صفحات العالم

العراق وإشكاليات الموقف من الثورة السورية


                                            فارس الخطاب

يثير موقف العراق الرسمي من ثورة الشعب السوري ضد حكم الأسد بما يعنيه من استبداد ومآس عانى منها هذا الشعب طيلة ما يناهز الأربعة عقود من الزمن، الكثير من القلق فيما يخص مستقبل العلاقات بين البلدين بعد أن تضع هذه الثورة أوزارها وتكون للثوار كلمتهم في مستقبل سوريا وطبيعة علاقاتها مع من ساند كفاح الشعب السوري وتضحياته، ومع من ساند حكومة الأسد ودعمها دعما لوجستيا سواء بشكل مباشر، أو عن طريق جعل أجوائه وأرضه ممرات عبور لدول تدعم هذا النظام عسكريا وفنيا، كما هو الحال بالنسبة للعراق وإيران.

المالكي بين الأمس واليوم

لعل المتابع لمواقف الحكومة العراقية منذ بداية الثورة السورية منذ عام ونصف العام وحتى يومنا هذا، يجد الكثير من التخبط والتناقضات في هذه المواقف.

ففي حين نجد أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يحاول بشكل حثيث أن يدعم النظام في سوريا من خلال التلاعب بالألفاظ والمسميات من جهة، ومن خلال السماح للمساعدات الإيرانية وحتى العراقية بالعبور صوب الجانب السوري لتقديم الدعم المطلوب للحكومة هناك من جهة أخرى.

أما قناعاته الشخصية عن الثورة السورية، والتي اعتبرها “رسمية” فهي بحسب كلمته التي ألقاها بمناسبة افتتاح مهرجان الشباب العالمي في بغداد في الثاني عشر من أغسطس/آب الماضي “نار، إما أشعلها الجهلة والحاقدون، وإما أشعلتها إرادات خارجية، لأغراض تتعلق بسياسات ومصالح”، في حين لم تكن هذه نظرته للحرب التي شنتها قوات أجنبية على بلاده عام 2003 دون تفويض دولي ودون ثورة شعبية عارمة ضد نظام الحكم فيه آنذاك، كان من ثمار هذه الحرب أن جاءت به شخصيا وبحزبه على رأس السلطة في العراق.

رسميا أيضا، وبتوجيه من المالكي تحفظ العراق على معظم القرارات ذات المضمون التطبيقي ضد نظام الأسد باستثناء موافقته على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثالث من أغسطس/آب الماضي والتي أقرت بأغلبية ساحقة إدانة النظام السوري والمطالبة بنقل السلطة.

كما أن العراق يعمل وبشكل حثيث وبتنسيق كامل مع طهران على إدارة ملف العلاقات الدولية لصالح بقاء نظام الأسد بأي شكل من الأشكال مستغلا علاقاته الجيدة بالإدارة الأميركية، معتقدا أن هذه العلاقة ربما ستشفع في التوسط من أجل إبقاء الأسد (وهو ما تعلمه أميركا جيدا وسنتحدث عنه لاحقا).

كما شارك وبفعالية في اجتماع طهران في التاسع من أغسطس/آب الماضي وهو ما أطلق عليه “اجتماع الدول الصديقة لسوريا” وهو في حقيقة الأمر أشبه بحلف كشف عن نفسه في ظل تعافي الشارع العربي ويقظته تجاه المشروع الطائفي في المنطقة.

ولعل أسوأ المواقف التي وضعت الحكومة العراقية في دائرة الضوء الدولي وعرضتها لانتقادات شديدة هي تلك التي تمثلت بعدم السماح للهاربين من المدنيين السوريين من بطش النظام السوري، وماكينة الموت هناك، من دخول الأراضي العراقية.

وقد استنكرت منظمات حقوقية دولية وهيئات الإغاثة والصليب الأحمر الدولي موقف الحكومة العراقية وطالبتها بفتح الحدود لاستقبال اللاجئين السوريين الذين يعانون من ظروف سيئة جدا، ولم تكترث إدارة رئيس الوزراء العراقي لهذه المطالبات، حتى اتخذ الشعب العراقي وخاصة أهالي وعشائر محافظة الأنبار المتاخمة للحدود السورية قرارهم بتهديد رئيس الوزراء بأنهم سيفتحون الحدود عنوة إذا أصرّ على موقفه تجاه أشقائهم السوريين الذين مازالوا يستضيفون الآلاف من اللاجئين العراقيين في بلادهم.

الوازع الطائفي

إن الموقف العراقي من الثورة السورية يتمثل في حقيقة الأمر بأربعة أوجه، الأول حكومي حيث تقف حكومة المالكي بالكامل مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وهذا الموقف في واقع الأمر ليس حبا ببشار، لكنه كره بمن سيأتي بعد بشار.

فالحكم اليوم في سوريا بمنظار المالكي وإيران هو حكم علوي يأتي في حسابات القوى لصالح الهلال الشيعي (كما أسماه ملك الأردن عبد الله الثاني)، وأي كسر لهذا الهلال يعني إضعاف الأمن القومي لدول هذا الهلال وخاصة رأس العقد فيها جمهورية إيران الإسلامية ثم العراق بحكومته الحالية.

ولهذا نجد فروقا في الموقف العراقي الرسمي بين حراك البحرين وحراك سوريا، حيث نرى بوضوح تأثير الوازع الطائفي عليه، بالإضافة إلى تأثير إيران على مجمل عمليات إدارة الصراع المرتبطة بمشروعها التوسعي في المنطقة.

غير أن النظرة الموضوعية للأحداث تؤكد أن موقف المالكي وحكومته لا ينم عن قراءة سليمة لمجريات الأمور هناك، فجميع المؤشرات على الأرض تشير إلى حتمية سقوط نظام الأسد، وأن أي نظام قادم سيحفظ في ذاكرته موقف العراق الرسمي من الثورة وما يترتب على ذلك من توترات أمنية واقتصادية واجتماعية مهمة بين البلدين الجارين، إضافة إلى المزيد من العزلة للعراق عربيا وإقليميا ودوليا.

إن موقف المالكي من الثورة في سوريا يؤكد ما يذهب إليه الكثير من معارضي رئيس الوزراء العراقي حيث يصفونه بأنه “رجل يجيد صنع الخصوم”.

الدولة الكردية

الوجه الثاني، وهو الوجه الكردي العراقي، حيث يؤيد إقليم كردستان العراق وبقوة، الثورة في سوريا وبالتالي إسقاط حكم الأسد، وهذا الموقف بالطبع ليس تضامنا مع ويلات ومآسي الشعب السوري، بقدر ما هو مرتبط بأحلام حصول أكراد سوريا على حرية الحركة والتعبير بعد أن كانوا ضمن نسيج الدولة السورية شبه مغيبين، وهو ما يرتبط أيضا بطموحات رئاسة إقليم كردستان في إنشاء دولة كردية كبرى تمتد من جبال سوريا حتى جبال أذربيجان مرورا بجبال شمال العراق وشمال غرب إيران وجنوب تركيا.

ولعل الحركة التي قام بها المالكي في الشهر الماضي بتحريكه فرقة عسكرية عراقية لاستلام مواقع حدودية من قوات البيشمركة الكردية في قضاء سنجار العراقي المتاخم للحدود العراقية السورية كان في حقيقة الأمر جزءا من محاولة المالكي غلق إحدى بوابات الدعم التي يقدمها أكراد العراق لثوار سوريا وأكرادها بشكل خاص، لكن هذه المحاولة فشلت وعادت هذه الفرقة من حيث أتت !!

صراع النواب

أما الوجه الثالث، فهو مجلس النواب العراقي، وهنا حدث بلا حرج عن تناقضات ترتبط بعقيدة ومذهب كل كتلة من كتل البرلمان أو حتى كل نائب فيه، انطلاقا من حسابات المصالح المباشرة من جهة، وفي ظل تغلغل النفوذ الإيراني لكواليس هذا البرلمان من جهة أخرى.

فالنواب الموالون لإيران يحذرون الحكومة العراقية من الرضوخ للإرادات الأميركية والعربية التي “تحاول تغيير إستراتيجية المنطقة بما يخدم التيار (الوهابي) في المنطقة وإسرائيل”.

ويضيف أحد نواب التحالف الوطني (شيعي) “على الحكومة أن تعلم أنه بعد إسقاط النظام في سوريا ستعمل الدول الداعمة لإسقاط النظام السوري ومنها قطر والسعودية على إسقاط نظام الحكم في العراق لأنهم غير راضين على الحكومة التي يعتبرون أنها تمثل الشيعة”.

أما الكتل التي تنظر بعين من الريبة والخوف للنفوذ الإيراني في العراق، وتحت قبة وكواليس البرلمان العراقي، فإنها تسعى لنقل رسائلها إلى ثوار سوريا وشعبها أنها، بما تمثله من ثقل شعبي عراقي، مع ثورتهم ومع نضالهم من أجل الحصول على حريتهم ومطالبهم التي عجز النظام في سوريا عن تحقيقها بشكل سلمي لفترة طويلة من الزمن.

ولعل المطلع على أحوال مجلس النواب العراقي يعلم حجم الاحتقان الذي أوجدته الأزمة السورية بين النواب، مع علم جميع النواب أن ثورة سوريا ستحدد مصير العراق العربي مستقبلا كما ستحدد حجم ونفوذ إيران في عموم المنطقة.

موقف الشعب

ويبقى الوجه الرابع وهو الأهم لمستقبل العلاقة المتجذرة بين الدولتين، وهو موقف الشعب العراقي، هذا الموقف اتسم برفض السلوك والإجراءات المهينة من قبل الحكومة العراقية تجاه أشقائهم السوريين الذين لجؤوا إلى الأراضي العراقية.

ثم أطلقت الكثير من الجمعيات والمنظمات والهيئات العراقية حملات تضامن وتأييد للثورة السورية ضد النظام الحاكم، وفتحت المضايف وهيأت المدارس والأندية الرياضية للترحيب بمن لجأ إلى العراق من السوريين.

مع التأكيد على أن ترحيب العراقيين لم يقتصر على طائفة معينة أو مذهب أو قومية بعينها، وهو في حقيقة الأمر رد عملي على رفض العراقيين للنفوذ الإيراني في العراق والذي يسعى لتكريس فكرة أن ثوار سوريا هم مناوئون وأنهم مرتبطون بتنظيم القاعدة والوهابية لترهيب بعض الناس منهم.

لكن هذا الادعاء لم ينطل إلا على أقل القليل، وكل يوم يمضي تبرز للمتلقي العراقي صور بشعة عن ماهية حكام سوريا وطريقة تعاملهم مع شعبهم، والأهم من ذلك يبرز لديهم وهن حكومتهم وتناقضاتها حين كانت تكيل أطنان التهم ضد الحكومة السورية وتعتبرها مسؤولة عن كل عمليات الإرهاب في العراق، ثم ها هي اليوم تدافع عنها إرضاء لموقف القائم على أمورها في طهران بحسب آراء الشارع العراقي التي تناقلتها بعض الفضائيات العراقية.

إن العراقيين باختصار ينظرون إلى تغيير الأوضاع في سوريا على أنه مفتاح التغيير الإيجابي في بلادهم، وعلى أنه أيضا فرصة لتعزيز أدوار وقوة المعارضين للتغلغل الإيراني في بلادهم، ولعل الكثير من زوايا هذه النظرة صحيح، لذلك تخشى حكومة العراق ومن خلفها حكومة طهران حدوث التغيير في سوريا، ويحاولان تقديم أية مقترحات ورؤى جديدة لحل المشكلة في سوريا لكسب الوقت أولا، وللتحكم في القادم على رأس الحكم هناك ثانيا.

يبقى أخيرا الموقف الأميركي من مواقف حكومة العراق المثيرة للجدل، وهو الذي دفع آلاف القتلى والجرحى ومئات المليارات من الدولارات ثمنا لاحتلال العراق وطمعا في تحويله إلى بلد حليف للولايات المتحدة.

هذا الموقف عبرت عنه مؤخرا وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون خلال محادثتها هاتفيا لوزير خارجية العراق هوشيار زيباري في 22 أغسطس/آب الماضي.

وقبل ذلك بيومين تصريح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة مارتن ديمبسي خلال زيارته لبغداد ولقائه المالكي حيث قال إنه جاء للضغط على الحكومة العراقية لتغيير موقفها حيال سوريا سعيا من واشنطن باتجاه الضغط على الرئيس بشار الأسد ومحاصرته وعزله، من خلال تفكيك وتشظية الجبهة الإقليمية والدولية المؤيدة للأسد والرافضة للثورة السورية.

وقد أعرب ديمبسي عن ذلك بعد لقائه المالكي بالقول “العراق يستطيع لعب دور مؤثر في الأزمة السورية أكثر من أية دولة أخرى في المنطقة نظرا لموقفه المتميز خلال هذه الأزمة”.

وحلل مراقبون عبارة “موقفه المتميز خلال الأزمة” بأن واشنطن أعربت في أكثر من مناسبة عن عدم رضاها عن موقف بغداد حيال الأزمة السورية.

ونقلت مصادر مطلعة على جانب من المباحثات بين الجانبين، أن الجنرال ديمبسي قال لمن التقاهم من الساسة العراقيين بكل وضوح وصراحة إن استمرار موقفهم المؤيد للرئيس بشار الأسد والمتناغم إلى حد كبير مع الموقف الإيراني، لم يعد مقبولا بالنسبة لواشنطن، وأنه سوف يؤثر سلبا على العلاقات المستقبلية بين الطرفين.

هذا فضلا عن أن من شأن ذلك أن يقلص فرص الدعم التي يمكن أن تقدمها واشنطن وأطراف دولية وإقليمية أخرى للعراق من أجل تجاوز معوقات وتحديات سياسية وأمنية واقتصادية يواجهها حاليا. لا بل إن أكثر ما أكد عليه ديمبسي خلال لقاءاته ببغداد أن “المراهنة على نظام الأسد خاسرة”.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى