الفنان السوري فادي يازجي يسحقنا بمكعب شقائه/ فاروق يوسف
هل يحتاج الفنان السوري فادي يازجي (اللاذقية 1966) إلى أن يستعير أشكالاً تعبيرية محايدة ليكشف من خلالها عن تجليات الضنى اليومي الذي يعيشه السوريون في ظل حرب صار عبثها يلتهم الجزء الأكبر من حقيقتها؟
في آخر أعماله النحتية وهو الذي يمارس الرسم بتفرد أيضاً يستعير يازجي المكعب ليجعل منه محور الصلة المتخيل بين كائنات مستلبة الارادة، صار يجهل بعضها البعض الآخر، بتأثير مباشر من طريقتها في التعامل مع الحرب، باعتبارها هي الآخرى مسرحاً لحياة، يمكن أن تُظهر مراياها أشكالاً متعددة لفعل لا ارادي هو في حقيقته محاولة للنجاة من الصورة الأخيرة القاتمة للحرب. وهي الصورة التي يود الكثيرون أن يتفادوا النظر إليها. فالحرب هي ذلك المكعب الذي يبدو في حالة تدحرج مستمر. وهو ما يعني أنه سيسحق إن استمر في تدحرجه جميع العالقين به. لن ينجو أحد منهم. سلسلة المشاهد النحتية التي يتابعها يازجي كما لو أنه يصنع شريطاً مصوراً تجعلنا على يقين من أن مُن كان يلعب لاهياً على السطح الاعلى من المكعب سيجد نفسه في أية لحظة انتقل مستسلماً إلى المكان الاسفل الذي لن يكون فيه سوى ضحية للعبة التي استهوته ذاتها. وما من خيار ثالث، ما دامت الحرب هي الحل المثالي لجميع المتورطين فيها. ولأن يازجي لا يستثني أحداً، فقد بدا واضحاً أنه يلقي بمسؤولية الحرب على الجميع.
لن يكون هنا الحديث عن مساواة بين القاتل والضحية مناسباً.
بالنسبة الى فنان يقيم وسط الجحيم مثل يازجي فإن ذلك الحديث لن يكون إلا نوعاً من الإنشاء التجميلي لعبء الصور والافكار الثقيل الذي صار الواقع السوري يرزح تحته. لا يود الفنان هنا أن يقول رأياً سياسياً، بقدر ما يسعى إلى التعبير عن الفجيعة التي لن تكون في كل صورها موقفاً آنياً يمكن تناسيه في اللحظة التالية. الحرب هي الحرب. بالنسبة ليازجي وهو الذي حسم موقفه الايجابي منذ اللحظة الأولى للحراك الشعبي السلمي لم تكن الحرب هي الحل. «ولكنها أخذتنا بأعاصيرها» يمكنه أن يقول. ولكنه وعلى رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات على تحول تلك الحرب إلى واقع عيش يومي لا يزال مصراً على فكرته الأولى التي زادتها الوقائع صلابة «الحرب تهرسنا جميعاً» يمكنه أن يقول بيقين ثابت. ما من شيء هذه المرة يقع في الثنائيات المريضة.
لن يكون فادي يازجي مستعداً للدخول في فرضيات من نوع (مع) أو (ضد). فالفن لا يقبل شروطاً تملى عليه من خارج محيط كفاءته الإنسانية. الفن مع الإنسان الذي يخطئ ويصيب بالقوة نفسها، غير أنه يحرص في الوقت نفسه على الإعلاء من شأن شرطه البشري. أما القتلة والوحوش وقطاع الطرق والبرابرة فلا مكان لهم في الفن. يكفيهم أنهم صنعوا كل شيء. الألم والعذاب واليتم والتشرد والهلع والحرمان والفاقة والخوف والضياع والجزع والأسى والخراب الذي يذكر بهم. «اتركوا لي فسحة تكون فيها الحياة ممكنة لتمارس حقها في الانتقام منا جميعاً». مكعب فادي يازجي يمكنه أن يقول كل شيء عن الحرب، باستثناء الادعاء ببطولتها. لم يكن لديه بطل واحد في كل الكائنات التي ظهرت عالقة بمكعبه وهي تبحث عن فرصتها للنجاة. فحربه لا تنتج أبطالاً. يمكننا ونحن ننظر بإشفاق إلى ما يجري في سورية أن نمضي إلى المعنى المضاد. وهو المعنى الذي يتشرف الفن في أن يحمل رسالته. النبوءة المبكرة التي يصر الكثيرون على اغماض عيونهم دونها. الحرب باعتبارها عدواً لفكرة العيش. ولأن فادي لا يغفل عن تشاؤمه فانه لا يطرح بديلاً. سيكون عليه أن لا يتخلى عن رغبته في أن يرى الجميع في الفن فعل ادانة لما اقترفوه من آثام.
منحوتات يازجي الأخيرة يمكن قراءتها بطرق مختلفة، غير أن تأويلها من خلال نظرة تحصرها في نطاق العدو والصديق يمكن أن تفسدها وتخرجها بعيداً من مقاصدها. هذا فنان جرحته الحرب عميقاً، فصار لا يبحث عن مخرج منها إلا من خلالها، وهو المخرج الذي سيؤدي بالجميع إلى الهلاك. نبوءة يمكنها أن تقول بطريقة أو بأخرى إن سورية إن نجت فستكون أخرى. لن تخرج سورية من حربها الدموية بالياسمين. سيكون زمن الرومانطيقيات قد أنتهى إلى الأبد. سيكون المستقبل ثقيلاً، معبئاً بالرصاص. أهذا ما يود يازجي قوله؟ إنه يصنع فناً من أجل المستقبل.
الحياة