العلويون.. عزلة ثانية؟/ راتب شعبو
في موجات النزوح البشري الواسع التي شهدتها سورية خلال سنوات الصراع المركّب الذي أعقب الثورة المحطمة، وُجدتْ موجة قليلة الصخب وعميقة الدلالة، هي عودة واسعة للعائلات العلوية من مختلف أنحاء سورية إلى الساحل الذي ولد فيه آباء هذه العائلات أو أجدادها.
كانت تلك الموجة قليلة الصخب، لأنها كانت فردية الطابع، وباردة غالباً، ولم تكن جماعية على شكل النزوح الواسع الناجم عن الضغط المباشر للمعارك، وتردد “الانتصارات”. وكانت قليلة الصخب أيضاً لأن هذه العائلات وجدت، في الغالب، مكاناً تعود إليه، أو أهلا وأقارب يستندون إليهم، إلى حين تأمين استقرارهم المؤقت أو الدائم. أي إنهم لم يحتاجوا إلى خيم أو مؤسسات عامة أو فرق إغاثة، ما جعل موجة الانكفاء هذه بعيدةً أكثر عن العين.
دافع هذه الموجة هو، في غالبية الحالات، الشعور بانعدام الأمان، بعد أن كثرت مماهاة النظام بالعلويين في الخطاب المعارض، وخصوصا بعد دخول السلاح على خط الثورة وسيادة اللون الإسلامي. ولدت مرويات ومشاهدات وأخبار وإشاعات كثيرة لدى هذه العائلات الشعور بأنها مستهدفة، أو قد تستهدف على الهوية. حتى العائلات العلوية المعارضة لنظام الأسد والمساندة للثورة اضطرت إلى ترك منازلها في مناطق سيطرة المعارضة، إلى أن باتت هذه المناطق خالية بالكامل من الوجود العلوي، سوى من ناشطين جريئين أو قل مغامرين، وهم لم يتمكنوا من الاستمرار هناك مع ذلك. وتشكل موجة الانكفاء المدني العلوي هذه، في ذاتها، إدانة لمعارضي الأسد، لكنها تنطوي أيضاً على مؤشر ضعف النظام الأسدي وتقهقره، ولذلك سكت عنها إعلام المعارضة وإعلام النظام معاً.
“ما قامت به سلطة الأسد على نحو متزايد باضطراد هو نفخ شعور إعادة الاعتبار العلوي وتحويله إلى شعور بالتفوق والتميز على أن العلويين هم “أهل الحكم””
لامست هذه الموجة المدنية الراجعة نقطة ألم عميقة في الوجدان العلوي، تتمثل في ذكريات العزل القديم الذي كان مفروضاً على العلويين. في الحق أن انفكاك عزلة العلويين لم يأت نتيجة لتأسيس دولة مواطنة ومساواة من شأنها أن تزيل أسباب العزل الذي يمكن أن يفرض على جماعات معينة، بقوة غلبات أو سلطات تمييز ديني أو عرقي، بل جاء نتيجة تأسيس دولة برئيس علوي، تعلو فيها متطلبات السلطة على متطلبات الدولة، ومن متطلبات السلطة التي تأسست بدءاً من 1970 تعزيز عصبية طائفية علوية، عبر الاستثمار في حيازة العلويين على قدر من الاعتراف السوري العام، لمجرد وصول رئيس من منبت علوي إلى أعلى منصب في الدولة، وما يحقق هذا من اعتبار، طالما كان العلويون محرومين منه.
ما قامت به سلطة الأسد على نحو متزايد باضطراد هو نفخ شعور إعادة الاعتبار العلوي وتحويله إلى شعور بالتفوق والتميز على أن العلويين هم “أهل الحكم”. كانت هذه الفكرة، بصيغ متنوعة، سيرة تحتية أو ضمنية في المجتمع العلوي، يرافقها دائماً السؤال عن مصير العلويين، لولا هذا النظام، أين كانوا وأين أصبحوا. هذا السؤال الذي يدور، بطبيعة الحال، في أفق سلطات تمارس التمييز السلبي بحقهم، بعيداً عن أفق الدولة الوطنية التي لا قيمة فعلية فيها للمنبت المذهبي أو العرقي للفرد. والواقع أن جل المعارضة العلوية لنظام الأسد كانت تنتمي إلى مسعى تأسيس مثل هذه الدولة الوطنية.
تحول الحق العلوي في الانعتاق من العزل والنبذ والتمييز السلبي المزمن إلى مصدرٍ للتعدّي على حقوق الآخرين في ظل سلطة الأسد. تجلى ذلك في ممارسات مؤسسات أمنية وعسكرية محدّدة يغلب عليها العنصر العلوي، وتحولت هذه الشوكة “العلوية” (وهي في الحق ليست شوكة علوية، بل شوكة نخبة متسلطة من العلويين، وغير العلويين، كانت تعتدي على عامة العلويين كما على غيرهم) إلى مصدر تميز للعلوي. في نظر غير العلويين من المجتمع السوري، استقرت صورة العلوي على أنه جزء من سلطة قاهرة، حتى لو كان في أفقر وأحط حال. وهكذا بدا كما لو أن فك عزلة العلويين كانت عملية مضادة للمجتمع السوري، أو قل مضادة لتطوره الوطني والديمقراطي. استعادة حق جماعة معزولة اتخذ مع الوقت شكل تهميش آخرين، واعتداء على مبدأ المساواة. فك العزلة بمنطق التغلب لا ينتج سوى صراعات التغلب الأهلية التي لا تنتج سوى الدمار.
“القصور الوطني الذي أعقب تعثر الثورة السورية ثم تحطمها هو من جنس القصور الوطني الأسدي”
لم يكن غريباً إذن أن نرى مع اندلاع الثورة ضد نظام الأسد ظهور ممارسة طائفية معاكسة مضادة للعلويين، استناداً إلى أسطورة تأسست تقول إنهم “أهل الحكم”، وهي أسطورة قبلها فقراء العلويين على مبدأ “صيت الغنى ولا صيت الفقر”، وروّجها، بشكل خاص، الإسلاميون السوريون الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين “للسنّة السوريين”، لأن هذه الأسطورة تشكل ركيزة للدعوة إلى “حكم الأكثرية السنية”، وبالتالي إلى حكمهم هم. لم تكن ردة الفعل هذه أقل ضرراً على المجتمع السوري من المسعى الذي سارت فيه سلطة الأسد في تعزيز وهم التميز العلوي، ونسف الثقة المتبادلة بين السوريين. وعليه، كما فشل نظام الأسد في فك عزلة العلويين، وغيرهم، عبر تأسيس دولة مواطنة، تعلو فيها متطلبات الدولة على متطلبات السلطة، وتكون “الأبدية” فيها للمصلحة الوطنية العليا، وليس للسلطة أو للرئيس، كذلك فشل رد الفعل المضاد لسلطة الأسد في إعلاء الوطني على الطائفي. هكذا بقي الطريق الوطني لتجاوز النزعات الطائفية مهجوراً.
تقول موجة الرجوع المذكورة إن الاندياح المدني العلوي الذي اتخذ مداه الأوسع في سورية بعد 1970 لم يكن تعبيراً عن اندماج وطني سوري، وتجاوز وطني للعزلة العلوية، وتقول، من ناحية أخرى، إن القصور الوطني الذي أعقب تعثر الثورة السورية ثم تحطمها هو من جنس القصور الوطني الأسدي، حيث تعلو السلطة ومتطلباتها على الوطن ومصالحه.
العربي الجديد