوانين التي تستطيع الدول أو الحكومات الجديدة من خلاله إظهار وفرض سيادتها”، مضيفاً أن “أغلب الحكومات الجديدة تسعى إلى توثيق سيادتها نحو الخارج من خلال قضاء عادل”.
محاكمات مشبوهة
وبالنسبة للحكومات الجديدة، هناك عوامل أخرى تدفعها لإجراء المحاكمة داخل البلد، من بينها الانتقام، بحسب ما يقول الأستاذ الدكتور راينهارد ميركل، معتبراً أن “هذا حافز مريب ولا يساعد بأي شكل على تحقيق السلم في المستقبل”. ويعتبر العراق مثالاً حياً على ذلك، فالدكتاتور صدام حسين حوكم داخل العراق بطريقة مشبوهة. فالقانون المتبع في محاكمته ربما كان مبنياً على مرجعية قانونية، إلا أنه، وبحسب ميركل، كانت هناك العديد من الإجراءات المثيرة للجدل.
ويشير أستاذ القانون الجنائي في جامعة هامبورغ إلى أنه “لم يتم الاستماع لصدام في العديد من المناسبات. كما تم تطبيق أمر الإعدام مباشرة بعد الحكم، في حين كان له حق انتظار حكم نهائي آخر”، وكلها أمور لقيت انتقادات حادة، سواء من منظمة العفو الدولية أو منظمة هيومن رايتس ووتش. ويرى ميركل في مثل هذه التجاوزات تأثير سلبي على عملية التحول الديمقراطي في الدولة، وسبباً من الأسباب الرئيسية لنشوب الحروب الأهلية.
ويخشى أندريه بانك، خبير شؤون الشرق الأوسط بالمؤسسة الألمانية للدراسات الدولية (غيغا)، هو الآخر من وقوع نفس السيناريو في سوريا. فمنذ عشرة أشهر يشن النظام هجمات عنيفة ضد المتظاهرين، ما دفع العديد من المعارضين للمطالبة بقتل الرئيس الأسد عوضاً عن محاكمته. ويضيف بانك أن “المزيد من المتظاهرين أصبحوا لا يخفون رغبتهم في استعمال العنف ضد النظام”. لهذا يخشى الخبير الألماني من ظهور سيناريوهات مشابهة لما حصل للقذافي في ليبيا، في حال سقوط النظام السوري، خاصة وأن الرغبة في الانتقام بدأت تتجلى لدى أطراف كثيرة من المجتمع.
الغرب في حيرة من أمره
من جانبه يعرب خبير القانون الدولي بجامعة فرانكفورت الألمانية، ميشائيل بوته، عن خشيته من ردود فعل انتقامية بعد سقوط الأنظمة، وهو ما قد يؤثر على التطورات الديمقراطية داخل هذه البلدان، “فمن أجل تحقيق السلم والسلام يبقى الطريق الأمثل هو معالجة أخطاء الماضي. فالتعامل مع أخطاء وقضايا الطغاة هو السبيل نحو الديمقراطية”.
وجهة النظر هذه يشاطرها آرندت زين، أستاذ القانون الجنائي والدولي في جامعة أوسنابريك الألمانية، مضيفاً أن ظروف محاكمات هؤلاء الحكام “يجب أن عادلة وتحترم معايير حقوق الإنسان السائدة. عندها يمكن أن تسير هذه الدول نحو الديمقراطية”. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، ويضع الدول الغربية أيضاً في موقف لا تحسد عليه، فعلى سبيل المثال، ورغم تحمل الرئيس السوري بشار الأسد مسؤولية مقتل آلاف السوريين المعارضين، تجد الدول الغربية نفسها مرغمة على المطالبة بمحاكمة دولية عادلة بدل تركه للمعارضين، الذي أبدى بعضهم رغبة في قتله أو إعدامه.
آنه آلميلينغ
ترجمة: أمين بنضريف
مراجعة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: دويتشه فيله 2012