الفصل بين السلطات ..
سليمان تقي الدين
في أساس الديموقراطية الفصل بين السلطات. ألغت الطبقة السياسية النظام الديموقراطي عن طريق تداخل السلطتين التشريعية والتنفيذية ودمجهما واستتباع السلطة القضائية. كأنما معركة عروبة لبنان انتهت إلى تعريب نظامه السياسي حيث صار نسخة معدّلة عن دكتاتورية متعددة الرؤوس. نظام «الترويكا» الذي نشأ بعد «الطائف» هو الذي يؤدي إلى أزمة الحكم التي يتداخل فيها النزاع على السلطة مع الانقسام السياسي المرتبط بالوضع الإقليمي.
لا تتشكّل الحكومة لأن القوى السياسية تريدها صورة مصغّرة عن البرلمان. ليس هذا هو النظام البرلماني الذي نص عليه الدستور. على الحكومة أن تتشكّل كفريق سياسي منسجم وتحكم تحت سلطة المساءلة والمحاسبة من البرلمان على أن تراعي المكوّنات الطائفية بما لا يضر بالنظام العام ومصلحة الدولة والمجتمع. إذا كانت الحكومة أكثرية فلا يعني ذلك المحاصصة. لقد آن أن تتوقف هذه التقاليد البلطجية على الحياة البرلمانية وإلا صرنا في نظام أولغارشي فيدرالي ينزع إلى تقسيم الدولة والمجتمع، ونحن واقعياً كذلك بما يناقض الدستور منذ عقدين.
على أي حال هذا جزء من المشكلة، لأن الأزمة مستمرة بحكومة أو من دونها في ظل غياب الحاضنة العربية والتجاذب بين المرجعيتين المتحكّمتين. يقود الطرف السعودي «الثورة المضادة» لمحاصرة التداعيات الإيجابية التي أحدثتها ثورة مصر على المناخ العربي. أما الطرف السوري فلم يحسم بعد موقعه حيال المتغيّرات التي ستعيد تشكيل النظام العربي. نحن في لحظة «الصراع على سوريا» مجدداً بعد أن كان الصراع معها. انتقل المشروع الغربي من المواجهة الشاملة إلى إدارة التناقضات العربية لتطويع الدول والشعوب وإعادة احتواء المنطقة باستغلال تناقضاتها وضعف شرعية دولها وأنظمتها. ليس المطلب الديموقراطي الآن، أكان يخص شعباً أو فئات تشعر بالغبن أو التهميش، «تبشيراً غربياً» بل هو شرط للحفاظ على الوحدة الوطنية أو إعادة صياغة ملائمة لها لتجديد الدولة ولمواجهة التحديات الخارجية.
لم يعد الاستقرار في المجتمعات العربية نتيجة محصورة بقوة السلطة والأمن. يحتاج الاستقرار إلى بناء دولة حديثة تستمد شرعيتها من الشعب لا من إيديولوجية دينية أو قومية. بديهي أن تختلف الدول في حساباتها لظاهرة الحراك العربي، لكن الحراك تجاوز إمكانات السيطرة بالوسائل نفسها لنصف قرن من الركود والضبط والاختزال. لقد أنتجت سياسات الأمن عنفاً مكبوتاً معنوياً ومادياً تجذر في بيئات ثقافية تقليدية لم يسمح لها بالانفتاح الحر على الحداثة. من أبرز مظاهر فشلنا في المشروع النهضوي العربي بوجه عام أن لغتنا السياسية تراجعت بفعل التأخر التاريخي إلى مستوى لغة الفتن والنزاعات الطائفية والمذهبية والجهوية والإثنية. لا يحل هذه المشكلة التجميل اللفظي ولا التأويل اللغوي ولا إسقاط المفاهيم والتسميات غير المطابقة.
ما زلنا نطرح إشكالية الهوية لأن أساسها السياسي والاجتماعي والثقافي ضعيف وليس لأننا لا نملك بالفطرة الاستعداد للتقدم والحداثة. صارت مسألة الهوية كيانية وجودية بسبب النقص في الاندماج الوطني في ظل الدولة القطرية. ينطبق الأمر على لبنان وعلى سائر البلدان العربية بتفاوت في المعطيات التاريخية وفي الحياة السياسية العربية. فشلت المنظومة العربية في إقامة الدولة الحديثة لأنها أقامت الإيديولوجيا مكان الواقع، والدولة مكان المجتمع، والنظام مكان الدولة. إذا كان من إنجاز راهن للحراك العربي فهو هذا المتغيّر في الثقافة السياسية مهما خالطها من تشوّهات ناتجة عن مؤثرات ضاغطة من القوى الدولية الساعية لاستيعاب التطور السياسي في مصلحتها.
السفير