صفحات المستقبلياسين السويحة

الغائب في خطاب المعارضة السوريّة


ياسين السويحة

من ضمن كلّ السجالات العقيمة الجارية بين مختلف فصائل وهيئات المعارضة السوريّة، قد يكون ذاك الخاص بأيّ منها يمثّل الداخل السوري أكثرها عقماً واستفزازاً، ففي حين يرفع المجلس الوطني صور اللافتات المؤيّدة له في المظاهرات تردّ هيئة التنسيق بخطابٍ أجوف عن “معارضة الداخل” و”معارضة الخارج”، لكن الواقع المحسوس في المجتمع السوري يشير إلى انعدام وجود معارضة داخليّة بحق في سوريا، أي معارضة سياسيّة تطرح خطاب من الداخل يتحسس مشكلات الداخل وآلامه ويقترح حلولاً لها ويتم توجيهه إلى الداخل بلغة الداخل، بل أن هناك صراع بين معارضات خارجيّة في خطابها تشترك فيما بينها في خطاب التعميمات السطحيّة عن الوضع الداخلي والاكتفاء بالحديث عن “القمع”، “القتل”، “الفساد”، “السلب”، وتختلف وتتصارع في خطاب يلاحق بنية النظام السوري كـ “دولة خارجيّة”، حسب تعريف ياسين الحاج صالح، فصراعاتها فيما بينها ومواقفها من النظام تخص فقط التموضعات في محاور الصراع الإقليمي والموقف من التدخّل الخارجي. هكذا، لسوء الحظ، قد يقع المتابع للسياسات الإعلاميّة لمختلف فصائل المعارضة في حيرة من أمره إن أراد تبيان صورة شاملة وعامة للمشهد الذي دفع الآلاف من السوريين للخروج ومواجهة الموت ضد نظام الاستبداد والطغيان، فخطاب المعارضة بالمجمل يركّز على ما فعله النظام خلال العام الأخير فقط، دون الرجوع إلى الوراء إﻻ للحديث التعميمي عن القمع والسجن والفساد، دون خطاب سياسي ينتقد تلك المرحلة ويبيّن للقاصي والداني طبيعة هذا النظام.

هناك أسباب اقتصاديّة واجتماعيّة جذريّة دفعت السوريين للخروج والتظاهر ضد النظام، ومطلب الكرامة لم يكن فقط، أو حتى أساساً، ضد استبدادٍ سياسي (بالمعنى الضيّق للاستبداد السياسي) لم يشكّل معضلة جوهريّة عند أجيالٍ كاملة لم تعرف معنى وجود حياة سياسيّة بالحد الأدنى في البلاد واعتادت على التصحّر السياسي، لكن المعارضة السوريّة لم تهتم إطلاقاً في أن يشمل خطابها كلّ هذه المسائل الحيويّة. اﻻستبداد السياسي هو جزء من كل، هو جانب من طبيعة ﻻ عقلانيّة في طغيانها لنظامٍ يشكّل استعباد البلاد اقتصاديّاً رافداً حيوياً له وعاملاً لصناعة الولاء قد يفوق في أهميّته عامل الاستبداد السياسي والقمع، ولهذا اﻻستعباد الاقتصادي توابع اجتماعيّة شديدة الخطورة يعيشها الشعب السوري بشكل خاص في السنوات الأخيرة، وستستمر ويلاتها لسنوات عديدة. هناك إشارات واضحة، على سبيل المثال، عن علاقة تناسب طردي بين تردّي الأوضاع الاقتصاديّة- الاجتماعيّة في السنوات الأخيرة وارتفاع معدلات الجريمة والأمراض النفسيّة وحتّى في تضاعف حالات الانتحار بين فئات الشباب بشكل خاص. هذا كي ﻻ نتحدّث عن تكرار حالات الموت غرقاً لشبان حاولوا الوصول للدول المجاورة.  أين خطاب المعارضة السوريّة من هموم الشعب السوري اﻻقتصاديّة- اﻻجتماعيّة؟ أﻻ يخجل عضو مجلس وطني، على سبيل المثال، من الظهور بشكل متكرر على شاشات التلفزة والقول (مخطئاً) أن واردات النفط لا تدخل في الموازنة السنويّة للحكومة بل تذهب مباشرةً إلى جيوب العائلة الحاكمة؟ أﻻ يدل هذا الكلام عن جهل مطبق وعدم إلمام بأسباب معاناة الشعب السوري الأساسيّة؟

قد لا يعلم القارئ غير السوري (وبعض السوريين) أن حالة النزوح المأساوي التي يعيشها اليوم أكثر من مليون سوري (حسب تقديرات الأمم المتحدة) نتيجة الهجمات العسكرية والقصف لم تكن الأولى في حجمها في زمن هذا النظام، بل لم تكن الأولى في السنوات الخمس الأخيرة. أتحدّث عن كارثة انهيار القطاع الزراعي في منطقة الجزيرة السوريّة (الرقة- الحسكة- دير الزور) حيث أدّى سوء التخطيط والإدارة والفساد إلى مسح مصدر رزق 1,3 مليون نسمة (من أصل خمس ملايين مواطن تقريباً في المحافظات الثلاث) ووضع أكثر من ثمانمئة ألف نسمة منهم في حالة “فقر مدقع” حسب تعبير وكالات الأمم المتحدة. من بين هؤﻻء يتكفّل برنامج الغذاء العالمي بإطعام (نعم، إطعام!) 190 ألف نسمة، في حين يحتاج 110 آلاف آخرون حصص غذائية مساعِدة، وأدت هذه الكارثة إلى تهجير مئات الآلاف من السكان (بين 50-80 ألف عائلة عام 2010 وحده، حسب تقديرات الحكومة السورية والأمم المتحدة) يعيشون اليوم في أحزمة الفقر في المدن الكبرى وفي مخيّمات تفتقر لكلّ مقوّمات الحياة وﻻ يأتيها من الدعم والمعونة إﻻ النذر اليسير الذي تطوّع بعض الشباب والشابات لتقديمه لهم. أغلب هؤﻻء الشباب، يا للمصادفة، اعتُقل من قبل أجهزة النظام الأمنيّة خلال العام الأخير.

لم يكن الجفاف وشحّ الأمطار سبب هذه الكارثة وبهذا الحجم، بل أن إدارة القطاع الزراعي في المنطقة، والتي تميّزت برداءتها وفسادها، أدّت إلى إنفاق أكثر من 15 مليار دوﻻر خلال عقدين على أنظمة ري غير مجدية وغير صالحة لواقعنا الجغرافي والمناخي، أنظمة ري ساهمت في تعزيز حالة الزبائنيّة والولاء الفاسد في تمييزها للأراضي حسب نفوذ وسطوة أصحابها، وساهمت أيضاً في ترسيخ البنية العشائرية لريف الجزيرة بأسوأ أشكالها باستدعائها نفوذ رؤوس هذه البنى العشائرية عن طريق استفادة هؤﻻء من توزيع الأراضي “الصالحة للزراعة” عليهم، ثم جاء القرار القراقوشي برفع أسعار المحروقات أربعة أضعاف مرّة واحدة دون تقديم بديل عملي ومنطقي قابل للتحقيق ليسدد طلقة (الرحمة؟) على رأس القطاع الزراعي في شرقي البلاد.

رغم حجم الكارثة في السنوات الثلاث الأخيرة، تميّزت موازنات “اقتصاد السوق الاجتماعي” بقصقصة اهتمامها بالزراعة عاماً بعد عام. هكذا، أصبحت سوريا، سلّة غلال العالم القديم، تقبل نصف مليون طن من القمح “هديّة” من الإمارات العربيّة المتحدة. لا يبدو في هذه الحالات أن النظام يكترث لـ “السيادة الوطنيّة” أو حتى لـ”الكرامة الوطنيّة”. السيادة الوطنيّة فقط تُستدعى حين يُراد قمع وقتل المواطنين دون أن يتدخّل أحد أو يحتج.

ليبحث القارئ عن إشارة، ولو عابرة، لهذه الكارثة الإنسانيّة في مواقع كبرى هيئات المعارضة السوريّة على اﻻنترنت.. لم يسمعوا بها، أو لم يهتموا. ﻻ أدري أيّ التفسيرين أسوأ.

بطبيعة الأحوال لم تكن مأساة الجزيرة السوريّة عزفاً منفرداً في سياسة النظام السوري الإفقاريّة، سياسياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً، بل أتت منسجمة مع تتالي المآسي الاقتصادية- الاجتماعيّة التي عاناها الشعب السوري في ظل إدارة الاستبداد الشامل، خاصة بعد انعطاف النظام، عام 2005، نحو “اقتصاد السوق اﻻجتماعي”، والذي لم يكن إﻻ منعطفاً نيوليبرالياً مشوّهاً يسمح للثروات التي كُدّست خلال العقود السابقة من الفساد والنهب المنهجي للدولة والشعب بالظهور كنتاج العبقرية الاقتصاديّة لروّاد أعمالٍ جلّهم، يا للمصادفة، من أبناء وأشقاء ضباط الأمن والجيش والمتنفذين في السلطة والحكم. رامي مخلوف قد يكون أكثرهم وحشيّة وظهوراً، ولذلك كان هدفاً سريعاً للمتظاهرين والمحتجين، لكنه لم يكن وحيداً، بل كان جوهرة التاج لشبكة من العلاقات اﻻقتصاديّة والسياسيّة الفاحشة الفساد، والتي كانت تستخدم الحكومة كمجرد أداة لشرعنة فسادها عن طريق إطلاق قوانين ومراسيم مكتوبة على مقاسهم. هذه الحكومة، التابعة للنظام الممانع جداً للنفوذ اﻻمبريالي، كانت تتلقى ببالغ السرور نصائح وتوجيهات من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ووصلت الوقاحة بهم إلى دراسة مقترح من البنك العالمي بتخفيض الرواتب التقاعدية للعاملين في الدولة، وهي رواتب شحيحة أصلاً.

إن أردنا قراءة بعض المعلومات الخاصة بالشهور العشرين السابقة لاندلاع الثورة السورية سنجد مثلاً أن الحكومة السورية اعترفت في تلك الفترة أن هناك 115 منطقة مخالفات في محافظات دمشق، ريف دمشق وحلب، ويقيم في مناطق المخالفات هذه ما يعادل 30-40% من السكان، وأننا إن جمعنا عدد سكان العشوائيات في سوريا فسنجد أنهم يتجاوزون 8 مليون نسمة. في هذا الوقت أيضاً وصل معدّل البطالة في أوساط الشريحة العمريّة الأدنى من 30 عاماً إلى 48%، وقُدّر أن ما بين 30-40% من خريجي الجامعات السوريّة العاملين ﻻ يعملون في مجال اختصاصهم. في هذه الفترة نجد أيضاً أن 33,6 % من المواطنين السوريين يعيشون تحت خط الفقر. في تلك الفترة لم يكن الاقتصاد السوري منكمشاً كما هو الآن، بل كان ينمو بما ﻻ يقل عن 3% (ﻻ نعرف الرقم الحقيقي ﻷن هناك اتهامات متبادلة بين أركان النظام بالتلاعب بنسب النمو الحقيقي). لكن الهوّة بين الأغنياء كانت تكبر بنفس تسارع انهيار البقيّة الباقية مما كان يوماً يُسمّى “طبقة وسطى”.

عام 2010، أي العام الذي حُطمت فيه الأرقام القياسية في تردّي الأوضاع اﻻقتصادية لعموم السوريين، أخبر صاحب أحد معارض السيارات بجانب دمشق صحافيّة تعمل لصالح الإذاعة الوطنية الأمريكية أنه باع خلال الشهور التسع الأولى من العام أكثر من 70 سيارة بورش. لمن باعها؟ السوريون يعرفون هذا الجواب، وﻻ يستغربنّ القارئ أن يجد بعضاً من هذه السيارات الفخمة وهي تحمل لوحات الجيش والشرطة أو الأجهزة الأمنية، وبالتأكيد لن تغيب ملصقات الولاء الأعمى عن زجاج أغلبها.

هل يعلم القارئ أنه في نفس الحقبة الزمنية التي كدّس فيها رامي مخلوف ثروته (59 مليار ليرة سوريّة داخل سوريا، حسب ما يُعترف به في وسائل الإعلام المرضي عنها) وغيره من عشرات “روّاد الأعمال”، حوكم صحفيّون وناشطون بتهمة “مقاومة النظام اﻻشتراكي”؟ وجاء بشار الجعفري ليتحدث بعدها عن “أوليغارشيّة” الأنظمة العربيّة الأخرى، جاعلاً الهزل يسخر من نفسه؟

المفارقة في الموضوع أن النظام نفسه يعترف بهذا الحجم والكم من الفساد، وإن أرجعه زبائنه من الإعلاميين إلى ثقافة الفساد الموجودة في الشعب! أي أن هذا الشعب، الذي يعاني الفقر المدقع المشار إليه أعلاه في الأرقام، هو الذي أفسد ذمم وأخلاق هؤﻻء الحكام النزيهين والورعين في الأصل. ﻻ يبرئ النظام نفسه من صورةٍ تشير إحصائية استشعار الفساد لمنظمة الشفافيّة الدوليّة إلى جزءٍ منها، حين تضع سوريا في المرتبة 129 من أصل 180 دولة، ويقدّم النظام أحياناً بعض المسؤولين المتوسطين الذين انتهت صلاحيتهم أو غُضب عليهم وقوداً لـ”فضائح” تحت السيطرة في الإعلام المدجّن، وكمثال على ذلك نذكر حالة رئيس الضابطة الجمركية حسن مخلوف، الذي كان يمتلك، حين فُصل من عمله وحوكم بتهمة الفساد، 137 عقاراً. وهذه الفضائح الخلّبية التي يريد النظام بها إعطاء صورةٍ لنفسه كمكافحٍ للفساد ليست إﻻ إهانة لعقول ومشاعر السوريين، الذين يعرفون ويعانون امتلاك هذا النظام لأجهزة أمنية تحصي على المواطن أنفاسه، فكيف أرادنا أن نصدّق أن هذه اﻻمبراطوريات الماليّة الكبرى قد بُنيت على غفلة منه؟ هذه الحركات الاعلامية ليست إﻻ تعبيراً آخر عن احتقار هذا النظام لشعبه ولعقولهم.

لا يعاني السوريون من انعدام أي رادع أخلاقي لدى النظام تجاه الفساد المالي أو أيّ أنواع أخرى من الفساد، وإنما أيضاً تجاه عدم إحساس كامل بما يستفز الناس، وإن حتى كقراءة سياسيّة لتوابع هذا اﻻستفزاز وضررها عليه، وكمثال على ذلك نذكر عرض وزير الاقتصاد السوري صور فيلته البالغة الفخامة في إحدى ضواحي حلب المخمليّة على صفحته في الفيسبوك (الصورة أعلاه)  في الوقت الذي يعاني سكان بعض أحياء حمص تبعات سوء تغذية شبيه بما يُشاهد في أفريقيا الوسطى!

السؤال الواجب عند هذه النقطة هو: أين خطاب وعمل المعارضة السورية من كلّ هذا؟ لماذا تُهادن النظام في الساحة الداخلية، حيث ﻻ يجرؤ مؤيدوه على تبريره حتى، وتلاحقه فقط وراء تحالفاته وعلاقاته الدوليّة، وهي بالنهاية حمّالة أوجه؟ أﻻ تشعر المعارضة، بمختلف أركانها، أن خطابها قاصر وﻻ يصل إلى غالبيّة السكان؟ وأن من انتفض اليوم لم ينتفض كرمى لخطاب المعارضة، ومن لم ينتفض لديه أسبابه لعدم الثقة بمعارضة ﻻ خطاب لديها يخصّه؟ أﻻ تشعر بأن كراهية النظام ﻻ تعني بالتعريف تأييداً لها طالما ﻻ يتحسس الناس وعياً لمآسيهم وآلامهم في الخطاب؟ ﻻ يعيش النظام فقط بالاستبداد السياسي والقمع، بل أن منظومة الإفقار والنهب الممنهج تكفل له شبكة علاقات ووﻻءات داخلية تعينه على شعبه، وبالتالي ﻻ يمكن إهمال هذه المنظومة الإفقاريّة وﻻ يمكن تجاهل آثارها اﻻقتصادية- اﻻجتماعيّة على عموم الشعب السوري.

إنها، أكرر، ثورة فقراء، ولن تنجح في التغلب على مشاكلها الذاتية وعلى خصمها اللدود إن لم تتبلور قيادة سياسيّة معارضة تتعامل معها على أنها ثورة فقراء وتعمل من داخلها إلى داخلها. هل تعي المعارضة السوريّة ذلك؟

..

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى