العربية والأصولية: تأملات لغوية (ودينية) سياسية/ ياسين الحاج صالح
يتعلم دراس اللغة العربية أن هناك طريقة صحيحة في الكلام والكتابة، عليه أن يقيس ما يقول ويكتب عليها. وتحيل هذه الطريقة إلى معجم اللغة العربية ونحوها وصرفها على نحو ما تشكلا قبل أكثر من ألف عام على يد نحّاة ولغويين ومعجميين، استثمروا ”الشعر الجاهلي“ والنص القرآني (وليس ”الحديث“، لكونه لم ينقل بحرفه، كما يقولون).
هذا هو ملخص إيديولوجية الفصاحة التي تتضمن أن هناك أصلا صحيحا قديما للأقوال، يجب العودة إليه وتحكيمه بما نلده أو نولِّده من أقوال جديدة. كان نوام تشومسكي، اللساني الأميركي، قد جعل من توليد عبارات جديدة، لم يسبق للمتكلم أن سمعها من قبل، الواقعة اللسانية الأساسية، وبنى تصوره لقواعد النحو التوليدي، ولبنيات نحوية فطرية، حولها.
ولدت الفصحى مع تقعيد اللغة العربية بدءا من القرن الثاني الهجري، أي منذ صار هناك معيار للكلام الصحيح. ”العامية“ والفصحى نتاج التقعيد، لم تكونا موجودتين قبله، كما الجنحة والجريمة والبراءة نتاج القانون، وكما ”الكبيرة“ و”الصغيرة“ و”الكفر“ و”الإسلام الصحيح“ نتاج الفقه. قبل التقعيد لم يكن هناك لغة فصحى وعامية (لا يبعد أنه كانت هناك قواعد ضمنية للكلام العربي الجيد). يقال إن ”الفصحى“ هي عربية قريش.
ارتبطت ولادة الفصحى بشيئين مترابطين في ما بينهما: الإسلام ونصه المقدس، والامبراطورية التي شكل الإسلام عقيدتها المشرّعة، والعربية مستودع رموزها، وجرى ”التدوين“ و”التقعيد“ في ظلها. في الوقت نفسه اكتشفت العروض بوصفها ”نحو“ الشعر أو مقياسه، ووضع الفقه بوصفه ”نحو“ العقيدة، ودوّن الحديث وكتبت السير وبدئ بكتابة التاريخ.
نلاحظ بصورة عابرة أن ”التدوين“ كله موجه نحو الماضي، نحو وضع قواعد ونماذج استنادا إلى مواد معطاة سلفا. على أنه أسس لحركة ثقافية مزدهرة طوال أكثر من قرنين إضافيين.
كانت الفصحى علامة على امتياز اجتماعي. فهي مرتبطة بالنص المقدس وبالكتابة، وبـ”الذين يعلمون“، بـ”الخاصة“، وسيسمى التقصير عن الفصحى بالعامية، نسبة إلى ”العامة“ أو ”العوام“، أولئك الذين لا يكتبون، الأميين عموما. ولا يستوي الأولون والأخيرون.
1
تحدّثت اللغة العربية في القرن التاسع عشر تحت تأثير ”الصدمة الغربية“، بحسب تعبير هشام جعيط. صارت أساليب التعبير أبسط وأكثر نثرية، وتم التخلص من السجع، وصارت النصوص المكتوبة أقرب إلى حياة الناس في العالم المعاصر. دخلت كذلك أنواع أدبية ومجالات لمعرفة منظمة جديدة بالإنسان، فضلا عن انفجار في التكنولوجيا، والعلوم المضبوطة وشبه المضبوطة. جرى تعريب كلمات كثيرة، أو اشتقاق كلمات جديدة من جذور عربية معروفة، وتغيرت معاني كلمات قديمة، وتنافست على تسمية بعض الأشياء كلمات عربية وأخرى وافدة.
لكن ظل تعليم العربية وقواعدها مشدوداً إلى نمط قديم، إيديولوجية الفصاحة، ما يتعارض في كل لحظة مع ممارسة متكلمي العربية وأكثر كتابها. هناك تناقض مقيم بين إنتاجيتنا اللغوية الحية وبين قوى الضبط والتصحيح والمراقبة المتوطنة في مؤسسات النشر والتعميم، من صحافة ودور نشر ومحطات إذاعة وتلفزيون. وهو في العمق تناقض بين ممارسات الناس اللغوية وطرقهم في توليد الدلالات والمعاني، وبين مؤسسات التعليم والتعميم والسلطات السياسية التي تديرها. وتطور لدى كثيرين منا، بفعل مؤسسات التعليم هذه، ضمير لغوي صارم، لا يكف عن تقريعنا على آثام لغوية نرتكبها كل حين، ويشدنا إلى أصول صحيحة ملزِمة. ويبدو أننا بلغنا اليوم طورا متقدما من دورة حياة هذا الضمير، بحيث لم يعد أكثرنا منشغل البال بالكلام الصحيح الفصيح، بل يخرج من هذا الصراع المهين، وربما يستهين بالعربية كلها. قد يأخذ ذلك شكل الكتابة بلغة لا تلتزم أي ضرب من القواعد، بسبب صعوبة هذه القواعد والجهل بها. ولا يندر أن يكون الجهل هجوميا، وينسب لنفسه فضائل تحررية. أو قد يجري الامتناع عن تعلم العربية أو الاكتفاء بالحد الأدنى منها لمصلحة لغات أجنبية، وبدافع عدم تناسب الجهد والوقت المبذولين على تعلمها مع فرص الترقي الاجتماعي التي يتيحها هذا التعلم.
الطريق الذي أوصلنا إلى هذا الضرب من العدمية اللغوية يبدأ من الفصحى الصعبة، وضميرها الصارم، ويمر بالفصام وازدواج الشخصية، وينتهي إلى التخلي.
”أخطاء“ معظم متكلمي العربية وكتّابها في القواعد لا تدفع إلى مراجعة القواعد، بل إلى الجمع بين متناقضات: القواعد ملزمة، لكن لا نلتزم بها؛ وما نلتزم به هو كلام وكتابة لا نقر لهما بالصحة. إنها إرادة العيش في عالمين في آن معا: عالم الفصحى التي نقرأ بها، وعالم المحكية التي نتكلمها، نتمزق بين ”العالِم“ الثابت و”العامي“ المتحرك، بين المكتوب المثالي والمحكي الفوضوي. السلطة للفصحى، لكن الحياة للعامية.
وهذا وضع ممزِّق ومهين، يفضل كثيرون، صوناً لكرامتهم، التحول ما استطاعوا نحو لغات لا يعاني المرء من أزمة ضمير حيالها لكونها أجنبية، فوق كونها أوفق للترقي الاجتماعي. لغتنا الصارمة تهيننا، فنرد بإعدامها. العدمية تأتي بعد الإهانة.
2
لكن لماذا بقيت القواعد التي لا نلتزم بها ضميراً محاسبا صارما؟ على الأرجح، لارتباطها بما وراء اللغة من عالم اجتماعي وسياسي. لأن العربية ليست لغة فقط، وإنما هي ركيزة للهوية من جهة، وحامل للرسالة الإلهية والنص الديني المقدس من جهة ثانية. وهما معا مما لا تستغني عنه السلطة في مجالنا الثقافي لأنهما الرصيدان الرمزيان الكبيران لها. لكن في الوقت نفسه لا قيام لهما ولا استمرار دون سلطة مركزية، السلطة السياسية أساسا، لكنْ السلطة الدينية أيضا. يعاد إنتاج اللغة الصحيحة والدين الصحيح، الفصحى و”الفُقْهى“، عبر إعاة إنتاج السلطة لنفسها. في مجالنا العربي تدهورت العربية والإسلام في عصور ومناطق تدهور السلطة المركزية، انفلتا من القواعد، فصارت اللغة ”عامية“، وصار الإسلام ”شعبيا“.
لكن في عالم السلطة، وظيفة القواعد لم تعد ضبط الكلام وتسهيل الفهم، بل حفظ السلطة، سلطة الدولة وسلطة الدين، والنظام الاجتماعي والسياسي الذي يضع أهل الدين والدولة في مواقع ممتازة، بينما يحتفظ بالمواقع الدنيا للعوام الذين يتكلمون العامية.
