صفحات الناس

العدالة قد تساعد في التئام سورية ولكن مع حد أدنى من رغبة السوريين فيها/ تمارا الرفاعي *

قبل عيد الميلاد بأيام قليلة، حضرت احتفالاً نظمته كنيسة في القاهرة دعت إليه اللاجئين السوريين المسيحيين في مصر.

رأيت الناس يتبادلون التحية بالأحضان والقبلات، ودموع بعضهم تسيل وهم يلتقون بعد فراق طويل. كان تسجيل لفيروز يبث في القاعة أغاني السلام والمحبة والأعياد المباركة. في حين امتلأ المكان بالحنين لتفاصيل يومية افتقدها الناس: الجيران والأصدقاء، التمشية في الأسواق، النزهات إلى البساتين في شهور الصيف، الباعة المتجولون… الوطن. كانت سورية حاضرة بقوة في القاعة، ومع ذلك كم كانت بعيدة. فسورية التي يحن إليها الناس قد اختفت، وإن حداهم الأمل في ألا يكون اختفاؤها نهائياً. بعد الصلوات، انتقل الجميع إلى قاعة الطعام بالكنيسة، حيث كانت تنتظرهم أطايب الطعام السوري. جلست مع مجموعة من الناس لا أعرفها، وعرفتهم بنفسي، مدركة أن اسم عائلتي يشي بخلفيتي المسلمة.

سألتني سيدة تجلس أمامي، بلكنة حلبية مميزة «هل أنت من حلب؟» ففي المشرق يستطيع الناس تمييز ديانة الآخر ومنشأه بسهولة من اسم عائلته. أجبتها، «أجل، أبي أصلاً من حلب».

وتلا هذه المقدمة الحوار المعتاد بين السوريين في المهجر: كم طالت إقامتنا جميعاً في القاهرة، وفي ما نعمل، ومن أي أجزاء سورية يأتي كل منا. كان وضعي يختلف عن أوضاع الكثيرين ممن حول الطاولة، لأنني لم أكن لاجئة فرت إلى مصر، بل كنت قد انتقلت إلى القاهرة من نيويورك لأسباب مهنية.

لكن لم يلبث الحوار إلا دقائق حتى تحول إلى السياسة، وبدأ الناس يلعنون الأزمة السورية، والمجتمع الدولي، ومحنة الذين اضطروا للفرار، وغياب الحل السياسي. استطعت بسهولة أن أستخلص امتعاضاً عاماً من «ما أوصلنا لهذه الورطة» – أي الاحتجاجات التي اندلعت في 2011، والتي أدت في نظر هذه المجموعة إلى النزاع الدموي المسلح الذي يمزق سورية حالياً.

غامرت برأيي، معلقة أن الاستنتاج غير دقيق، وذكّرت المجموعة بأن قوات الحكومة ظلت طوال شهور تطلق النار على متظاهرين سلميين فتقتلهم، قبل أن يلجأ الناس إلى السلاح. وسألت المجموعة عما إذا لم يكن القمع السياسي العنيف الذي استمر عقوداً في سورية هو أصل الانتفاضة وسبب تحول المتظاهرين السلميين إلى التمرد العنيف. لف المائدة صمت وقلق. ثم بدأت ردود الأفعال تتطاير نحوي، فصرخ أحدهم :»حتى ينتهي حالنا إلى همج من أكلة الأكباد الذين يريدون فرض قانونهم علينا جميعاً!»، في إشارة إلى مقطع فيديو واسع الانتشار لأحد مقاتلي المعارضة وهو يلتهم كبد جندي ميت.

لم يكن هذا الحوار يختلف عن حوارات كثيرة تدور هذه الأيام كلما اجتمع سوريون، ركيزته هي خوف الكثيرين وسط الأقليات السورية على المكان الذي سيشغلونه في سورية الغد، فمع المنحى الطائفي الذي انتحاه النزاع، ثمة مخاوف مشروعة من تأثر التركيبة السكانية والحريات الدينية في البلاد إلى الأبد.

كان السوريون، بمجتمعهم المتنوع الذي يضم أكثر من 12 جماعة عرقية، يتباهون بأنهم لم يعرفوا قط إن كان جيرانهم مسلمين أم مسيحيين. وحين تسير في الشارع المستقيم داخل دمشق القديمة فإنك تمضي من المسجد الأموي مروراً بحي الأمين اليهودي سابقاً، والذي صار في ما بعد منطقة شيعية، ومنه إلى بوابة دمشق الشرقية، حيث يشاع أن القديس بولس وجد نور الهداية. أما ساحل سورية المتوسطي فتغلب عليه المناطق العلوية، والأراضي المطلة عليه تحتضن قرى مسيحية وإسماعيلية، بينما تستوطن عائلات كردية الشرق السوري.

لقد سممت أخبار عن العنف الطائفي صورة للتناغم والوئام كان يفخر بها السوريون. وأدت هجمات الحكومة على قرى سنية، وما أعقبها من انتقام بعض الجماعات المسلحة من المجتمعات المسيحية والعلوية، إلى شعور متزايد بإمكانية استهداف المرء بسبب خلفيته العرقية. وفي بعض الأوقات قامت وسائل الإعلام، عن خطأ، باختزال الملحمة السورية في النزاع الطائفي، قائلة إن الأقليات انحازت بصفة عامة إلى الحكومة، مما أدى بدوره إلى استعداء بعض الجماعات المسلحة لها.

ولعل طريقة من طرق استنقاذ هذه الفسيفساء من الدمار النهائي هي أن يعرف السوريون بوجود عملية إجمالية للعدالة ستتولى ملاحقة مرتكبي الفظائع، بصرف النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية أو ميولهم السياسية. لكن الملاحقات القانونية لن تكفي، فسوف تنشأ الحاجة أيضاً إلى آليات أوسع نطاقاً لنشر الحقيقة والإنصاف، كي يلتئم المجتمع السوري.

ينبغي للسوريين من كل الطوائف تعلم الإصغاء إلى بعضهم بعضاً ثانية، فعلى المسيحيين، كهؤلاء الذين قابلتهم، أن يستمعوا إلى قصص كثيرين من جيرانهم الذين تعرضوا لأضرار لا يمكن تصديقها على أيدي الحكومة السورية. لكن على مؤيدي التمرد ضد الأسد بدورهم أن يستمعوا إلى قصص من تضرروا وفقدوا أحباءهم على أيدي الثوار. من دون إكمال الدائرة والاستماع إلى معاناة الآخر، لن تكون هناك مساحة تذكر للمصالحة.

إن الإدانات المتبادلة على أساس الخلفية العرقية لم تكن جزءاً من الحياة في سورية من قبل، ولا ينبغي للسوريين البدء فيها الآن، بل إن عليهم الاعتراف بوقوع ضحايا من كل الأطراف، واتخاذ قرار بأنهم، معاً، يريدون وضع حد للمعاناة وتقديم المسؤولين عن الانتهاكات إلى العدالة، بصرف النظر عن خلفياتهم.

وبما أن السوريين يتناقشون الآن في كيفية الانخراط في عملية جادة للسلام، فإن على جميع الأطراف أن تدرك أن نشر الحقيقة والمحاسبة على الانتهاكات الجسيمة هما بمثابة اللب لأي حل مستديم. لا ينبغي منح الحصانة لأي شخص ثبت انه متورط في انتهاكات خطيرة، بل ينبغي التحقيق معه وملاحقته.

تراجعت في مقعدي وأنا أفكر في أنني أريد لسورية أن تبقى المجتمع المتنوع المتعدد الألوان الذي عرفته. ولكي يحدث هذا فإن على سورية المقبلة أن تبنى على مبادئ المواطنة والمساواة أمام القانون، وملاحقة مرتكبي الانتهاكات. إذا غاب هذا فسيكون خطر تفكك البلاد حقيقياً، وتحلل نسيجها الاجتماعي ممكناً، ومعه اختفاء المجتمع كما عرفه السوريون طيلة عقود.

* مديرة برنامج لمناصرة حقوق الإنسان – قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «هيومن رايتس ووتش».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى