العالم العربي القادم أخطر/ غازي دحمان
مرّت على العالم العربي، منذ بداية العقد الحالي، تحوّلاتٌ ومتغيراتٌ كثيرةٌ ومتسارعة، دمّرت النظام الإقليمي، وحطّمت الدولة وخلخلت علاقة المكوّنات المحلية ببعضها، ومن المتوقع أن لا يتوقف هذا السياق التحوّلي عند هذا الحد، بل ستبني اتجاهات الأحداث المقبلة مساراتها على هذه اللبنات التي ستشكّل أساسات وقائع الغد ورافعاتها.
أساءت الأنظمة العربية فهم طبيعة هذه المرحلة، وكانت استجابتها للتحديات الناتجة عنها تتطابق تماما مع أنماط إدارة هذه الأنظمة، التقليدية، لسياساتها الداخلية والخارجية عقوداً، والتي تمثلت في ترسيخ التبعية للخارج، باعتبارها وسيلة الدفاع الأكثر إتقاناً من هذه الأنظمة لمواجهة الأزمات التي تعجز عن مواجهتها، أو التكيف مع مقتضياتها.
وكان من نتيجة هذه السياسات تسليم قضايا النظام الإقليمي العربي لفاعلين خارجيين، وفتح المجال للاعبين الإقليميين، ليساهموا في تشكيل مسارات الأزمات، وتجييرها لخدمة مصالحهم الجيوسياسية. وبالتزامن مع ذلك، راح كل طرفٍ يعمل وفق أجندة منفصلة، ورؤية خاصة، للتعامل مع الأزمات الضاربة في عمق النسيج الإقليمي العربي. وفي وقتٍ من المفترض أن يتم فيه تشكيل غرفة عمليات عربية مشتركة لمتابعة الأوضاع، وتكثيف التشاور، ورفع مستويات التنسيق إلى أبعد الحدود، لم يكن العمل العربي المشترك في حدوده الدنيا، كما كان في المرحلة الراهنة، وقد كشفت القمتان العربيتان في نواكشوط والبحر الميت حجم السلبية العربية، وكأن الأزمة تقيم في إقليم آخر غير الإقليم العربي.
ولا تبدو هذه السلبية غريبةً على واقع النظام الإقليمي العربي الراهن، ولا على ظروف
“يخسر العالم العربي، كل يوم، مساحات أمانٍ جديدة من رصيده” مكوناته، فالعالم العربي يعيش مرحلة فراغٍ شاملة، تتمثل في فقدان القائد الإقليمي، دولة أو مجموعة من الدول، لضبط سياساته وتوحيد توجهاته، بالإضافة إلى فقدانه أيديولوجية عربية معاصرة، تحفّز الشعوب العربية، وتجعلها الحاضنة الطبيعية، والحامل الموضوعي للفكرة القومية. وفوق هذا وذاك، غياب المثقف العربي الواعي والمؤمن بقضيته، في زمنٍ تحوّل فيه الاهتمام بالبعد القومي العربي إلى تهمةٍ بالتخلف والرجعية، إن لم يكن تحريضاً على الإرهاب.
نتيجة هذا الوضع الذي ساهمت الأنظمة العربية بقسط كبير في صناعته، خسر النظام الإقليمي العربي ومكوناته جميع مساحات الأمان التي طالما شكّلت عنصر حمايةٍ لدوله وأنظمته. وعلى الرغم من هشاشة هذا النظام، إلا أنه شكّل، على مدار عقود، مساحة أمان، ولم يكن اللاعبون الخارجيون يتوقعون ردود فعل أطرافه بالبساطة والخفة الحاصلة هذه الأيام. كما أن الشعوب التي جرى سحقها وإخراجها من المعادلة كانت مساحة أمانٍ، يجري أخذها في الاعتبار. بالإضافة إلى ذلك، انعكست هذه التحولات على باقي عناصر القوة، خصوصا القوة المالية التي أصبحت بلا قيمة، ولا تكفي لحماية رؤوس الأنظمة، أما القوّة الدبلوماسية فتحوّلت إلى شيءٍ مضحك، في ظل عدم استنادها إلى عناصر قوةٍ ترفدها وتعزّز مواقفها.
الناظر إلى خريطة العالم العربي اليوم، والمطّلع على تفاصيل التحولات التي جرت لدوله وشعوبه، والتغيرات الإقليمية والدولية المحيطة به، يرعبه حجم الخطر الذي يقيم في جنبات هذا العالم، مع استمرار قادته وصنّاع قراره في ممارسة ألاعيبهم السلطوية العتيقة، وكأن كل شيءٍ على ما يرام، لا بل وكأن الأمن والاستقرار فائضان عن الحاجة، إلى درجةٍ تدفع نخب السلطة إلى البحث عمّا تشغل نفسها به.
لا ينتبه أحدٌ من صناع القرار إلى أن عامل الزمن بات يشكل عنصر خطر، وأن التغيرات التي تحصل في الجوار الإقليمي ليست سوى عمليات هدمٍ وتحطيمٍ للهيكل الذي يشكل القشرة
“حجم الخطر الذي يقيم في جنبات هذا العالم، مع استمرار قادته وصنّاع قراره في ممارسة ألاعيبهم السلطوية العتيقة” الحامية، وليست سوى مسألة وقت، حتى تُصاب مكونات الإطار العربي بأعطابٍ يستحيل إصلاحها. كما لا ينتبه أحدٌ إلى أن الوقت الذي أتيح للأنظمة سابقاً لم يعد متاحاً، ففي ظل مناخات الفوضى، لم يعد الأمر يحتاج أكثر من بعض اضطراباتٍ محلية هنا وهناك، حتى يجري أقلمة المسألة وتدويلها، ثم تشغيل الأطراف المحلية وكلاء للاعبين الخارجيين.
لم يقرأ حكماء العرب ما حصل في سورية والعراق بالشكل الصحيح. اختلفت تفسيراتهم، كما مواقفهم، تجاه الوقائع في البلدين، وإذا كان الوقت قد فات لتوحيد قراءتهم، وتصحيح مواقفهم مما حصل، فإن ما يجب التنبّه له جيداً طبيعة الحلول التي تطرحها البيئتان، الإقليمية والدولية، لأزمات هذين البلدين، والتي تقع غالباً بين تحويلهما إلى طرقٍ وموانئ وقواعد عسكرية للاعبين الخارجيين، أو إعادة تشكيلهما على أسسٍ طائفيةٍ وعرقية، وتقسيمهما على هذا الأساس، ما يعني أنه، حتى حالة الاستعمار التقليدية التي عرفتها البلدان العربية أصبحت حلماً صعب المنال، وليس مستبعداً استنساخ هذا الحل، على بقية مكونات النظام العربي الأخرى، خصوصا أنها ليست أكثر مناعةً من سورية والعراق، ولا أقل إثارة للأطماع.
يخسر العالم العربي، كل يوم، مساحات أمانٍ جديدة من رصيده. ومع كل مساحة مفتقدة، تتوسع دوائر الخطر المرتسمة، لتحاصر صناع القرار، وتدفعهم إما إلى زيادة الطلب على التبعية، أو البحث عن أدوار قذرة للقيام بها لإشعار اللاعبين الخارجيين بأهمية وجودهم. وفي الحالات جميعها، تجري التضحية بالثروات والشعوب، لإبقاء معادلة حماية الأنظمة في إطار دائرةٍ لا يبدو أن كسرها ممكنٌ، في حين أن دينامية الخطر مستمرة في الاشتغال صوب تفكيك الدول، وجلب المستعمر.
العربي الجديد