ثبات النظام اللغوي والنظام الديني هو بالخصوص من مقومات شرعية سلطات سياسية، لا تكاد تستمد شرعيتها من أي شيء آخر. من يتجاسر على المبادرة إلى إصلاح كبير في قواعد العربية، لغة القرآن؟ ينبغي أن يكون حائزا شرعية كبيرة سلفا حتى يستطيع ذلك (أشار إلى هذه الفكرة عبدالله العروي في كتابه ”ثقافتنا في ضوء التاريخ“). وهذا غير متاح في مجالنا.
في المحصلة، ليس لأسباب لغوية فقط هناك قواعد صارمة لا يُلتزم بها، بل لأسباب سياسية تتصل بالسلطة والشرعية.
ومن جهة أخرى، كلما كانت قواعد الكلام الصحيح أكثر صرامة، تحقق شرط الندرة الذي يقلل من عدد المتمكنين من الصواب، ويعود عليهم بامتياز خاص. سلطة الفصحى، اللغة الصحيحة، مثل سلطة الدين الصحيح، يحركها شرط الندرة الذي يعود بنفوذ أكبر على حائزيه، ويضيق الطريق بين عموم الناس وكل من الكلام الصحيح والدين الصحيح. بعبارة أخرى، الفصحى و”الفُقهى“ مصممتان لإنتاج موسع للعامية وللدين الشعبي كشرط وجودي لتمايزهما وسلطتهما هما. لا يوجد الفقيه والمفتي و”العالم“ دون أن يوجد معه من لا يفقهون ولا يعلمون، ولا يوجد الفصيح دون وجود العامي. شرط الندرة في الحالين هو شرط التضييق، إنتاح العلم الذي لا يتاح لكل الناس، ولا يسمح لكل الناس بولوج أبوابه. يقف على الأبواب من يضعون القواعد ويحددون الصح والخطأ، من نحويين وفقهاء، ورجال سلطة (وآباء وذكور). ومن الطبيعي أنهم يضعون القواعد التي تضعهم في موضع الأمناء على الممارسات اللغوية والدينية والعائلية والجنسية.
امتلاك اللغة الفصحى، النادرة، هو مصدر شرعية لمتكلمين وكتاب، وشعراء، لا ينالون بدورهم اعترافا أو شرعية من مصدر آخر. يجني هؤلاء كلهم مكاسب رمزية، ومادية، من تمكنهم التفاضلي من لغة تميزهم عن العموم.
3
حين لا يجري التحرر من الأزمة والفصام بالخروج من العربية وعليها، يتواتر أن تجري معالجة أزمة الضمير اللغوي بالانكفاء نحو عالم ”نقي“ قديم، على مستوى مواضيع الكلام ومعجمه وأغراضه. هذا الخيار يتوافق اليوم عادة مع خيار مماثل على مستوى الدين، متولد عن أزمة الضمير الديني بفعل تعقد أوضاعنا المعاصرة ومثابرة رجال الدين على تقريع عموم المؤمنين على تقصيرهم عن مثال مقعّد يزداد تعقيدا وبعدا عن أي ”فطرة“ سوية، مثال مفصل في كتب الفقه. وبفعل هذا الخيار المزدوج، يجري العيش في عالم ديني متخيل، قواعده لا زمنية، تتعايش فيه رموز وممارسات لغوية ودينية من زمن الرسالة ومن أزمنة امبراطورية قديمة، ويجري الكلام فيه بـ”فصحى أجنبية“، لغة غريبة على أي بيئة حية في مجتمعاتنا قبل غيرها. مجاهدو القاعدة مثال على هذه المعالجة الجذرية لأزمة الضمير اللغوي والديني.
لكن بينما يقوّض هذا الخيار التوفيقية أو ازدواج الشخصية على مستوى أو مستويين، فإنه يرفعها إلى مرتبة أعلى: ازدواج على مستوى الوجود والكيان. فمن مقومات جهاد المجاهدين قواعد ولغة وأدوات اتصال، لا يتحكمون بإعادة إنتاجها، ولا نفاذ لهم إلى إنتاج ”الهاردوير“ لا ”السوفتوير“ لهذه الأدوات، لا جسميتها ولا برامجها.
هنا التوفيقية كيانية: عيش في عالمين، عالم عصري جدا هو عالم الاتصال والأدوات، وعالم قديم جدا هو عالم المعاني. هذا وضع سيتمزق يوما.
لكن هنا أيضا السر هو السلطة. السلطة الكلية التي تعاقب الخروج عليها بالعنف هي العلاج الشامل لمشكلات اللغة والدين والسياسة والإنتاج.
لكنها، عبر ذلك، تمسي هي المشكلة الشاملة لأنها ليست علاجا لأي شيء. السلطة عقيمة، والسلطة الكلية عقيمة كليا، وتعقم الكل. مشكلة العرب النوعية العريقة هي السلطة. السلطة في مجالنا عجماء وبهيمية ولا قواعد ذاتية لها، هي قاعدة نفسها، سلطة خام، اعتباط وتعسف. جرى تقعيد اللغة والدين (والشعر) في ظل سلطة قاعدتها التعسف والاعتباط. لعل هذا أدى، من باب التماس الشرعية، إلى تمسك مبالغ فيه بقواعد الدين واللغة والشعر. فتأدّينا إلى فصام على مستوى آخر: قواعد مفرطة التصلب في العالم الرمزي، واعتباط لا يُحد في عالم السلطة. السلطة تستمد شرعيتها من خارج مجالها، فتعمل على تجميد خارجها.
وفي هذا ما يقترح مدخلا لسياسة لغوية ودينية تحررية: ترويض غول السلطة، أنسنته، وإخضاعه لحاجات السكان. إذا تحقق لنا ذلك، خف الضغط على اللغة والدين، وصار تيسير قواعدهما أمرا أهون. هذا لأنهما يتوقفان عن كونهما ركائز لشيء آخر، للهوية أو للشرعية أو للأمة. لا يتعذر إصلاح الدين حين يكون دينا، بل إن إصلاح الدين، الإسلام، يتكثف كله في جعله دينا، عقيدة للمؤمنين به. وإصلاح اللغة ميسور حين يخف الضغط عليها من خارجها لتلبية حاجات أخرى تتجاوز كونها أداة تواصل وإبلاغ.
والواقع أن العربية تتعرض اليوم لضغوط من داخلها ومن خارجها. الضغط الداخلي مصدره إيديولوجية الفصاحة، واقترانها بمبدأ الندرة والتضييق، أما الضغط الخارجي فله وجهان: وجه سياسي يتمثل في توسلها لأغراض الهوية والدين والشرعية، ووجه ثقافي يتمثل في ما يقارب الاقتصار عليها لتمثيل العالم. ثقافتنا ثقافة كلمة أساسا، ولدت من نص وعاشت في نصوص، ولم ”تخرج على النص“. من شأن لغات جديدة تتوسل الحجر أو الشكل أو الصوت أو الصورة أن يخفف الضغط عن العربية، ويتيح لها بيئة أنسب للتطور، فوق أن اللغات الجديدة غاية بحد ذاتها. مجتمع ”يتكلم“ عدة لغات أغنى وأكثر حياة من مجتمع يتكلم لغة واحدة، لغة الكلام.
4
تشدد قواعد العربية، نحوا وصرفا ولفظا ومعجما، وإحالتها كلاً إلى أصل صحيح قديم، يتضمن ”فلسفة“ تشجع على خفض قيمة اليومي والمحكي والمعاش والمتغير والمهجّن والتجربة الحية في النظرة إلى العالم، لمصلحة المكتوب والقديم والأصل والثابت والنقي والأصيل. وسيكون المعاصر نسخة محرفة عن أصل صحيح قديم بدوره، ضللنا السبيل إليه (في نظرة القرآن إلى أديان أهل الكتاب أصل مقدس لهذه النظرة). سيبدو التاريخ ضلالا، غبارا يتراكم على صفحة الأصل النقي، ويتعين نفضه بين حين وآخر، ربما كل قرن مرة (”حديث“: يبعث الله إلى أمتي كل قرن من يصلح لها دينها!). ونفض الغبار، أي مقاومة التاريخ والعودة إلى الأصل، هو الإصلاح بالمفهوم الإسلامي الموروث، وهو السنة، كدينامية تقليد، حسب عبدالله العروي في ”السنة والإصلاح“.
أولوية الأصل القديم الصحيح تنعكس في واقعة متواترة عند متكلمي العربية، الذين لا يعرفون غيرها بخاصة: قلما نحيل إلى وقائع معاصرة عاينّاها بأنفسنا، قلما نتمكن من وصف خبرة حية، قلما نضرب أمثلة من المعاش وواقع حياة الناس؛ نقرر ولا نشرح، ونجمل ولا نفصل. هناك مجمل مختصر واف للأقوال الصحيحة، يغني عن إيراد التفاصيل ووصف الوقائع وضرب الأمثلة.
باختصار، لدينا استعداد قوي لأن نتكلم ”قواعد“ لا ”قوائم“، أصول لا فروع وتفريعات، مجردات لا عينيات؛ من فوق وعن فوق، لا من تحت وعن تحت. استعدادنا المُضمّن في الفصحى موجه نحو ”الكلام الكبير“، ربما لأن نموذجنا هو كلام السلطة أو الله أو ”أهل العلم“. الكلام الكبير هو كلام الكبار. وفي عالمنا هناك انفصال بين الكبار وبين عالم التفاصيل والأشياء الصغيرة والناس الصغار. وكبارنا هم كبار الأصل وليسوا كبار الفعل.
وفي عالم كهذا تنفصل الدوال عن المدلولات، والكلمات عن الأشياء، ليكون كل شيء في كلامنا يحيل إلى كلام. يحيل كلامنا على ”مفاخذة الرضيعة“، مثلا، إلى سلسلة لغوية دينية قديمة، وليس إلى صورة حسية لرجل بالغ ”يفاخذ“ طفلة رضيعة (ماذا بشأن مفاخذة امرأة لطفل رضيع؟). اللغة القديمة تحمي من الصورة المزامنة التي يشمئز منها كل إنسان سوي، ويتكون حول الاشمئزاز ضمير محاسب (أدين بالمثال للصديق فادي العبدالله). وتحيل فتوى رضاعة الكبير إلى دلالات كلامية تتناسل من بعضها عودا إلى مرجع مقدس، وليس إلى مشهد مصور لرجل يرضع من ثدي زميلته بحضور ”شهود عدول“ في مكاتب إدارة معاصرة. وفي أول السلسلتين ومنتهاهما معا السلطة، سلطة قديمة تقرر صواب الأشياء، وصواب لغوي ديني يقرر شرعية سلطة قائمة اليوم.
5
الفصاحة ليست صفة للمتكلم أو الكاتب، لمنتج الأقوال والنصوص، بل هي صفة لكلمات وتراكيب ومعجم ألفاظ، ومن ورائها لمرجع، لسلطة مقرِّرة ومثبِتة. قد يقول الشخص كلاما ركيكا مبتذلا، أو قديما لا حياة فيه، لكنه ”فصيح“، يجري تقديره بقدر غربته عن كلام الناس وممارستهم اللغوية اليوم. الفصاحة ليست خاصية لنا أو لتفكيرنا، بل هي لشيء سابق لنا، مكتمل بصرف النظر عنا وعن ممارستنا.
وقد نلاحظ بالمقابل أنه ليس لدينا مفهوم متميز عن التفكير الفصيح. الفصاحة، كما سبقت الإشارة، صفة لمعجم وكلمات، وليس لتفكير ومتكلمين، ويمكن لكلام بـ”العامية“ أن يكون ”فصيح“ التفكير والمعاني، فيما يحتمل لما يقال بالفصحى أن يكون غثا مبتذلا، يخلو من أية فكرة مبتكرة أو لمعة مفيدة. فهل هناك صلة بين افتقارنا إلى نحو للتفكير الصحيح، ووجوب انضباطنا الصارم بنحو للكلمات الصحيحة؟ نعلم أن الفلسفة حوربت في ديارنا من قبل دعاة الدين الفصيح، واعترض دعاة للكلام الفصيح على المنطق على أرضية افتراض أنه نحو لغة أخرى. ليس كذلك. وبينما قد لا يكون المنطق والفلسفة نحوين كونيين، إلا أنه لا غنى عن نحو مثمر للتفكير والمعرفة. الفصاحة ليست كذلك، ولا ”السنة“.
المثالية اللغوية المضمنة في مفهوم الفصاحة هي منبع محتمل للنظرة الأصولية إلى العالم، النظرة التي ترجع أفعالنا اللغوية المتجددة إلى أصول نبيلة قديمة لا تمس، وتتحفظ حيال الأفعال في عمومها إن لم تكن على ذلك النسق المقرر. هذا موقف مضاد لابتكار الأفكار الأفعال، وأنماط الحياة، والعقائد، ومشجع على السلوك المحافظ والركون للمألوف، نعرفه في حياتنا الاجتماعية في المدن والأرياف.
وتكمل هذه النظرة الأصولية مفعول الأصولية الدينية التي تُحكّم بدورها أصولا قديمة غير متغيرة بممارسات المسلمين الدينية، المتأثرة حتما بأوضاعهم المتغيرة وتواريخهم. سار التاريخ في بلداننا كلها باتجاه تحول الإسلام إلى دين لأفراد وجماعات من المؤمنين، في استقلال عن السلطة التي كانت امبراطورية في معظم تاريخها. أو بالأحرى تمايز إسلامان: إسلام شعبي أو عامي يقوم على الإيمان وعمل الخير و”كل الناس خير وبركة“، لكنه بلا قواعد ولا يثق بالسلطة، وإسلام سلطة، فقهي وشرعي ولا يثق بالعامة (يقوم على مبدأ الندرة أو التضييق، ندرة الصواب وتضييق أبواب بلوغه).
الأصولية احتجاج على هذا التمايز، وعودة إلى ما يفترض أنه الأصل الواحد الصحيح، أي الدين المُقعّد في ظل الامبراطورية.
والفقه حيال الممارسة الدينية هو في مثل موقع النحو والصرف حيال الممارسة اللغوية. وخلفهما معا مقتضيات السلطة والشرعية، وليس بحال دواعي التفاهم وموجبات الإيمان. والإسلامات الشعبية المتصالحة مع التاريخ حيال الإسلام الفقهي الواحد الذي لا يكف عن مقاومة التاريخ، مُسلّحا بـ”السنة“، هي في مثل موقع المحكيات العربية من العربية الفصحى الواحدة.
وهما معا، اللغة الفصحى والإسلام الفقهي، يحملان أشباح الامبراطورية التي تم تقعيدهما في ظلها، كما سبق القول.
6
هل نزكي، إذن، المحكية بدلا من الفصحى؟ والإسلامات الشعبية بدل الإسلام الفقهي؟
تقوم الفصحى بدورين كبيرين: إتاحة استمرار تاريخي يمكننا من قراءة موارد الماضي، وإتاحة تواصل ثقافي يمكّننا من متابعة ما يكتب ويقال في بلدان أخرى ناطقة بالعربية.
هذا مهم جدا.
في تركيا صحا الناس يوما فوجدوا أنفسهم أميين، وعليهم أن يتعلموا لغتهم بأبجدية جديدة. وبعد حين صار ممتنعا عليهم قراءة كتبهم وآدابهم الأقدم قليلا إلا كما تقرأ آداب أجنبية، أي بتعلم خاص. وبالفعل ذهب جيل كامل إلى المدرسة الابتدائية مرتين بفعل ”الثورة اللغوية“ عام 1932. انفصلوا عن ماضيهم، واقترن ذلك بقمع لغات أخرى يتكلمها الناس في البلد، منها العربية، فضلا عن الكردية والأرمنية، وبمحاولة تتريك اللغة التركية على مستوى المفردات. هذه الأخيرة لم تنجح بالقدر المرغوب حينها.
لكن في المحصلة، تبدو اللغة التركية المعاصرة، وعمرها أقل من قرن، أقل مطاوعة من العربية لنظرة أصولية إلى العالم.
لا ينبغي أن يكون ما جرى في تركيا ملزما في أي بلد عربي. من شأن فرض محكية ما كلغة فصحى في أحدها أن يؤدي إلى قمع المحكيات الأخرى فيها، فوق اللهجة الفصحى الحالية، وربما أية لغة محلية أخرى. وفوق ذلك الانفصال عن موارد الماضي الثقافية.
لكن هل يمكن مقاومة الأصولية والامبراطورية في تفكيرنا وثقافتنا وسياستنا وتديننا دون قطيعة مع عقيدة الفصاحة والإسلام الفقهي؟
في كل حال، لا بد من سياسة متسقة في هذا المجال. لا بد من قرار، ومن جيل يتحمل المسؤولية. الفوضى، الاضطراب الفكري والقيمي والرمزي، تزكية مستمرة للنظام القديم، نظام الفصاحة و”الفقاهة“، اللغة المتخشبة والتدين التشريعي المتخشب بدوره، ولأشباح الامبراطورية المكنونة فيهما. الأوضاع الدينية الراهنة نتاج انعدام أية سياسة ورؤية في العمل العام على مستوى العالم العربي ككل وكل بلد، أكثر مما هي نتاج سياسة ورؤية محددتين. ومثلها فيما نرى الأوضاع اللغوية المتميزة بالفصام أو الازدواجية. الفوضى هي أم الأصولية.
ووراء انعدام السياسة والرؤية في الحالين، تثبّت مفرط على السلطة، واستهلاك الموارد والطاقات العامة في حماية وتثبيت أنظمة للدولة (وللدين وللأسرة وللشخصية)، لا مضمون قيميا أو فكريا لها من أي نوع. الأنظمة السياسية أضعف شرعية وأقل تمثيلا للعام الوطني من أن تتجاسر على المساس بقواعد قديمة، محتواها العام أكبر رغم كل شيء من المحتوى العام لحداثة واقعية، ليست متعالية على العامة فقط، وإنما هي معادية لهم عداء عنصريا.
يعزز من هذا الشرط أيضا انشغال أكثر العاملين في الحقل العام بالوجاهة والنفوذ والأسبقية على غيرهم، أي بالسلطة كذلك، وليس بمفردات مجالهم الخاصة وأنشطته النوعية. يحظى العاملون العامون هنا أيضا بقدر متواضع من الشرعية، ينال من قدرتهم على توسيع مساحة ما ينبغي التفكير فيه والكتابة عنه، وإثارة مشكلات حساسة، تثير عليهم غضب جهات سياسية أو دينية أو مالية لا يطيقون غضبها. المزايدة في الولاء للأصول أو للثوابت يمكن أن تكون الخطة المضمونة لدفاع سلطة لا شرعية لها من جنسها. الممانعة مثال ناطق.
ما نفترض أنها سياسة متسقة ناجعة تتمثل في الديمقراطية اللغوية والحرية الدينية.
على مستوى اللغة، لا بد من الاعتناء بالمحكية ومن تطوير الفصحى (العربية هي الفصحى والمحكية، يقول أحمد بيضون)، والتوسع في تعلم اللغات الأجنبية، ورعاية اللغات المحلية التي يتعين أن تتكفل الدول بتعليمها للراغبين. التوسع أيضا في تعلم العربية، مع مفهوم جديد للقواعد يضعها في خدمة المتكلم والمعنى، وليس العكس. ”الأصل“ في هذا المجال هو حرية المتكلمين، والتحول المطلوب يتمثل في الانتقال من مركزية الفصاحة إلى مركزية الكلام المفيد، ومن مركزية القاعدة المقررة إلى مركزية المتكلم المجدِّد، وإعادة بناء العربية حول ذلك. وهو ما يعني الاهتمام بالممارسات اللغوية الحية على حساب القواعد الصحيحة المقررة، ويعني على مستوى التعليم أولوية النصوص والأفعال اللغوية المعاصرة والأحدث، على حساب الأقدم منها.
رغم ثبات نحوها وصرفها، العربية تغيرت كثيرا في المائة وخمسين سنة الماضية، لكن تاريخ تغيراتها لم يكتب بعد.
وهي لا تكف عن التغير، ولا يكف المتكلمون عن تحرير أنفسهم لغويا. الحرية اللغوية لا تنتظر أحدا ليمنحها. نحن نستخددم اللغة اليوم بحرية فعلا. في الغناء والدراما السينمائية التلفزيونية تستخدم المحكية دونما إشكال، ونخلط في كلامنا مفردت أجنبية، ويتغير لفظنا لحروف عربية عبر معاشرة لغات أخرى، وفي وسائل التواصل الاجتماعي يعتمد كثيرون منا المحكية في الكتابة ممزوجة بكلام غير عربي، وضمن إطار اتصالي عالمي (فيسبوك، تويتر…). لكن هذه حرية بلا نواظم، ولا يستغنى عن النواظم من أجل التفاهم، ومن أجل إعادة إنتاج الإبداعات الحرة بالذات. وعلى مستوى الدين، تلزم حماية التدين الشعبي وإتاحة أدوات ومناسبات له للتعبير عن نفسه، وضمان استقلال المؤسسة الدينية في عملها عن السلطات السياسية، والدفاع عن الحريات الدينية للجميع، بما فيها حرية ”تنزيل“ أديان جديدة. والتحول بالمثل من مركزية الشريعة إلى مركزية الإيمان، من مركزية الفقيه أو العالم إلى مركزية المؤمن، وإعادة بناء الإسلام حول ذلك أيضا. وكذلك التحول على مستوى التعليم الديني باتجاه عرض أنماط التدين الفعلية (وليس الاكتفاء بمثال التدين الثابت)، ونحو النقاشات والأفكار الدينية الحديثة والأحدث.
لا أحد هنا أيضا يستطيع أن يمنع الناس من حرية الاعتقاد ما دام الاعتقاد فعلا قلبيا. الإكراه الديني ليس فعلا دينيا بل هو فعل سلطة، وهو مصدر لإهانة لن تلبث أن تنقلب إلى عدمية. العدمية الإسلامية المعاصرة تولدت عن إهانة جمعية، دينية وغير دينية، أوقعتها بنا قوى محلية ودولية. والإهانة الإسلامية الراهنة (داعش وما شابه) سوف تتسبب حتما في عدمية معادية للإسلام ذاته، وليس للإسلاميين حدهم، وقد يكون أقرب مما نتخيل الوقت الذي نرى الناس فيه يخرجون من ”دين الله“ أفواجا.
ليس المعول عليه إضعاف العربية الفصحى والإسلام الفقهي، وإنما الحيلولة دون فرضهما شكلين صحيحين وحيدين ثابتين للغة وللدين في مجالنا الثقافي السياسي، وما يتولد عن ذلك من أزمات ضمير لغوية ودينية. هل من سبيل لذلك دون تعطيل آلتي السنة اللغوية والسنة الدينية، آلتي تعطيل التغير وإبطال التاريخ؟
7
في الختام، لا تتولد الأصولية عن مفاهمينا للغة والدين، ولا عن المفاهيم أيا تكن، إنها تتولد في سياقات اجتماعية وتاريخية عينية، تشغل الأوضاع السياسية والسكانية والاقتصادية موقعا أقوى في تعريفها من اللغة والدين. لكن لا نرى أن تغير الشروط الاجتماعية والتاريخية يكفي للحد من تولد الأصولية، دون تغيرات ثورية على مستوى مفاهيمنا اللغوية والدينية. الجمع بين كل الأشياء دون منطق، وهو سياستنا المبدئية والثابتة في كل الميادين، لا يثمر، ولا تثمر معه العدمية، التخلي عن كل الأشياء. نحتاج إلى ثورات كثيرة، لغوية ودينية واجتماعية، وطبعا سياسية، تطوي صفحة سياسة الجمع أو التوفيقية كيلا تكون العدمية بديلنا الوحيد. في مواجهة العدمية والازدواجية (أو التوفيقية)، الثورة، كقطيعة مع طرائق تفكير وعمل وتنظيم مكرسة، فكرة معقولة جدا.
الحرية اللغوية والدينية حاجة مستقلة، بعد ذلك وقبله.
(Kalamon: http://www.kalamon.org)
عدد 10، صيف 2014