الـ”فايسبوك” وعبود سعيد
رامي الأمين
حسناً دعوني أكون صريحاً. دخول الـ”فايسبوك” من دون التعرف إلى عبود سعيد أشبه بالذهاب إلى باريس من دون زيارة برج إيفل. طبعاً، من يقرأ الآن هذه السطور، سيقول في سرّه: “ومن هو عبود سعيد هذا”، وقد يتوقف عن اكمال القراءة اعتراضاً على هذه المقاربة التي لا تخلو من الشخصنة لموضوع الـ”فايسبوك”. آخر همّي. لا تكمل القراءة إذا كنت لا تريد أن تؤمن بعبود سعيد واحداً من رموز الـ”فايسبوك”. ابق على تقليديتك، وتفرج على صور الأهرامات، أو برج بيزا المائل، أو في أحسن الأحوال، فتّش في المواقع الإباحية عن صور نساء عاريات. أنا أقول لك إن ذلك ربما يكون أكثر فائدة لك. لكني سأكمل الكتابة عن عبود سعيد. لأنه حالة يستحق المرء أن يكتب عنها، ولأنه طلب مني أن أكتب عنه، وعاتبني لأنني لم أدخله في شخصيات كتابي “معشر الفسابكة” الذي تناول الـ”فايسبوك” وأحواله وقومه المفسبكين. ها أنا أحاول أن أكتسب رضاه، مستغلاً الناشر والجريدة والقراء، ولا أبالي. في الغالب، إذا كان الناشر منطقياً، سيمنع عني نشر هذه المقالة، لكنني سأكون قد أديت قسطي للعلى، وأتممت ربع ديني. مع أنني لا اؤمن بالأديان، ولا دين لي. أعرف أن نصف الدين هو الزواج، ولا أعرف ما يكون ربعه، ولا كلّه. هذا كلام بلا معنى وبلا طعم. ما أريد قوله إن “الحب ديني وإيماني” على ما يقول إبن عربي. وأنا أحب هذا الرجل، عبود سعيد، مع أنني لا أعرفه، ولم ألتق به يوماً، لكنه صديق فايسبوكي، أعرفه ويعرفني افتراضياً، أقرأ له يومياً، ويستفزني كما لم يستفزني أحد من قبل. واستفزازه لي مردّه إلى قدرته الهائلة على السخرية والتحطيم والتفكيك، وتفتيت الواقع كما يفتت طاغية عظام معارضيه.
أنا صريح للغاية. الـ”فايسبوك” من دون عبود سعيد، مثل الحمّام بلا ماء. أو تقريباً شيء من هذا القبيل. أعني أنه ضرورة حقيقية لهذا الموقع. طبعاً هناك حقيقة سأصارحكم بها، وهي أنني أجد الـ”فايسبوك” احياناً مثل الحمّام، وهو وسيلة للهرب، كما صوّرها صديقي الشاعر والفيلسوف زكي بيضون حينما أعلن أنه يوماً ما “سأدخل الحمّام وأقفل الباب جيداً على نفسي، بحيث أسجن العالم كله خارج الحمّام”. هذا تماماً ما يحدث معنا حينما ندخل الـ”فايسبوك”. نقفل الباب على أنفسنا. نسجن العالم كله خارج الـ”فايسبوك”، لكننا في الآن عينه نفطس من الرائحة. أو بأسلوب أكثر تهذيباً، نسجن أنفسنا خارج الواقع، لكن في مكان أكثر اكتظاظاً وقرفاً وتعقيداً، أي الافتراض. صدّقوني، بعد تجربة طويلة في عالم الـ”فايسبوك”، الذي تقول زوجتي إنني نلت درجة دكتوراه فيه، توصلت إلى أن الواقع أفضل من الإفتراض. وأنا الآن أفكر جدياً في الهرب من الإفتراض إلى الواقع، وحاولت مراراً (لا تخبروا الحرّاس) لكنني فشلت. فدخول الـ”فايسبوك” ليس كالخروج منه. وها أنا أعود مجدداً إلى قصة الحمّام.
دعكم من هذا كلّه. عليكم، إذا دخلتم إلى الـ”فايسبوك”، أن تطلبوا صداقة عبود سعيد. يكتب اسمه هكذا Aboud Saeed. قد لا يقبل طلب صداقتكم، وحينها سيكون حظكم تعيساً. لكنه قد يقبل، وهنا تكون أبواب الـ”فايسبوك” قد فتحت لكم على مصاريعها. عبود، كما ستتعرفون إليه عبر الـ”فايسبوك”، حدّاد افرنجي، من مدينة منبج في سوريا، عمل لسنوات في لبنان، واختبر العنصرية اللبنانية المقيتة، وقرف المعاملة الصلفة من اللبنانيين للعمال السوريين، وهو شاعر من الطراز النادر، شاعر بالفطرة، يكتب كما يتكلم، بقسوة لا مثيل لها، وبصدق مخيف. من كان منكم كاذباً أنصحه أن لا يقرأ. قد يتأذى من فائض الصدق لدى عبود سعيد. هذا الصدق الزائد، أخو الناقص، فقد يكون فعلياً كذباً خالصاً، لكنه ذلك الكذب الذي لا تستطيع إلا أن تصدّقه، ولا تصدّق أنه كذب، حتى لو اعترف صاحبه بكذبه. هذا نموذج من الشعر الذي يكتبه عبود سعيد على الـ”فايسبوك”:
“لم أكن في الحمّام
ولم يكن هنالك ضيوف
ولم أتكلم على الهاتف
وأمّي لم تنادني
وأخي الصغير ما كان يبكي
ولم يكن هنالك قصف
ولم ينقطع التيار الكهربائي
والانترنت لم تنقطع
وما كنتُ أتناول العشاء
كنتُ أخونكِ”.
يخونكم عبود سعيد. ويخون الـ”فايسبوك”. ويخون الواقع. ثم يخون الإفتراض. يعيش في الخيانة الصادقة والحقيقية والجميلة. ولكثرة خياناته، أظنه عميلاً استخبارياً لدى مارك زوكربرغ مؤسس الـ”فايسبوك” (لذا أخشاه، ولذا أكتب عنه، لأتفادى المشاكل مع إدارة الموقع). وهو يدعو نفسه بالمعلّم، نظراً لإتقانه مهنة الحدادة الفرنجية، وأنا أعتبره معلّم المعلّمين في الـ”فايسبوك”، وهو ملك اللايك، وقاهر النساء (افتراضياً)، أما واقعياً، فهو مقهور، يضرب رأسه بالحائط. هو مثال الوهم، الذي يخترع وهماً، ثم يقتنع بالوهم، حتى يظنه واقعاً، ثم يستيقظ منه، ليجده وهماً… من جديد. حلقة مفرغة من الوهم المخلوط بالواقع، الذي يعطينا صورة “منطقية” عن الـ”فايسبوك”، هذا إذا كان “المنطق” يصحّ في تناول ما هو غير منطقي البتة.
عبود سعيد يشكل جزءاً من وهمي على الـ”فايسبوك”. وعدته في دردشة، انه اذا انتصرت الثورة السورية وسقط نظام بشار الأسد، سأزوره في منبج وأتعرف إلى والدته الأمّية التي يذكرها كثيراً في كتاباته الـ”فايسبوكية”. منذ فترة انقطعت اخباره لمدة طويلة بعد بدء النظام غاراته الجوية على حلب. تهامس الفسابكة أخباراً متضاربة عن عبود سعيد. بعضهم قال إنه مات، بعضهم قال إنه خرج من الـ”فايسبوك”، بعضهم قال إن الإنترنت مقطوعة. أنا كنت أكيداً أن الوهم وهم، وأن عبود سيعود، وعاد ليبقى وهماً كما كان، وهم لن تبدده التكنولوجيا، بل سيبدده سقوط النظام البعثي، حينها، سأصافح عبود سعيد في منبج، وقد أقرصه لأتأكد أنه ليس سراباً، ولا مجرد صديق افتراضي”فايسبوكي”.
النهار