صفحات المستقبل

حضرت ولم أجدكم


ورد العاصي

“دير الزور- 10 كم.” آخر لوحة تشير إلى المسافة المتبقية للوصول إلى هذه المدينة وسأدرك سريعاً أنها الشيء الوحيد الذي لم يطاله الدمار. أنزلني الباص قبل حدود المدينة بكيلو متر ونصف. دخلت مشياً على الأقدام عبر الشوارع الفرعية. كلما تقدمت متراً، ظننت أنني أتوجه نحو مكان لا أعرفه .لا يشبه أي شيء دير الزور، مدينتي التي أعرفها جيدا. الكثير من الأبنية محترقة أو متضررة. الشوارع الرئيسية وبعض من الشوارع الفرعية مليئة بالدبابات وهياكل السيارات المحترقة، فوارغ الرصاص، وأنقاض الأبنية المهدمة وعشرات الحواجز.

بعد تفتيشي بدقة على حاجز للجيش، حملت حقيبتي على كتفي ومشيت في شوارعي الغريبة، المدينة موحشة والحزن والخوف يلفان المشهد بأكمله. تجاوزت عدة حواجز وأنا لا أصدق ما أراه، فقبل ثلاثة أشهر كنت هنا. ماذا حصل؟ حركة المارة تكاد تكون معدومة باستثناء من يسلك الطريق ذاته من ركاب الباص. ما من وجود لسيارات أو باصات إلا ما يخص الأمن والجيش. الدكاكين أغلبها مدمر أو سرقت محتوياته. يسيطر الجيش النظامي على مداخل الشوارع الرئيسية للمدينة، أما الأحياء، فهي محررة إلا من القناصة.

تركت الحاجز الأخير للجيش النظامي ورائي ودخلت إلى الحي المجاور لحيّنا، فلن أستطيع الوصول إلى بيتي إلا من خلاله. فالأحياء أصبحت مقطعة الأوصال بسواتر ترابية وهياكل معدنية وبقايا البيوت، لم يبقَ جدار في المدينة لا يحمل كتابةً أو رسماً أو آثار رصاص. تتكوّن الحواجز من بقايا جدران وأبواب سيارات وبعض من أثاث المنازل. أما الأعلام المرفوعة، على الحواجز فهي إما للجيش الحر أو للجيش النظامي.

الكثير من الشباب على مداخل الأحياء ملثمون بأعلام الإستقلال. البعض منهم أطلق شعره وذقنه ويحمل أسلحة خفيفة فأصبحوا ليسوا هم. حالة العسكرة حولتهم إلى اشخاص أكثر قسوة ربما، فهم كانوا طلاباً وخريجي جامعات وأناساً مدنيين والآن هم فقط عسكر.

بعد ان أوقفوني، عرّفت عن نفسي. عرفني شخص منهم، وكان هو الآخر ملثماً، قبّلني وقال لي: “لا تقلق، حماية الأحياء جزء من مهامنا.” لم أستطع التعرف إليه، خمنت أنه قد يكون فلاناً أو فلاناً، فصوته تعثر بلثامه ولم يكن واضحاً. نادى على طفل كان يقف على أحد الأبواب وقال له: “خذه إلى الشارع الخلفي، ودع (فلاناً) يوصله إلى حيه.”

جاء الطفل وكان تقريباً في العاشرة من عمره، صبي ذو شعر أسود فاحم ووجه متسخ. حدثني قليلاً ونحن في الطريق عن المدينة في الأيام الخمسة الماضية. لخّص لي من وجهة نظره كيف قام الجيش النظامي بتدمير البلد، وأنه لن يقاتل الآن مع شباب الجيش الحر لأنه صغير، ولم يتمنَ أن يكون كبيراً أبداً. أخبرني عن شقيقيه اللذين استشهدا في صفوف الجيش الحر، وعن جاره الذي قطعت ساقه، قال لي: “أحب أن أموت وأنا في المنزل مع أمي وأختي الصغيرة، لاأريد أن أموت وحيداً.”

سألته عن عدد الأطفال المتبقين في الحي، فأجابني: “نحن هنا إثنا عشر فتىً وخمس فتيات، ومن المحتمل مغادرة عائلة أبو عبدو اليوم أو غداً وسينقص عددنا ثلاثة،” وضحك. خلال حديثنا عن الأطفال المتبقين في الحي سألته: “ماذا تلعبون، أنت وأصدقاؤك في الحي؟”

صمت ولم يجبني. أشار بيده ألا نقطع الشارع لأنه خطير وأن نتجه يساراً عوضاً عن ذلك: “لقد رموا فيه اليوم عدة قذائف.” كان يجيبني باقتضاب كل ما سألته عن أهل الحي بأسمائهم وأين أصبحوا. قال باختصار: “نحن هنا إحدى عشرة عائلة فقط.” ألقى التحية على شخص ملثم يقف عند زاوية الحي وقال له: “رح وصل الشب وإرجعلك، هذا إبن عم صديقي.”

وصلنا إلى الشارع الخلفي، سلمني للشاب وأوصاه أن يهتم بإيصالي إلى الحي الذي أسكن فيه. توقفت قليلاً أنظر إلى أعمدة الكهرباء المكسورة، إلى الأبنية الموحشة، والآثار الفاضحة للقذائف والرصاص على واجهات البيوت. لم يقاطعني الشاب وظل ينظر إليّ ويشير إلى أماكن أكثر دماراً. قلت له: “أنا أعرف الحي جيداً فلا داعي لاصطحابي.” رأيت عينيه تصغران من خلال اللثام ولم أفهم إن كان غضب أم ابتسم.

مشى أمامي، وقال: “القناصة كثر ونحن نعرف أماكنهم لذلك عليّ أخذك.” وصلنا إلى الشارع الفاصل بين الحيّين وقال: “أركض بسرعة إلى الطرف الآخر وانتبه للحجارة، الله معك!” ركضت ودخلت حارتي التي ولدت بها، شعرت في هذه اللحظة كأنني أولد من جديد، ولكن هذه المرة ولدت في الدمار.

ليس مكان سكني هذا الذي أرى، هي ملامحه وقسماته لكنه مكان آخر. سمعت صوتاً يناديني باسمي. لم ألتفت إليه، بقيت عيناي مسمرتين على بيتي. لقد اخترقت قذيفة الغرفة التي ولدت فيها. نظرت حولي إلى بيوت الحي؛ غالبيتها متضررة، والبعض منها مهدم بالكامل. لازال الرجل يناديني، وأخذ يقترب مني. وضع ذلك الرجل الملثم يده على كتفي قبّل رأسي. لقد عرفته، إنه إبن عمتي. أخذني من يدي ودخلنا إلى البيت. وجدت أبي وعمتي وزوجها، أما باقي أعمامي وأمي وأخي وأخوالي فقد غادروا المدينة. جلست معهم ولم يكن لدي الجرأة لسؤالهم عن حالهم. فالمدينة تحكي حكاية كل من بقي فيها. لم يكن موضوع انقطاع الماء أو الكهرباء أو العيش لمدة يومين- وأحياناً أكثر – بدون طعام بالأمر الجلل. كل هذا صار اعتيادياً، لكن مشهد المدينة المدمرة لم يصبح اعتيادياً — بكوها كما بكوا من مات منها.

خرجت من البيت محملاً بحزني وأحزانهم، رحت أطوف في الحي. الكثير من البيوت مهجورة وباقي البيوت يسكنها شخص أو اثنان من العائلة وأغلبهم شباب. لا توجد دكاكين والإمدادات الغذائية تصل عبر هيئات الإغاثة المدنية والجيش الحر. طفت بين الركام والذكريات. إستشهد من حيّنا تسعة وأربعون شاباً، وعائلة بأكملها، وهُجّر الحي بأكمله تقريباً.

لم أشأ أن أظهر خيبتي وحزني للشبان الذين التقيتهم في طريقي، فحديثهم معي عن إعادة إعمار المدينة، والأمل بعودة الحياة قريباً إلى مدنيتها منحني نفساً جديداً للحياة. لقد سئموا السلاح والدماء.

لم يبقَ من مدينتي إلا النهر- نهر الفرات – وجهتي الأخيرة. طلبت من أحد الشباب مرافقتي إلى النهر. قال لي: “طريق النهر مليء بالقناصة ومن المستحيل الوصول إلى هناك.”

مر الوقت سريعاً وبدأت وتيرة الإشتباكات الليلية بالتصاعد. أمضيت الساعات الأخيرة في دير الزور مع والدي. حاولت كثيراً إقناعه بالخروج من المدينة، لكن عبثاً. قال مبتسماً: “لا تحاول بنيًّ، لن أغادر دير الزور.”

غادرت مع طلوع الفجر، وأصوات القنابل تهز المكان. نعم لقد عدت إلى مدينتي، لكنني لم أجدها ولم أجدكم، لم أجد أحداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى